احتل الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، الثلاثاء 7 فبراير/ شباط 2023، مكانًا بارزًا على طاولة التحليلات والتناول الإعلامي والسياسي، كونه الاتصال الأول للرئيس المصري منذ توليه السلطة عام 2014.
وكان السيسي قد هاتف الأسد للتعزية في ضحايا الزلزال الذي وقع الاثنين 6 فبراير/ شباط 2023 وخلّف أكثر من 9600 قتيل وقرابة 46 ألف مصاب، بينهم 2500 قتيل و4600 مصاب في سوريا، و7100 قتيل ونحو 41 ألف مصاب في تركيا، بحسب البيانات الرسمية حتى ظهر اليوم الخميس.
وأشار المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، أحمد فهمي، أن السيسي أعرب خلال الاتصال عن خالص تعازيه في ضحايا الزلزال، فيما أعلنت الخارجية المصرية إرسال 5 طائرات عسكرية محمّلة بمساعدات طبّية عاجلة للبلدَين، للمساعدة في عمليات الإنقاذ والإعاشة للمتضررين من الأتراك والسوريين.
الاتصال ربما يكون الأول من نوعه بين السيسي والأسد بشكل مباشر، إلا أن التواصل بين النظامَين لم يتوقف طيلة السنوات الماضية، وهو ما توثّقه عشرات المؤشرات في هذا الشأن، ما دفع خبراء ومحلّلين إلى فتح صندوق التكهُّنات لقراءة تلك الخطوة، التي قد يراها البعض إيذانًا بتطبيع محتمَل بين السلطتَين قريبًا، خاصة بعد زوال العديد من العراقيل التي كانت تقف عائقًا أمام النظام المصري لاتخاذ تلك الخطوة قبل عدة أعوام.
تعاطف إنساني
فريق ذهب إلى أن ما حدث لا يخرج عن سياقه الإنساني في مثل تلك الأزمات، وهو المتعارف عليه دوليًّا بين الحكومات التي تنحي خلافاتها السياسية جانبًا أوقات النكبات، خاصة الطبيعية كالزلازل والبراكين وحوادث القطارات والطائرات، وغيرها من الأحداث التي تخلّف وراءها الكثير من الضحايا.
ويستند أنصار هذا الرأي إلى مواقف الدول الأخرى التي تعاني من توتر في العلاقات مع أنقرة لكنها لم تتأخر في تقديم يد المساعدة، كاليونان والسويد وألمانيا والبحرين، بجانب فرنسا والولايات المتحدة، والتي لم تكن علاقاتها بتركيا في الآونة الأخيرة على ما يرام لكنها جنّبت السياسة مرحليًّا في مواجهة تلك الأزمة الإنسانية.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يرتكز فيها نظام السيسي على البُعد الإنساني في مواقفه الداعمة للدول التي تواجه أزمات وكوارث، فأكثر من مرة بعثت القاهرة برسائل تعزية ودعم لتركيا وقطر -والعكس- رغم الخلافات السياسية بينها قبل التقارب الذي شهدته العلاقات في الآونة الأخيرة.
ليس مفاجئًا
الاتصال الهاتفي لم يكن مفاجئًا على المسار السياسي، فهو تتويج لحزمة مؤشرات شهدتها العلاقات بين البلدَين منذ عام 2014 وحتى اليوم، لعلّ أبرزها اللقاء الذي تمَّ على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر/ أيلول 2021، والذي جمع وزير الخارجية المصري سامح شكري مع نظيره في النظام السوري فيصل المقداد.
وقد سرّبت تقارير إعلامية توثيقًا بالصور والمقاطع المرئية لاستخدام جيش الأسد صواريخ وأسلحة مصرية الصنع، كان قد استخدمها في قصف المدنيين والمعارضة في عامَي 2017-2018، بجانب ما أثير حول مشاركة طيارين مصريين إلى جانب القوات الجوية لنظام الأسد في استهداف السوريين، وهو ما نفته القاهرة حينها.
والقاهرة تحت حكم السيسي إحدى أبرز الدول التي قدمت دعمًا لوجستيًّا لنظام الأسد، حيث سمحت بوصول الأسلحة الإيرانية إليه عبر قناة السويس دون اعتراض البواخر الإيرانية المحمّلة بها، على عكس العادة، وهو ما فُسّر وقتها بأنه دعم مبطن للأسد، أكّده التعاون الاستخباراتي بين النظامَين بمباركة الجانب الروسي، حيث التقى رئيس جهاز المخابرات المصرية مع نظيره السوري أكثر من مرة، في القاهرة وبغداد.
وفي عام 2015 كان نظام السيسي من بين السلطات التي أيّدت الضربات الجوية الروسية في الداخل السوري، ولوزير الخارجية المصري تصريح شهير حينها قال فيه إن “دخول روسيا بإمكاناتها وقدراتها في هذه الحرب، بتقديراتنا، سيحدّ من تأثير الإرهاب في سوريا، والقضاء عليه”، وهو التصريح الذي اعتبره البعض فاضحًا للموقف المصري إزاء المشهد السوري، حتى لو لم يتم التعبير عنه بشكل رسمي.
جملة المؤشرات تشير وبشكل واضح إلى وجود تنسيق كبير بين نظامَي السيسي والأسد، لكنه كان في إطار ما دون المؤسسة الرئاسية.
كما عارضت مصر مشروع القرار الذي ناقشه مجلس الأمن في أبريل/ نيسان 2017 بشأن إدانة استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية في مواجهته مع المعارضة والمدنيين، ففي بيان له أمام المجلس، قال السفير المصري، عمرو سمير عطا، إنه لم يكن هناك دليل واضح على استخدام جيش الأسد للكيماوي، متهمًا قرار الإدانة بـ”العبثي” نظرًا إلى نقص الأدلة والبراهين على حدّ قوله.
وقبل ذلك بعام واحد فقط، وفي 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، أعلن السيسي عن دعمه الكامل للجيش السوري وفرض السيطرة على الميدان في مواجهة العناصر المسلحة، وقبل هذا التصريح بـ 6 أشهر كان الرئيس المصري قد كشف عمّا أسماه المرتكزات الخمس التي يقوم عليها الموقف المصري من الأزمة السورية، وكانت كالتالي: احترام إرادة الشعب السوري، وإيجاد حلّ سلمي للأزمة، والحفاظ على وحدة الأرض السورية، ونزع أسلحة الميليشيات والجماعات المتطرفة، وإعادة إعمار سوريا وتفعيل مؤسسات الدولة.
وخلال السنوات الماضية، فتحت القاهرة أبوابها أمام عدد من المسؤولين البارزين في نظام الأسد، حيث استقبلت اللواء علي المملوك (الرجل الثاني في سوريا) في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2018، وعقدَ اجتماعات مطوّلة مع رئيس المخابرات المصري، عباس كامل، ذراع السيسي ومدير مكتبه السابق، كذلك وزير الإسكان السوري، محمد وليد غزال، في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2015.
جملة المؤشرات تلك تشير وبشكل واضح إلى وجود تنسيق كبير بين نظامَي السيسي والأسد، لكنه كان في إطار ما دون المؤسسة الرئاسية، وكأن هناك محاولة لمسك العصا من المنتصف إلى حدّ ما، وعدم التورُّط في اصطفاف يحسَب على القاهرة فيما بعد، ليأتي الزلزال الحالي ناقلًا مستوى التواصل بين البلدَين إلى رأسَي هرم السلطة في البلدَين، فهل لذلك دلالة سياسية؟
تطبيع محتمَل
سياسيون مقرّبون من دوائر صنع القرار في مصر، ألمحوا إلى احتمالية أن تكون تلك الخطوة مبادرة جيدة لعودة العلاقات كاملة مع نظام الأسد، كما ذهب البرلماني المصري والإعلامي مصطفى بكري، الذي اعتبر في تصريحات لـ”روسيا اليوم” الاتصال خطوة جيدة من السيسي الذي وصفه بـ”الرجل العروبي الذي يعتبر الأمن القومي العربي كلًّا لا يتجزّأ”، منوهًا أن هذا ليس بالموقف الجديد إذ سبق وأن تضامنت القاهرة مع النظام السوري في مجلس الأمن.
الرأي ذاته أكّد عليه الكاتب الناصري عبد الحليم قنديل، الذي أكد على أن السياسة المصرية منذ تولي السيسي تتفق مع فكرة عودة سوريا للجامعة العربية، لافتًا أن القاهرة داعمة وبقوة لمبدأ الدولة الوطنية والجيش الواحد، وعودة السيطرة الكاملة على كافة الأراضي السورية، وأن تكون بحوزة الأسد وجيشه، وتابع في تصريحاته الصحفية: “الاتصال صحيح ارتبط بما تواجهه سوريا الآن من زلازل مدمرة، لكن التواصل بين البلدَين دائم وهناك دول عربية أخرى نجحت مصر في كسبها لعودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية”.
أما المحلل السياسي أحمد رفعت، فيشير إلى ثوابت مصرية خمسة هي من تحدد شكل وطبيعة الموقف المصري من الملف السوري، “أولها سلمية الحل، وثانيها ضرورة الحفاظ على وحدة التراب السوري، وثالثها ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية الوطنية وطبعًا في مقدمتها الجيش العربي السوري، ورابعها أن مستقبل سوريا يحدده السوريون فقط، وخامسها استبعاد قوى الإرهاب من أي اتفاق”.
هل تكون الكارثة بداية الانتقال نحو كارثة أخرى تتجاهل فيها القاهرة الجانب الحقوقي والانتهاكات التي مارسها الأسد وميليشياته بحقّ الملايين من أبناء وطنه؟
وقد استند رفعت في تلك الرؤية إلى تصريح السيسي للتلفزيون البرتغالي عام 2016، حين أكد على دعم مصر الصريح للجيش السوري، بجانب امتداد الأمن القومي المصري إلى حدود سوريا الشمالية، وأن مصر تدخلت أكثر من مرة لوقف التصعيد الداخلي في العديد من المناطق السورية كريف حمص وريف دمشق والغوطة بالتحالف مع موسكو، على حد قوله.
وفق المعطيات السابقة، ربما تكون الأجواء الآن مواتية لتطبيع كامل بين النظامَين، خاصة بعد تلاشي التحفُّظات التي حالت دون ذلك في السابق، والتي أجبرت القاهرة على اتخاذ مواقف رمادية، على رأسها الخصومة الواضحة بين الرياض ودمشق، والتي بردت أجواؤها بشكل ملحوظ مؤخرًا، بجانب الخطوات الملموسة نحو التقارب مع أبوظبي وأنقرة، وهو ما قد يكون محفّزًا للسيسي لتطبيع العلاقات بشكل مكتمل مع الأسد الذي نجح في الأشهر الأخيرة في كسر عزلته السياسية بشكل واضح، وساعدته على ذلك المستجدات والتطورات التي شهدتها المنطقة.
ثمة دوافع للتقارب بين نظامَي السيسي والأسد، النظامَين الأكثر تشابهًا في المنطقة، ولعلّ زلزال تركيا الحالي فرصة سانحة لكسر حالة الجمود في العلاقات في مستواها الهرمي، يتوقف ذلك على إرادة الجانب المصري تحديدًا والمحددات التي يضعها في الاعتبار بما يحافظ على التوازن النسبي إزاء الملفات الجدلية في الإقليم.
فهل تكون الكارثة بداية الانتقال نحو كارثة أخرى تتجاهل فيها القاهرة الجانب الحقوقي والانتهاكات التي مارسها الأسد وميليشياته بحقّ الملايين من أبناء وطنه؟ أم أن ما حدث لن يخرج عن إطاره الإنساني لتبقى العلاقات في مستوياتها التقليدية العادية؟ هذا ما تكشفه الأيام القادمة.