دخلت قطر على خط الوساطة بين جمهوريتَي رواندا والكونغو الديمقراطية، بعد تصاعُد التوترات بين الدولتَين الواقعتَين في شرق ووسط أفريقيا، حيث تتّهم كينشاسا جارتها كيغالي بدعم حركة 23 مارس “إم 23” المصنّفة إرهابية، بالمقابل تتّهم رواندا جارتها الكونغو بالتواطؤ مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وهم متمردون تمركزوا في الكونغو الديمقراطية منذ الإبادة الجماعية عام 1994 في رواندا.
كان من المقرّر أن تستضيف الدوحة قمةً تجمع رئيس رواندا، بول كاغامي، مع رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، بهدف خفض التصعيد بين الجانبَين بما يمهّد لاتفاق سلام ينهي الأزمة، لكنّ تشيسكيدي رفض الحضور في أعقاب قيام القوات الرواندية بإطلاق النار على طائرة عسكرية كونغولية من طراز سوخوي-25، بعدما اتهمتها بخرق المجال الجوي الرواندي.
لكن قطر تعهّدت، وفقًا للمتحدث الرسمي باسم خارجيتها، بـ”بذل جهود إضافية لتقريب وجهات النظر بين الطرفَين”، مشيرًا إلى أن “مساعد وزير الخارجية القطري للشؤون الإقليمية، محمد الخليفي، سيقوم بزيارة كلا البلدَين، إذا استدعت الحاجة لذلك”.
مفاوضات في الدوحة لم يتمَّ الإعلان عنها
الجهود الدبلوماسية التي ألمح إليها متحدث الخارجية القطرية، أكّدها موقع “أفريكا إنتلجنس” الاستخباراتي الفرنسي، الذي أشار في تقرير له إلى أن الجهود القطرية تتم بتنسيق مع الولايات المتحدة لتخفيف التوترات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا في محاولة لإحلال السلام في أفريقيا.
وذكر تقرير الموقع أن الجهود القطرية الأمريكية متواصلة لتسهيل الوساطة الدبلوماسية من أجل الحوار بين رواندا والكونغو، والحد من التوترات بعد اتهامات متبادلة بانتهاك بنود اتفاقية السلام التي تمَّ توقيعها العام الماضي في العاصمة الأنغولية لواندا، إضافة إلى تبادل كينشاسا وكيغالي اللّوم بشأن دعم المتمردين في كلا البلدَين.
وذكر تقرير آخر للخدمة الأفريقية من شبكة “صوت أمريكا”، أن العاصمة القطرية الدوحة شهدت في آخر أسبوعَين من يناير/ كانون الثاني الماضي مفاوضات لم يعلَن عنها رسميًّا بين مسؤولين من كلا البلدَين، وبمشاركة مسؤولين من كينيا والاتحاد الأفريقي، تمهيدًا لتوقيع اتفاق بينهما والعودة إلى الالتزام باتفاقية لواندا، إلا أنه تم تأجيل التوقيع على الاتفاقية لعدم حضور الرئيس الكونغولي.
ما دفع الدوحة –بحسب الوكالة– إلى إجراء مزيد من الاتصالات لجسر الهوة بين الطرفَين، والسعي مجددًا لتنظيم لقاء بين الرئيس الكونغولي ونظيره الرواندي بول كاغام.
ووفقًا لـ”أفريكا إنتلجنس“، فإن الدوحة مستمرة في حشد جهود الوساطة بين كينشاسا وكيغالي، بهدف تشجيع الطرفَين للعودة إلى اتفاقية لواندا، التي تمَّ توقيعها العام الماضي بعد وساطة الرئيس الأنغولي جواو لورنكو.
وتعليقًا على الوساطة القطرية، قال أندرياس كريغ، الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الأمنية في كلية كينجز لندن، للموقع الفرنسي: “تقدم قطر مساعيها الحميدة في محاولة للجمع بين البلدَين، حيث تتمتع الدوحة بعلاقات جيدة للغاية مع كيغالي وترى أفريقيا كشريك مهم للدبلوماسية الدولية والتواصل”.
وتابع مضيفًا: “هذا مثال آخرعلى تقديم قطر لمساعيها الحميدة للجمع بين الأطراف، لوضع نفسها كوسيط مهم في إدارة الأزمات الدولية والدبلوماسية الدولية”.
وزاد كريغ على صفحته بموقع تويتر قائلًا: “من المؤكد أن قطر تنشر حاليًّا أكبر نشاط دبلوماسي لها في أفريقيا.. لقد أصبحت الدوحة العاصمة التي يذهب إليها العالم الأفريقي بأسره”.
“But it is certainly in #Africa that #Qatar is currently deploying its greatest diplomatic activity. Doha has become the capital where the whole African world goes”#Niger #Nigeria #Chad #Rwanda #DRC #Mauritania #Libya https://t.co/Sv5wt4eGPE
— Dr Andreas Krieg (@andreas_krieg) February 4, 2023
ثقة عالمية
يرى موقع “موند أفريك” الفرنسي أن الدبلوماسية القطرية بقيادة وزير الخارجية اللامع، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، نجحت في تثبيت دولة قطر كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال لعب دور رئيسي في المحادثات بين طالبان وإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2020.
وأشار التقرير إلى مشاركة قطر اعتبارًا من 6 فبراير/ شباط الحالي، في مؤتمر في باريس حول مستقبل لبنان، إلى جانب المصريين والإماراتيين بعد استعادة العلاقات بين الدول الثلاث، ويهدف المؤتمر إلى مساعدة بيروت على تجاوز الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي تمرُّ بها.
مهمة صعبة أمام قطر
لفت موقع “موند أفريك” المتخصص في الشأن الأفريقي، إلى أن الدوحة تسعى حاليًّا للوساطة في واحدة من أهم التطورات السياسية في أفريقيا، الصراع بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، وقد وصف الموقع الفرنسي الوساطة القطرية في تلك الأزمة بأنها “ستكون مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة”.
لم يتطرّق الموقع الفرنسي إلى الأسباب التي جعلته يصف مهمة الوساطة القطرية في الصراع الكونغولي-الرواندي بأنها ستكون “صعبة”، لكننا يمكننا أن نُجملها فيما يلي:
1ـ عدم مشاركة حركة 23 مارس “إم 23” في اتفاقية لواندا، التي تعتبرها الدوحة نواةً للاتفاق الجديد المتوقع، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قال المتحدث السياسي باسم الحركة، لورانس كانيوكا، لوكالة “فرانس برس“، إن الحركة ليست معنية بالاتفاقية لأنها لم تشارك في الاجتماعات، وأضاف: “نحن دومًا جاهزون لحوار مباشر مع الحكومة الكونغولية لحل الأسباب المتعمقة للنزاع”.
2- تصاعُد الاتهامات الكونغولية لرواندا: اتهم وزير خارجية الكونغو، كريستوف لوتندولا، رواندا وحركة 23 مارس المتمردة بعدم الالتزام ببنود الاتفاق الذي تمَّ توقيعه في العاصمة الأنغولية، لواندا، إذ أشار لوتندولا إلى أن الحركة المتمردة لم تلتزم بالانسحاب المتفق عليه، في 15 يناير/ كانون الثاني 2023، من المناطق التي تسيطر عليها في شرق الكونغو، من أجل السماح للقوات الإقليمية لمجموعة شرق أفريقيا والقوات الكونغولية بالتمركز في هذه المناطق، كما حذّر لوتندولا من أن بلاده ستتخذ كافة الوسائل بغية الحفاظ على وحدة أراضيها، ما يعنى احتمالية اندلاع حرب شاملة بين البلدَين.
ووجّهت الكونغو كذلك اتهامات حادة للرئيس الرواندي، بول كاغامي، بمحاولة استغلال ملف اللاجئين والنازحين الكونغوليين لأغراض سياسية، وذلك على خلفية إعلان كاغامي مؤخرًا أن بلاده لن تتحمل مزيدًا من اللاجئين الكونغوليين، حيث اعتبرت كينشاسا أن تصريحات الرئيس الرواندي تستهدف صرف انتباه المجتمع الدولي عن تورط كيغالي وحركة 23 مارس المتمردة في انتهاكات شرق الكونغو.
3- اتهامات رواندا للكونغو الديمقراطية بالاستعانة بمرتزقة أجانب: عبّرت رواندا عن إدانتها لاستعانة الكونغو في الصراع الراهن بمَن أسمتهم مرتزقة أجانب (لم توضّح جنسياتهم)، معتبرةً أن هذه التحركات تشكّل إعلان حرب.
4ـ التصعيد العسكري الأخير، والذي تمّت الإشارة إليه سابقًا، إذ أعلنت وزارة الدفاع الرواندية، في 25 يناير/ كانون الثاني 2023، إطلاق النار على مقاتلة كونغولية من طراز سوـ25 بدعوى اختراقها للمجال الجوي الرواندي، فيما لفت المتحدث باسم الحكومة في كيغالي إلى أن هذه تعدّ المرة الثالثة خلال الأشهر الأخيرة الماضية التي يتم فيها اختراق المجال الجوي الرواندي من قبل طائرات كونغولية.
وفي المقابل نفت الكونغو هذه الاتهامات، بل اتهمت رواندا باستهداف طائرة حربية أثناء اتجاهها للهبوط في مطار غوما الدولي داخل أراضي الكونغو، وهو ما اعتبرته عملًا عدوانيًّا متعمّدًا يرقى إلى مرتبة العمل العسكري.
5- مساعي الكونغو للضغط على رواندا وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب في المفاوضات، بعد أن أكّد خبراء مفوّضين من الأمم المتحدة أن الجيش الرواندي نفّذ عمليات عسكرية في شرق جمهورية الكونغو، وقدّم “أسلحة وذخيرة وبزّات عسكرية” إلى حركة “أم 23” المتمرّدة.
أكّد الخبراء في وثيقة أُرسلت إلى مجلس الأمن، أنهم جمعوا “أدلّة جوهرية” تثبت “التدخُّل المباشر لقوات الدفاع الرواندية في أراضي جمهورية الكونغو الديمقراطية”، على الأقل في الفترة الممتدة بين عام 2021 وأكتوبر/ تشرين الأول من عام 2022.
قطر متفائلة بالسلام
رغم تلك الصعوبات التي تمَّ ذكرها بالأعلى، فإن قطر لا تزال متفائلة بإمكانية تحقيق السلام بين كينشاسا وكيغالي، بعد أن طلبت جمهورية الكونغو الديمقراطية “تسهيلات” وفق مصدر دبلوماسي، أوضح أن “الجانبَين اتفقا على البدء بذلك في الدوحة”.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقص الوساطة القطرية هو الاتصال مع حركة 23 مارس، بعد التنسيق مع الحكومة الكونغولية، لأجل أن يكون اتفاق السلام شاملًا يعالج الأزمة من جذورها، هذا إذا لم تكن الدبلوماسية القطرية قد شرعت بالفعل في إجراء اتصالات بالجماعة، فكثير من تحركات الوسطاء لا يتم الإفصاح عنها حتى لا يتم التشويش عليها.
في وقت سابق، لعبت الدوحة دورًا محوريًّا في توقيع اتفاق السلام التشادي في أغسطس/ آب من العام الماضي، بعد أشهر من المحادثات الشاقة بين أكثر من 50 جانبًا، واُعتبر الاتفاق خطوة رئيسية في تسهيل الانتخابات التي طال تأجيلها بعد فترة من الاضطرابات السياسية.
كما تمكّنت قطر بفضل دبلوماسيتها النشطة من تسوية عدة نزاعات في القارة السمراء، من بينها اتفاق عام 2010 بين جيبوتي وإريتريا لتسوية النزاع الحدودي بين البلدَين، وكذلك اتفاق استئناف العلاقات بين الصومال وكينيا في مايو/ أيار 2021، حيث نجحت في إعادة المياه إلى مجاريها بين مقديشو ونيروبي بعد أشهر من توتر العلاقات وقطع كافة العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين.