قبل 24 سنة من الآن، تحديدًا يوم 17 أغسطس/آب 1999، شهدت منطقة إزميت القريبة من إسطنبول زلزالًا مدمرًا بقوة 7.6 درجة على مقياس ريختر، أسفر عن مقتل 18373 شخصًا، وفقًا لهيئة إدارة الكوارث والطوارئ “آفاد”، فيما بلغ عدد الجرحى 43 ألفًا و953، بينما تشرد أكثر من 250 ألف شخص، إضافة إلى تضرر 365 ألف مبنى، انهار أكثر من 112 ألفًا منها، بتكلفة أضرار مباشرة بلغت نحو 6.5 مليار دولار أمريكي – ما يقرب من 2.5% من الناتج القومي الإجمالي للبلاد – بينما التكاليف الثانوية تجاوزت الـ20 مليار دولار.
أظهر زلزال إزميت وجود فجوات في قدرات وكالات الاستجابة للكوارث آنذاك وضعفًا في الدولة لمواجهة هذه الكارثة، ولولا الاستجابة الدولية الواسعة لمساعدة الجرحى والمشردين وعملية البحث والإنقاذ الشاملة، لكانت الحصيلة أكبر والخسائر أكثر.
تحضيرات كبيرة
هذه الخسائر المادية والبشرية الكبيرة، حتمت على الدولة التركية ضرورة إجراء العديد من الإصلاحات الاقتصادية، فضلًا عن الإصلاحات في البنية التحتية والتشريعية لتجنب مثل هذه الكوارث مستقبلًا، وحتى لا تعيش البلاد نفس الأحزان مرة أخرى.
من المستحيل منع حدوث الزلازل، فهي ظاهرة طبيعية، وليس من الممكن التنبؤ بأين ومتى ومقدار الزلزال الذي سيحدث، فالزلزال هو عملية قصيرة جدًا تُقاس بالثواني، لهذا السبب فإن الاحتياطات الواجب اتخاذها لها أهمية كبيرة، وهو ما عملت على توفيره الحكومة التركية بقيادة العدالة والتنمية.
بدأت تركيا في عملية تأهيل البلاد للتعامل مع الزلازل بداية الألفية الماضية، خاصة مع وصول حزب العدالة والتنمية الذي أسسه رجب طيب أردوغان وآخرون إلى السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، لضمان عدم حدوث كارثة بحجم زلزال إزميت مرة أخرى.
رأت الحكومة التركية أن التوسع الحضري السريع وغير المخطط له، يمثل عامل خطر يمكن أن يضاعف الخسائر المادية والبشرية في حال حدوث زلزال، لذلك تم تقديم إستراتيجية “التحضر المخطط وتعبئة إنتاج المساكن”.
رغم كلّ هذه التحضيرات، إلا أن خسائر زلزال تركيا الأخير كانت كبيرة من حيث الخسائر البشرية والمادية
يبدو أن مأساة اسكندرون تواصل، فبعد حريق الميناء الذي لم يهدأ بعد، أدى ارتفاع منسوب البحر إلى غرق شوارعها بالمياه#زلزال_ت pic.twitter.com/MIRkPxi6CP
— نون بوست (@NoonPost) February 7, 2023
ضمن هذه الإستراتيجية، تم تنفيذ نظام تأمين إلزامي ضد الزلازل، ويغطي هذا التأمين الإجباري الأضرار المادية الناجمة مباشرة عن الزلزال وما ينتج عنه من حريق وانفجار وتسونامي وانهيارات أرضية نقدًا ضمن الحدود المحددة في وثيقة المواطن التركي.
فضلًا عن تعزيز البنية التحتية العامة الحيوية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والأنابيب وشريان الحياة، وتم تحديث آلاف المباني العامة لمساعدتها على تحمل الصدمات الزلزالية وتقديم تدريب على التأهب للكوارث لآلاف الأشخاص.
كما أصدرت تركيا تشريعًا عام 2004 يلزم جميع المباني الجديدة بالامتثال لمعايير مقاومة الزلازل، حيث تم منع البناء في المناطق السكنية والمخططة الخطرة، ونقل بعض المناطق السكنية الواقعة في مناطق الخطر مثل مناطق الصدع والانهيارات الأرضية ومناطق الفيضانات إلى أراضٍ صلبة وبيئة صخرية، وليس على أراضٍ خصبة وتربة ضعيفة.
كما عملت السلطات التركية على نقل العديد من المنشآت الصناعية في الأماكن المعرضة لخطر الزلازل إلى مناطق أقل خطورة لتقليل عامل الخطر من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات، في حال شهدت البلاد زلازل قوية.
ضمن جهود زيادة الوعي بمخاطر الزلازل وطرق التوقي منه، تم إضافة الجيولوجيا وعلوم الكوارث إلى العديد من المستويات التعليمية، ما جعل الشعب التركي أكثر دراية وأكثر حساسية تجاه الكوارث الطبيعية التي يمكن أن تشهدها البلاد.
فضلًا عن ذلك، ركزت الدولة على البحوث العلمية الخاصة بالزلازل، صحيح أنه لا يمكن التنبؤ بمكان ووقت حدوث الزلازل، لكن معرفة طبقات الأرض ودراسة الطبيعة الجغرافية للبلاد يمكن أن يساهم في تقليل الخسائر.
لكن الخسائر ما زالت كبيرة
رغم كل هذه التحضيرات، فإن خسائر زلزال تركيا الأخير كانت كبيرة من حيث الخسائر البشرية والمادية، إذ أعلنت إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد”، صباح الأربعاء، ارتفاع عدد الضحايا إلى 7108 قتلى، فيما ارتفع عدد الإصابات إلى 40 ألفًا و910 مصابين.
صحيح أن تركيا خصصت الأموال الكثيرة تحسبًا للزلازل، ما يقارب ملياري دولار في السنوات الأخيرة، لكن أغلبها كان في مدينة إسطنبول، فهي المدينة الأكثر ازدحامًا بالسكان والأكثر تأثرًا بالزلازل، لذلك كان التركيز عليها، فيما تم إهمال باقي المناطق تقريبًا أو أن الجهود لم تصلها بعد.
الزلزال الأخير حدث قرب الحدود السورية، على امتداد خط الصدع الشرقي للأناضول، لم يشهد هذا الخط أي زلزال تفوق قوته 7 درجات منذ أكثر من قرنين، وهو السبب الذي أدى إلى استثناء المنطقة من جهود التوقي ودفع بالسكان إلى الاستهانة بتوجيهات الدولة بخصوص كيفية البناء ومناطق السكن.
سعى صانعو السياسات في البلاد إلى ضمان أن المدينة الأكبر في تركيا في وضع جيد للتخفيف من أي خطر يمثله الزلزال أو غيره من الكوارث
يمكن تفسير انهيار العديد من المباني السكنية في منطقة الزلزال إلى كون أغلبية المباني لا تتوافق مع منطقة معرضة لخطر الزلازل العنيفة، خاصة أن تشييد المباني يشكل عاملًا رئيسيًّا عند حدوث الزلزال، وفق خبراء الجيولوجيا.
ويساهم ضعف البنية التحتية، في عرقلة جهود الإنقاذ والإغاثة، ما يزيد من الخسائر البشرية، وتعد الساعات الأربعة والعشرون الأولى حاسمة للعثور على ناجين، وبعد 48 ساعة سيتناقص عدد الناجين بشكل كبير، وهو ما يفسر الارتفاع الكبير في عدد الضحايا.
التركيز الأكبر على إسطنبول
استثمرت الحكومة التركية أموالًا طائلة بدعم من مؤسسات دولية كالبنك الدولي، لتهيئة البلاد لمجابهة الكوارث الطبيعية، على رأسها الزلازل، لكن التركيز كان على المدينة الأكبر إسطنبول التي استأثرت بأغلب الموارد، بالخصوص مع التحذيرات المتكررة من تعرضها الوشيك لزلزال مدمر.
لذلك أصبحت إسطنبول واحدة من أكثر المدن نشاطًا في العالم من حيث التخفيف من مخاطر الزلازل، إذ تم تحديث أكثر من 725 مبنى عامًا وأعيد بناء 21 مبنى إضافيًا من أجل مساعدتهم على تحمل صدمات الزلزال بشكل أفضل، وتم تقديم تدريب على التأهب للكوارث لأكثر من 450.000 شخص.
تقع إسطنبول على طول الخط الزلزالي الرئيسي في شمال الأناضول، لذلك فإن احتمال حدوث زلزال كبير آخر يضرب المدينة في العقود القادمة مرتفع للغاية، وأمام تحول المدينة إلى مركز للأصول الاقتصادية ورأس المال الاجتماعي ورأس المال التجاري، فقد كان التركيز عليها لحمايتها.
بعضهم نزل ليرفع الحجارة بيده عنهم والبعض الآخر عاجز عن الوصول إليهم فاتجه لمواقع التواصل علّه يأخذ خبر يطمأن قلبه.. ذوي العالقين تحت الأنقاض يعيشون حالة مأساوية #زلزال_تركيا_سوريا pic.twitter.com/6Op4QlbBVt
— نون بوست (@NoonPost) February 7, 2023
تعد إسطنبول الآن بمثابة نموذج لإدارة مخاطر الكوارث، فقد سعى صانعو السياسات في البلاد إلى ضمان أن المدينة الأكبر في تركيا في وضع جيد للتخفيف من أي خطر يمثله الزلزال أو غيره من الكوارث.
ساعد أكثر من مليار دولار تم استخدامهم على مدار الـ14 عامًا الماضية في تحسين القدرة المؤسسية والتقنية للمدينة على الاستعداد للزلازل، مع التركيز على الاستجابة لحالات الطوارئ، وتقوية المرافق العامة الحيوية لمقاومة الزلازل، وتطبيق قوانين البناء بشكل أفضل.
إسطنبول اليوم مستعدة لأي زلزال قادم، فقد اتخذت الاحتياطات اللازمة لضمان أنه في حالة وقوع الزلزال المتوقع في هذا القرن، فسيتم فقدان عدد أقل من الأرواح، من خلال الجمع بين التحسينات في البنية التحتية والتثقيف التوعوي وبرامج التدريب وتبادل المعرفة.