لا يزال الزلزال المدوي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وامتدت هزاته إلى لبنان ومصر وقبرص واليونان وفلسطين، فجر الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، وبلغت قوته 7.7 درجة على مقياس ريختر، يحتل صدارة الاهتمام العالمي، تلك الكارثة التي أودت بحياة أكثر من 11500 شخص، حتى كتابة تلك السطور، وقرابة 55000 مصاب، فيما شردت الملايين في ظل البرد القارس.
وبحسب البيانات الرسمية بلغ عدد الضحايا في تركيا 8574 شخص، ونحو 49133 مصاب، مقابل 2802 قتيل و5035 مصاب في سوريا، وسط توقعات بزيادة تلك الأعداد بين الساعة والأخرى في ظل استمرار عمليات البحث والتنقيب بين الركام وتحت الأنقاض.
الارتدادات القاسية للكارثة لم تتوقف عند حاجز تلك الأرقام – رغم ضخامتها – فقط، بل تجاوز مداها إلى أكثر من ذلك بكثير، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية التي تخشى أن يصل عدد الضحايا إلى 20 ألف قتيل، وقد قدرت عدد المتضررين من الزلزال بـ23 مليونًا.
وسحب الزلزال الذي يعد الأعنف منذ عشرات السنين البساط من تحت كل الأزمات التي يعانيها المشهد العالمي، حيث انتفضت عشرات الدول من أرجاء المعمورة كافة، – بعضها يعاني من توتر في العلاقات مع أنقرة – معلنة دعمها الكامل للشعبين التركي والسوري، وسارعت بإرسال المساعدات الإغاثية لتعزيز جهود البلدين لانتشال الجثث وإنقاذ العالقين، في مشهد يؤصل لمبدأ انتصار الإنسانية على الخلافات السياسية، وتلاشي دعوات الكراهية والبغض خلف ستائر التضامن الإنساني، حتى إن علقت بأستاره بعض الشوائب.
هبة عربية
كانت الدول العربية هي الأسبق في مضمار المساعدات الدولية المقدمة لتركيا وسوريا، وفي المقدمة منها دول الخليج التي لم تتأخر في الاستجابة، البداية كانت من قطر، الحليف الأبرز لأنقرة خلال السنوات الأخيرة، حين أعلنت إنشاء “مستشفى ميداني” وإرسال فرق بحث وإنقاذ إلى تركيا، وهو موقف الإمارات ذاته التي أرسلت فريقًا إغاثيًا وخصصت مبلغ 100 مليون دولار مناصفة بين سوريا وتركيا.
كما أعلنت المملكة العربية السعودية عن تسيير جسر جوي وتقديم مساعدات صحية وإيوائية وغذائية ولوجستية للشعبين التركي والسوري، وهي الخطوة ذاتها التي اتخذتها سلطة عمان، فيما أعلنت المنامة بناءً على توجيهات العاهل البحريني عن تقديم مساعدات إنسانية إغاثية عاجلة، عبر المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية، بجانب إرسال فريق إنقاذ مؤلف من 72 شخصًا من الجيش والدفاع المدني والإطفاء للمساعدة في جهود البحث الجارية جراء الزلزال.
ومن الخليج إلى الشمال الإفريقي حيث أعلنت الخارجية المصرية إرسال 5 طائرات عسكرية محملة بمساعدات طبية عاجلة للبلدين، بينما تحركت دول المغرب لتقديم المساعدة تباعًا، البداية كانت من الجزائر التي أرسلت إلى تركيا 17 طنًا من معدات التدخل، فضلًا عن “مجموعة أولى من 89 خبيرًا متخصصًا في إدارة المخاطر الكبرى، بجانب 115 طنًا من المنتجات الصيدلانية والغذائية والخيام أرسلتهم إلى سوريا مع فريق حماية مدنية مكون من 86 منقذًا.
#خادم_الحرمين_الشريفين وسمو #ولي_العهد يوجهان مركز الملك سلمان للإغاثة بتسيير جسر جوي وتقديم مساعدات متنوعة وتنظيم حملة شعبية عبر منصة “ساهم” لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا وتركيا pic.twitter.com/pLSphXFlG6
— وزارة الخارجية ?? (@KSAMOFA) February 7, 2023
فيما قدمت تونس 14 طنًا من البطانيات والمنتجات الغذائية، بينها حليب للأطفال، بالتزامن مع إعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، إرسال فريق مكون من 55 فنيًا، للمساعدة في أعمال البحث عن العالقين تحت الأنقاض، وإلى الجنوب قليلًا أعلنت وزارة الداخلية السودانية إرسال فريق من قوات الدفاع المدني المتخصصة في الإنقاذ البري إلى تركيا لتقديم العون.
عراقيًا.. وصلت طائرتان إلى دمشق تحمل كل منهما 70 طنًا من المواد الغذائية والبطانيات والإمدادات الطبية، من بين أشياء أخرى، فيما فتحت بغداد ممرًا جويًا مخصصًا للمساعدات الإنسانية، مع التعهد بتزويد البلدين، بكميات كبيرة من الوقود لتخفيف معاناة البرد القارس.
وفي ذات المسار، أرسلت عمّان فريقًا يضم 99 من عمال الإنقاذ وخمسة أطباء من الخدمات الطبية الملكية، بجانب أولى طائرات الإنقاذ التابعة للقوات الجوية الأردنية محملة بالمعدات الطبية واللوجستية، كذلك فتحت بيروت أجواءها وموانئها مع إعفاء شركات النقل الجوي والبحري الوافدة لأغراض إنسانية من الرسوم والضرائب، فضلًا عن إرسال فريق إنقاذ من الجيش ولجنة الصليب الأحمر اللبنانيين إلى سوريا.
مساعدات مصرية لتركيا #زلزال_سوريا_تركيا pic.twitter.com/0R6GPV721k
— AM.Eldaly (@EldalyAm) February 7, 2023
هرولة أوروبية
سارعت أوروبا هي الأخرى بتقديم يد العون والمساعدة لأنقرة في هذه الكارثة التي وصفتها أنقرة بـ”الأقسى في تاريخ الجمهورية”، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي عن تعبئة أكثر من 30 فريق بحث وإنقاذ وطبي (يتضمن أكثر من 1200 من رجال الإنقاذ وأكثر من 70 كلبًا استكشافيًا)، بشكل جماعي من 21 دولة أوروبية (19 دولة عضو بالاتحاد بجانب الجبل الأسود وألبانيا)، كما جاء على لسان المتحدث باسم المفوضية الأوروبية لشؤون المساعدات الإنسانية، بالاز أوجفاري.
وعلى المستوى السوري أوضح المتحدث باسم المفوضية أن الاتحاد الأوروبي هو المانح الإنساني الرئيسي في البلاد بجانب المنظمات الشريكة له في جهود الإنقاذ، معربًا عن استعداد التكتل الأوروبي لتقديم المزيد من المساعدات للسوريين، لافتًا إلى استمرار العمل المتواصل على مدار الساعة في الأسابيع والأيام القادمة.
وفي السياق أعلنت ألمانيا إرسالها فريق بحث وإنقاذ من الوكالة الفيدرالية الألمانية للإغاثة الفنية مكون من 50 رجل إنقاذ ومعدات إلى أضنة التركية، كما قررت فرنسا توجه 139 من عمال الإنقاذ التابعين للأمن المدني إلى محافظة كهرمان مرعش حيث مركز الزلزال في تركيا، فيما أعلن جهاز الإطفاء في منطقة غار جنوبي فرنسا إرسال مستشفى ميداني و83 عامل إنقاذ إضافيًا إلى أنقرة، وسارعت إسبانيا بإرسال طائرتين على متنهما 91 مسعفًا إلى قاعدة إنجرليك الجوية قرب أضنة، وهو التحرك الذي أعلنته إيطاليا والمجر وبولندا والتشيك.
ورغم توتر علاقتهما مع أنقرة، بادرت كل من اليونان والسويد بتقديم المساعدات، فقد أعلنت ستوكهولم التبرع بنحو 650 ألف دولار للجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الهلال الأحمر مخصصة لتركيا وسوريا، فيما وعدت أثينا بـ”توفير كل قواتها” لمساعدة تركيا، بحسب رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس، بجانب إرسالها نحو 20 رجل إطفاء ومساعدات إنسانية.
بريطانيًا.. أعلن وزير الخارجية جيمس كليفرلي البريطاني تقديم بلاده “مساعدة فورية” بجانب إرسال 76 من رجال الإنقاذ والمعدات والكلاب إلى تركيا، كما تعهدت إيرلندا بتقديم مساعدات إنسانية قيمتها مليوني يورو، أما كييف التي تعاني من حرب ضروس قضت على معظم بنيتها التحتية منذ فبراير/شباط 2022 وحتى اليوم فأعلنت هي الأخرى إرسال 87 من عمال الإنقاذ إلى تركيا للمساعدة للتعامل مع عواقب الزلزال المدمر، من ضمنهم 10 طيارين وسائقي مركبات.
السويد ترسل 30 مليون كرونة مساعدات اضافية لتركيا والشمال السوري pic.twitter.com/tz4daUp7tR
— Noura Dandashi (@DandashiNoura) February 7, 2023
دعم آسيوي
ربما كانت آسيا الأكثر حضورًا في سباق الدعم الدولي لأنقرة، حيث أعلنت بكين إرسال مساعدات بقيمة 5.9 مليون دولار، بجانب فرق متخصصة من خبراء إنقاذ ومسعفين، فيما أرسلت موسكو أكثر من 300 جندي للمشاركة في جهود الإنقاذ وانتشال الجثث حسبما أعلن الرئيس فلاديمير بوتين.
بدورها أرسلت طهران طائرة إلى مطار ولاية غازي عنتاب جنوبي تركيا تحمل 45 طنًا من المساعدات، من بينها بطانيات وخيام وأدوية وأغذية، فيما أعلنت أذربيجان إرسال فريق بحث وإنقاذ مكون من 370 عنصرًا إلى تركيا للمساهمة في مواجهة آثار الزلزال، بتعليمات من الرئيس إلهام علييف.
وفي الإطار ذاته قررت الهند إرسال فرق بحث وإنقاذ وطبية على الفور إلى جانب معدات الإغاثة، وفي بيان رسمي لها أعلنت طوكيو عن إرسالها فرق إغاثة متخصصة في الكوارث الطبيعية للمشاركة في جهود الإنقاذ، وهو موقف باكستان التي قررت إرسال فريق بحث وإنقاذ ومشفى متنقل بسعة 30 سريرًا ومواد إغاثية مختلفة إلى تركيا، فيما كشف رئيس الوزراء الماليزي عن مساعدات مالية بأكثر من مليوني دولار لتركيا وسوريا.
الصين تقدم 6 ملايين دولار مساعدات طارئة لتركيا بعد #الزلزالhttps://t.co/uqLf4nQU13
— Sawt Beirut International (@SawtBeirut) February 7, 2023
مبادرات دولية
من جانبها أكدت الولايات المتحدة أنها تعمل مع حلفائها الدوليين على تقديم يد العون للدولتين التركية والسورية، معلنة كامل دعمها لهما في تلك الكارثة، حيث أعلن البيت الأبيض إرسال فرقتين تتألف كل واحدة من 79 مسعفًا إلى تركيا، فيما قالت واشنطن إنها ستبذل ما في وسعها لتقديم المساعدة للمنكوبين داخل سوريا، رغم أنها لا تعترف بالحكومة السورية، فيما كشفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو إس إيد) عن مساهمة جهودها في عمليات الإنقاذ وتقديم احتياجات عاجلة أخرى للمتضريين بما في ذلك توفير المأوى والطعام.
وإلى كندا، إذ كشف رئيس الوزراء جاستن ترودو عن تخصيص 10 ملايين دولار” كندي (7.4 مليون دولار أمريكي) لدعم أنقرة في جهود الإنقاذ، مؤكدًا على مواصلة بلاده تقديم المساعدة للأتراك بناءً على تطورات الوضع ميدانيًا، منوهًا أن الحكومة الاتحادية تجري تقييمًا بين الساعة والأخرى لمنح المزيد من الدعم والمساعدات للمنكوبين، في المرحلة المقبلة.
وعلى المستوى الدولي أعلن صندوق الأمم المتحدة للطوارئ تخصيص 25 مليون دولار للمساعدة الإنسانية في تركيا وسوريا، فيما كشف حلف شمال الأطلسي “الناتو” عن نيته نشر أكثر من 1400 فرد طوارئ من 20 دولة بالحلف وشركائه في تركيا للمساعدة في إغاثة المتضررين من الزلزال.
#عاجل | صندوق الأمم المتحدة للطوارئ يبدأ استجابته الإنسانية لمساعدة المتضررين من زلزال #تركيا بـ 25 مليون دولار#زلزال_تركيا_سوريا pic.twitter.com/KhRC8Ymx16
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) February 7, 2023
تحرك رباعي الدوافع
تحمل الهرولة الدولية لدعم أنقرة على وجه التحديد في تلك الكارثة العديد من الأوجه والدوافع، فربما تكون النتيجة والتحرك واحدًا، لكن كل دولة من تلك التي بادرت بتقديم المساعدات والمنح تتعامل وفق خصوصيتها وما تحمله في أجندتها من مواءمات ومحفزات، ليختلط معها السياسي بالإنساني.
الدافع الأول الذي يخيم على الأجواء هو التعاطف الإنساني في ظل حجم الكارثة الهائل والأرقام المفجعة عن الضحايا والمصابين والعالقين، فضلًا عن المشردين بلا مأوى والقابعين بين فكي البرد القارس والقيود التنظيمية والإدارية التي تعمق من المأساة وتزيد المعاناة بشكل ينتهك أبجديات الحق في الحياة، الأمر الذي قد يدفع المجتمع الدولي للتحرك دون أي أجندات أو حسابات أخرى.
وهناك دافع ثانٍ يتعلق بـ”رد الجميل” للدولة التركية على ما قدمته من مساعدات لعشرات الدول التي تعرضت لأزمات وكوارث، ولأنقرة في ذلك باع طويل، أصل لما سُمي بـ”دبلوماسية الكوارث” التي نجحت من خلالها أنقرة في أن تكون الحاضر الدائم في كل المناطق الموبوءة والمنكوبة، ولعل جائحة كورونا الأخيرة كانت شاهدة على تلك الأداة التركية الناجعة في الدبلوماسية العصرية، لذا شريحة كبيرة من الدول المانحة اليوم ترد الجميل لتركيا على ما فعلته معها في السابق.
دافع ثالث يطل برأسه مثبتًا حضوره في هذا السباق، يتعلق بالدور الإقليمي والدولي لأنقرة التي نجحت في أن تكون لاعبًا محوريًا في خريطة الكثير من النزاعات وضيفًا مؤثرًا في ملفات عدة، وعليه يأتي هذا التحرك الدولي تقديرًا لهذا الدور وإيمانًا بما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات وتراتيب بشأن القضايا الحساسة التي تتداخل فيها تركيا مع قوى العالم وأقطابه.
أما الدافع الأخير فهو دبلوماسي بحت، ففي مثل تلك المواقف تكون الساحة مهيأة تمامًا لفتح صفحات جديدة مع الدول التي تعاني من توتر في العلاقات البينية، استنادًا إلى الأرضية الإنسانية التي لا تنساها الشعوب، فحين تسارع اليونان والسويد وألمانيا لتقديم يد العون ففي ذلك رسالة مغازلة غير مباشرة لا شك أن الجانب التركي سيضعها موضع الاهتمام والدراسة على موائد مناقشة الملفات العالقة مع تلك الدول.
وبعيدًا عن كل تلك التفسيرات والقراءات المختلفة والدوافع المتباينة يبقى الدعم للمنكوبين ضرورة لا تقبل القسمة على اثنين، وتحركًا لا يحتاج إلى محفزات أو مواءمات، ونتيجة واحدة مهما تعددت المقدمات، فالحق في الحياة هنا مقدم على كل الحقوق السياسية والسلطوية الأخرى، مع التشديد على ضرورة عدم الازدواجية في التعامل مع المشهد، فالدعم في تلك الظروف كالعدالة يجب أن يكون أعمى لا يفرق بين جنسية وأخرى، وحضر وريف، مهما كانت الحسابات والمبررات.