نتحدث بإصرار بالحدس وبالوقائع عن انقلاب سقط وينتظر دفنه. لكن هل سقط الانقلاب وحده أم حمل معه البلد إلى وضعية يكون فيها حكم البلد عسيرًا أو مستحيلًا؟
إننا نجمع مؤشرات على خراب اقتصادي وسياسي غير قابل للترميم السريع. يقول كثير من المتفائلين، وكنت منهم، إن عدد السكان القليل مقارنة ببلدان مثل مصر يسهّل الخروج، فالمطالب المادية يمكن تلبيتها بجهد معقول وفي زمن معقول. لكن هل تعالج السياسة الجروح الغائرة التي تركها الانقلاب أو عمّقها وقد سبقه منها الكثير؟
التحليل البسيط يربط بين إصلاح السياسة وإصلاح الاقتصاد، وإن يتذاكى البعض هذه الأيام في جعل أحدهما سابقًا على الآخر، لكننا ممّن يراهما صنوَين لا يفترقان، فهل يملك الذين يبرزون رؤوسهم الآن من ركام المشهد قدرة خلّاقة على السير في طرق الإصلاح السياسي والاقتصادي بالسرعة التي تجعل فترة ما بعد الانقلاب إلى الخروج والتعافي قصيرة ومحتملة؟
بدء الرقص بين الدساتير الثلاثة
هناك اتفاق ظاهر ومعلن بين المعارضين المبدئيين للانقلاب وفي مقدمتهم جبهة الخلاص الوطني بعمقها النهضوي، وبين المعارضين الجدد المرتدّين عن الانقلاب على نهاية مرحلة قيس سعيّد. ويصل هذا الاتفاق إلى تشخيص كارثي للوضع الاقتصادي، كما يشترك الجميع في إعلان تخوفاتهم من انفجار اجتماعي قد يعصف بالجميع.
لكن الاتفاق في التشخيص لا ينتج اتفاقًا حول حلّ قابل للتسويق بين الناس ويمكن أن يطاوعه الشارع الفاقد للصبر والأمل، أو بالأحرى الذي دُرّب على/ دُفع إلى الإحباط واليأس من كل وجوه السياسة الظاهرة.
ونرى بداية منظَّمة (أوركسترا) لتشتيت التركيز على مرجعية دستورية واحدة، فالبعض عاد يذكّر بدستور 1959 كما لو أنه لم يلغَ بدستور 2014، بينما يعمل البعض على اعتبار دستور الانقلاب (دستور 2022) كأنه دستور فعلي (أو عمل جدّي) قابل للبقاء. وهذان الموقفان يتجنّبان ذكر دستور 2014 تجنّبهما للطاعون.
وقد التقطنا في الخضمّ موقف مركز كارتر الأمريكي لمراقبة الانتخابات، الذي لم يكتفِ بتقرير عن ضعف المشاركة في انتخابات الانقلاب، بل ذهب يقترح العمل من داخل دستور الانقلاب لتعديله بواسطة برلمانه (أبو عشرة بالمئة)، بما يعنيه الإبقاء على نتائج الانقلاب على الأرض وقطع الطريق على دستور 2014، مثمّنًا في الوقت نفسه مبادرة النقابة التي مهّدت للانقلاب وحمته حتى اللحظة.
وبالنظر إلى التأثير الفعلي لنصائح هذه المؤسسة ومقترحاتها على القرار السياسي الأمريكي، فإننا نعتبر دون جزم أن مركز كارتر قد أعطى الإيعاز لقوى داخلية ببدء العمل.
يصير أمامنا هدف بيّن للتحقيق، وهو إلغاء دستور 2014 نهائيًّا، ما يعني عمليًّا استبعاد القوى السياسية التي جعلت منه قاعدة معارضتها وطعنها في شرعية الانقلاب، وهذه القوى دون مواربة هي حزب النهضة ثم من ناصرها في جبهة الخلاص و”مواطنون ضد الانقلاب”.
وإذا اعتبرنا هذا حلًّا سياسيًّا يسهّل مخرجًا من الأزمة، فإن السؤال الاقتصادي يظلّ معلقًا فوق رؤوس الجميع: هل يمكن بناءً على “تهذيب الانقلاب” الحصول على شرعية كافية لبدء عملية إصلاح اقتصادي فعّالة مبنية على كسر سياسي عميق؟ أي ضعيفة الشرعية؟ وهل يمكن لتمريرها (فرضها) العودة إلى قمع معارضيها بقوة الدولة؟(القوة الصلبة التي نعتقد أن مقترحات كارتر موجّهة إليها رأسًا قبل النقابة). وخلف هذا سؤال مبطن: هل تملك المعارضة الأصيلة قوة حقيقية تعيق هذا الحل أو ترفضه رفضًا قطعيًّا؟ طبعًا لم نسأل هنا عن قبول المنقلب نفسه بأي مبادرة أو مقترحات.
الرئيس يرفض كل مبادرة
غني عن القول أن المنقلب، ونسمّيه الرئيس مجازًا، يرفض كل حل من خارج مشروعه، وهو سرّ معركته مع النقابة التي لم تودَّ الاكتفاء بدورها النقابي، وظلت تعلن مبادرات سياسية تتجاوز الموقع الذي يريد الرئيس أن يراها تقف عنده. ولو أن هذه المبادرات في عمقها تبقى على نتيجة الانقلاب الأهم، أي دستوره وبرلمانه.
غني عن القول أيضًا أن الحل السياسي المقترح (بما في ذلك مبادرة النقابة) لا يفكّك لغم التفويت في المؤسسات العمومية، ولا يعالج مسألة خفض الإنفاق العمومي (وهو مطلب المقرضين الذين يملكون وحدهم قنوات أو وعود التمويل)، فالنقابة ترى ورطتها قادمة. فوجودها وفاعليتها السياسيان مرتبطان ببقاء قدرتها على التأثير على القرار السياسي بواسطة المؤسسات العمومية، إذ ليس لها نفوذ فعلي على المؤسسة الاقتصادية الخاصة.
هنا ينكشف وجه آخر للمأزق السياسي التونسي، فالمؤسسات الاقتصادية الخاصة، أي طبقة المال والأعمال، تتفق مع المنقلب ومع النقابة ومع القوة الصلبة الصامتة غالبًا على معاداة دستور 2014 (وأنصاره)، لكنها لا تملك السيطرة على الشارع الاجتماعي القابل للانفلات ما لم تؤسّس لحلّ سياسي جماعي يخلق هدنة طويلة لإعادة إطلاق عملية إصلاح اقتصادي. إنها تتوجّس من حزب النهضة وأنصار دستور 2014، وربما ودّت إلحاقهم بصفّها لكن دون دفع أي ثمن سياسي.
كما أنها لا تلغي احتمال أن يستدرك أنصار دستور 2014 المطلب الاجتماعي، في ظل تنصُّل القيادة النقابية الحالية منه، وأن يستولوا على المزيد من غضب الشارع لجعل الوضع عسيرًا على كل حكم (نلاحظ أن قيادة حزب النهضة وجزءًا هامًّا من جبهة الخلاص لم يبادرا بأي خطاب عدائي ضد النقابة، ويمكن أن يُقرأ كل ذلك على أنه إبقاء باب التواصل مفتوحًا مع القيادات النقابية المحلية والقطاعية ليوم كريهة ضد حل سياسي غير اجتماعي. كما نذكر أن القيادات المحلية قد تجاوزت في الثورة عام 2011 المركزية النقابية ورفضت موقفها المساند لبن علي حتى آخر لحظة، وهو أمر يمكن أن يحدث ثانيةً).
المشهد غير قابل للحكم
إذا أخذنا كل هذه المواقف/ المعطيات بعين الاعتبار، وأضفنا إليها موقف الذين حصّلوا مكاسب مباشرة من الانقلاب، مثل حركة الشعب (القومية) التي تعتبر نفسها الآن حزب حكم وتعلن سعادتها بفوزها بكتلة نيابية وازنة في برلمان (أبو عشرة بالمئة)، والتي لم تفرط فيها بسهولة؛ فإن اختلاف الفاعلين يتّسع، واحتمالات توليفهم حول حل سياسي مشترَك (ولو في الحد الأدنى الانتقالي) يزداد عسرًا أمام كل من تسوّل له نفسه الحكم بعد المنقلب أو بالاشتراك معه.
لقد ترسّخت المواقف الاستئصالية وفاقت قوتها فترة ما قبل الانقلاب، لقد حصّل أنصار الانقلاب، بمن فيهم المعارضين المرتدّين عنه، مكاسب جمّة، إذ يعتبرون تحجيم حزب النهضة مكسبًا وإقصاء دستور 2014 أكبر المكاسب، فأين ستكون أرضية اللقاء؟
وعلى فرضية حلول مفروضة بقوة الدولة أو ما تبقّى منها، أو مفروضة بقوة خارجية على أسُس استئصالية (ونعتبر تقرير كارتر استئصاليًّا بامتياز)، فإن حكم البلد بالقوة لن ينتج حالة الاستقرار المطلوبة للحلّ الاقتصادي السريع، وسيضاعف الكلفة الاجتماعية والأمنية ويستدعي المزيد من القوة حد الاستنزاف. ولا نريد تخيُّل عمق الجروح التي ستبقى بعد كل مساس بسلامة الأرواح والأبدان
نرى التراجع الجماعي نحو دستور 2014 بأفق تعديله بشكل جماعي حلًّا مثاليًّا لم يثب إليه المتخاصمون بعد، ونرى مرحلة من الرقص عبر الدساتير تنتج المزيد من الأزمات، ولن نحسد من يدفع صدره للحكم في مثل هذه المرحلة ولن نشفق عليه أيضًا.