تزداد معاناة الشمال السوري إثر الزلزال المدمر الذي ضربه وجنوب تركيا فجر الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، وبلغت قوته 7.7 درجة على مقياس ريختر، ساعة تلو الأخرى، فالوضع تجاوز وصفه بالكارثي إلى ما هو أعمق من ذلك، فقرابة 4 ملايين سوري هم سكان محافظات الشمال يتأرجحون بين الموت تحت الأنقاض أو التجمد في ظل البرد القارس بينما يفتقرون للحدود الدنيا من البنية التحتية والصحية والمدنية التي تسعفهم في مواجهة هذا الدمار.
هذا الزلزال الذي خلف وراءه 3162 قتيلًا سوريًا وأكثر من 5685 مصابًا، مقابل 12873 قتيلًا و62937 مصابًا تركيًا، وفقًا لأحدث البيانات الرسمية صباح اليوم 9 فبراير/شباط 2023، حول مناطق بأكملها إلى تلال من الركام، وأضحاها مستوية مع سطح الأرض، خاصة البقاع الريفية في الشمال الغربي مثل سلقين وجنديريس وحارم وبسينا والدانا التي أصبحت وفق المسميات الإغاثية “مناطق منكوبة” وبحاجة ملحة إلى الإنقاذ العاجل قبل تفاقم الوضع الإنساني بها.
تتفاقم معاناة السوريين في الشمال مع صعوبة وصول الإمدادات الإغاثية لهم، ليدفعوا الثمن مرتين: مرة نتيجة الزلزال الكارثي غير المتوقع، وأخرى جراء التجاذبات السياسية التي أوقعتهم في دائرة حصار بين معابر أغلقت بفعل التدمير وأخرى محكم عليها بواسطة نظام الأسد وميليشياته.
في تلك الأثناء حيث الصور المأساوية والتفاصيل المؤلمة والوضع الإنساني المذري، الذي يتطلب التحركات العاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعيدًا عن أي أهداف أو أبعاد سياسية، يحاول الأسد توظيف المشهد لصالح حسابات شخصية، مستهدفًا تحقيق حزمة من المكاسب لكسر عزلته وإنهاء العقوبات المفروضة عليه دوليًا، حتى لو كان ذلك على حساب المزيد من الأرواح التي تلفظ أنفاسها الأخيرة مع كل ثانية تأخير في الإنقاذ والإغاثة.
“والله ماني رايح من هون الا بدي طالعك”
حوار تحت الركام، أثناء إنقاذ عائلة في قرية الرمادية غربي إدلب في أول يوم من زلزال سوريا 6 شباط.#الخوذ_البيضاء #زلزال_سوريا #سوريا pic.twitter.com/dTxR6XpfUJ
— الدفاع المدني السوري (@SyriaCivilDefe) February 9, 2023
الوضع صعب
يعيش الملايين الأربع سكان الإقليم الشمالي السوري على المساعدات الخارجية في الأساس بعدما تحولت كل المناطق إلى أطلال وركام لا مكان فيها لمورد من موارد الإعاشة، إثر المعارك الضارية بينهم ونظام الأسد وحلفائه على مدار أكثر من عقد كامل، الأمر الذي يجعل من تلك المساعدات شريان الحياة الوحيد للأهالي هناك.
وقد حددت الأمم المتحدة من خلال قرارها رقم 2156 لعام 2014 أربعة معابر يمكن من خلالها إدخال المساعدات لتلك المنطقة هم: معبر الهوى ومعبر باب السلام التركيان، ومعبران آخران على الحدود مع الأردن والعراق، لكن نظرًا للاعتراضات الروسية تحديدًا تم تقليص هذا العدد من المعابر إلى اثنين فقط، هما التركيان وفق القرار الأممي رقم 2504 لعام 2020.
ومع استخدام الفيتو الروسي ضد قرارات تمديد إدخال المساعدات من خلال تلك المعابر، اضطرت الأمم المتحدة لتبنّي قرار جديد في نفس العام (2020) حمل رقم 2533 يقضي بأن يكون معبر باب الهوى مع تركيا هو المعبر الوحيد لإدخال المساعدات، مع إمكانية إدخالها من الجهة الجنوبية حيث المناطق التي يسيطر عليها النظام، ما يعني مشاركة الأسد في منظومة المساعدات ومنحه الحق في التحكم في غذاء ودواء وشراب المناطق التي يقطنها خصومه من المعارضة والمدنيين.
وقد تعرّض طريق معبر باب الهوى، لتلفيات كبيرة بسبب الزلزال الذي دمر آلاف المباني في مدينة هاتاي الحدودية مع سوريا، ما تسبب في قطع المرافق كافة، ما دفع تركيا للجوء إلى السفن التابعة للجيش لنقل المعدات اللازمة لإزالة الركام الذي يغطي تلك المنطقة، ليعلن اليوم إصلاح الطرق وترميمها.
ضغوط الأسد
كثيرًا ما كان ينادي نظام الأسد بنقل المساعدات للشمال من خلال أدواته وليس عن طريق المعابر مع تركيا، غير أن تلك المناشدات كانت تقابل بالرفض والسخرية، فالنظام الذي لا يتورع عن قتل شعبه والتنكيل بهم ومحاصرتهم وقصفهم بالكيماوي والأسلحة المحرمة كيف يؤتمن إذًا على تقديم المساعدات لمن يعتبرهم خصومه وأعداءه.
غير أنه وفي ظل تلك الوضعية الصعبة، لا شك أن النظام سيحاول الضغط والابتزاز مرة أخرى لتحقيق مطلبه، بأن يكون شريكًا في تقديم المساعدات ومتحكمًا بها وعلى مرأى ومسمع منه، وهو ما أشار إليه الخبير في الشؤون السورية لدى مؤسسة “سنشري” أرون لوند بقوله: “من الواضح أن هناك نوعًا من الفرص يسعى الأسد لاستغلالها من هذه الأزمة، وهي إما أن تعملوا معي وإما من خلالي”، مشككًا في نية رئيس النظام في إيصال المساعدات، حيث أضاف “إذا كان (الأسد) ذكيًا، فإنه سيسهل إيصال المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرته وسيحصل على فرصة ليبدو كما لو كان شخصًا مسؤولًا، لكن النظام عنيد للغاية”، بحسب تصريحاته لـ”إندبندنت عربية”.
وكان سفير النظام السوري لدى الأمم المتحدة بسام صباغ قد طلب من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقديم مساعدات عاجلة لبلاده من أجل مواجهة الوضع المتفاقم، لكنه اشترط أن يتم إيصالها بالتنسيق مع دمشق وتسليمها عبر الأراضي السورية وليس عبر الحدود التركية، الموقف ذاته كان قد شدد عليه وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، قبل أسبوع تقريبًا حين أكد استعداد بلاده السماح بدخول المساعدات إلى جميع المناطق، بما فيها الشمال، شرط ألا تصل إلى المعارضة السورية التي وصفها بـ”الإرهابية”.
الغرب يرفض الابتزاز
ربما تخدم الصورة الحاليّة أهداف الأسد في توظيف الأزمة لصالح أهوائه وطموحاته السياسية، فمع صعوبة إرسال مساعدات من تركيا إلى الشمال السوري يزداد موقفه قوةً ورسوخًا، إلا أن القوى الغربية من الواضح أنها لن ترضخ لهذا الابتزاز، إذ لم تقدم حتى كتابة تلك السطور ما يفيد بتعاونها مع نظام الأسد في توصيل المساعدات رغم الواذع الإنساني المتدني.
وزارة الخارجية الأمريكية تؤكد أنها ستواصل تقديم المساعدات للسوريين في الشمال دون التواصل مع النظام الأسدي الذي تعده شريكًا أساسيًا في تدمير البنية التحتية الصحية والخدمية لسكان الإقليم، فيما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس للصحافيين: “من المثير جدًا للسخرية، إن لم يكن سيجلب نتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من 10 سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن كثير من المعاناة التي يعانيها الشعب”.
الإدارة الأمريكية أكدت أنها ستبذل ما في وسعها لتقديم المساعدة للمنكوبين داخل سوريا، رغم أنها لا تعترف بالحكومة السورية، فيما أشار المتحدث الإقليمي باسم الخارجية الأمريكية، صامويل وربيرغ، بأن بلاده تعمل على إيصال المساعدات مباشرة إلى الشعب السوري.
ويحاول إعلام الأسد تحميل العقوبات المفروضة على النظام مسؤولية عدم توصيل المساعدات، وأنها السبب في عرقلة إغاثة المنكوبين في الشمال، إلا أن المتحدث باسم الخارجية رد على ذلك بقوله: “ليس هناك أي عرقلة أو حواجز أمام إيصال أو تقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوري في أي مكان داخل حدود سوريا سواء بسبب عقوبات أمريكية أو أممية”، وأضاف أنه ليس هناك أي عقوبات على أي نوع من المساعدات الإنسانية سواء من الولايات المتحدة أم أي دول أخرى، حسبما نشرته صفحة السفارة الأمريكية على فيسبوك.
مساعدات الدول العربية إلى سوريا
ماذا وصل إلى مناطق النظام وماذا وصل إلى المحرر؟
تنويه: المحررة هي الأكثر تضرراً وأكثر بعدد الضحايا والأقل عدة وهي سابقاً منكوبة ومقصوفة#زلزال_سوريا pic.twitter.com/6JmjMVF51l
— قتيبة ياسين (@k7ybnd99) February 8, 2023
فقدان الثقة في النظام
رفض التعاون مع نظام الأسد بجانب أنه شريك أساسي فيما وصل إليه الوضع المتدني في الشمال وارتكابه جرائم ضد الإنسانية بحق شعبه لمجرد أنهم طالبوا برحيله، إلا أن هناك حالة من فقدان الثقة فيه بالكلية، فأي منطق هذا الذي يقول إن المجرم ينقذ ضحيته أو أن الضبع يقدم لفريسته ما يبقيها على الحياة وهو في أقسى درجات الجوع.
في تقرير تحت عنوان “إنقاذ المساعدات في سوريا” كشف مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية “CSIS” أن النظام السوري سرق 96% من المساعدات الإنسانية المقدمة من الأمم المتحدة للشعب السوري، لافتًا أن تلك المساعدات تم استخدامها طيلة السنوات الماضية لدعم جيش النظام وميليشياته.
التقرير المؤلف من 70 صفحة واستند إلى مقابلات مع مسؤولي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني في سوريا، أكد بالدليل القاطع أن النظام السوري استخدم تلك المساعدات كمورد اقتصادي جديد، وأن الأسد استغل سلطته للهيمنة على منظمات الإغاثة وسرقة القوافل الإغاثية لدعم جيشه وتوظيف أقارب كبار مسؤوليه داخل هيئات الأمم المتحدة، مستشهدًا بالمساعدات التي قدمتها تركيا على سبيل المثال في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فرغم وصول 1.3 مليون طرد من المساعدات لم يتم تسليم إلا 43 ألف و500 صندوق للمحتاجين، حسبما أشار التقرير.
الدول التي ترسل مساعدات انسانية لضحايا #زلزال_الشمال_السوري عن طريق النظام السوري.. هل هي غائبة أم مغيبة عن الواقع؟
المساعدات سوف يستولي عليها النظام السوري الذي هو من قتل وشرّد الشعب السوري طوال12 عاما..
ثم النظام ليست لديه السيطرة في المناطق التي وقع فيها الزلزال..#زلزال_سوريا
— جابر الحرمي (@jaberalharmi) February 8, 2023
الكاتبة السورية عالية منصور تشير إلى أن الأسد لن يسمح بمرور المساعدات الدولية المقدمة لمنكوبي الشمال، إذ يعتبر تلك المناطق إرهابية وخصوم سياسيين وأعداءً يحاربهم منذ عشر سنوات، لذا “فهناك يقين بأن ما يصل إلى الأسد لن يصل إلى السوريين، خاصةً مع الاتهامات الموجهة إليه بسرقة المساعدات وبالتعاون مع منظمات دولية أيضًا”، متسائلة عن إمكانية “الثقة بنظام يسرق حتى المساعدات المقدمة إلى مواليه، فكيف إن كانت مقدمةً إلى مناطق خارجة عن سيطرته؟” بحسب تصريحاتها لـ”رصيف 22″.
وفي تغريدة ساخرة لها على حسابها على تويتر كتبت تقول: “هل تعلمون أن بشار الأسد لم يعلن الحداد على السوريين ضحايا الزلزال؟ وهل تعلمون أن بشار لم يتوجه بالتعزية حتى لمؤيديه بالكارثة التي ألمت بالجميع؟ خرج عليهم ضاحكًا، ها قد أتته فرصة وإن كانت على أشلاء السوريين، ليتواصل معه بعض من رؤوساء الدول. يعزونه بموت السوريين وهو لا يعزي السوريين”.
هل تعلمون ان نظام بشار الاسد المسمى زورا من قبل البعض دولة، عندما يحصي عدد ضحايا الزلزال لا يأتي على ذكر الاف السوريين الذين قضوا بالزلزال ولكن في مناطق خارج سيطرته.. ألهذا المسخ تريدون ارسال المساعدات؟
— Alia Mansour عالية منصور (@aliamansour) February 8, 2023
مكاسب على جثث السوريين
بينما يفترض أن يفرض الوضع الحاليّ تعاملًا استثنائيًا مع تطورات المشهد الكارثي إنسانيًا، إذ إن العالقين تحت الأنقاض قد لا يعيشون لأكثر من 72 ساعة دون ماء تحديدًا، بحسب الخبراء والمتخصصين، إلا أن هناك إصرارًا واضحًا من نظام الأسد على إملاء شروطه لعبور المساعدات عبر أدواته هو.
ربما لا يجد الأسد فرصة كهذه لممارسة ضغوطه وابتزازه لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية وكسر العزلة المفروضة عليه منذ سنوات وإنهاء الحصار الدولي عبر عقوبات قيصر- قانون الكبتاغون -، الذي حوله إلى نظام منبوذ عالميًا إلا من حفنة من الدول المستفيدة من دعمه ومساعدته لتحقيق أهداف توسعية في المنطقة.
ووصلت إلى دمشق وحلب حتى اليوم مساعدات من أكثر من 10 دول عربية، من بينها طائرات محملة بالمساعدات من مصر والجزائر والعراق إيران وروسيا. وقد مكنت محنة الزلزال الأسد من التواصل مع عدد من قادة الدول العربية على رأسهم السيسي الذي اتصل هاتفيًا ببشار، ما يكشف رغبة هذه الدول في فك العزلة عن الأسد.
ورغم إشارة الولايات المتحدة إلى أن العقوبات المفروضة على نظام الأسد لا تتضمن المساعدات الإنسانية، سواء من أمريكا أم أي دول أخرى، ووصول مساعدات فعلية من دول عدة بلا أي عوائق، كما أشرنا، فإن أنصار النظام السوري يحتفون بتلك التحركات، معتبرين تمرير تلك المساعدات انتصارًا في معركة كسر الحصار الدولي، فيما خرجت أبواق الإعلام الموالي للأسد للمطالبة برفع العقوبات كلها.
وأشار رئيس هيئة التفاوض في المعارضة السورية بدر جاموس، إلى التوصل لحلول عاجلة لتأمين دخول المساعدات لمتضرري الزلزال في الشمال السوري من معابر السلامة والراعي وباب الهوى شمال البلاد بعد التواصل مع الحكومة التركية، حسبما غرد على حسابه على تويتر.
بعد التواصل المستمر مع الحكومة التركية تم السماح بإدخال المساعدات من معبر باب السلامة والراعي بالإضافة لباب الهوى المدخل الرئيسي, نطالب الدول والمنظمات الدولية بالتحرك العاجل والفوري لنجدة أهلنا المنكوبين في ريفي إدلب وحلب.#زلزال_سوريا
— د بدر جاموس Dr Bader Jamous (@JamousBader) February 8, 2023
على الورق تشير لغة الأرقام إلى أن تركيا هي الأكثر تأثرًا بالزلزال المدمر، فأعداد الضحايا ربما يتجاوز أربعة أضعاف ما هي عليه في الشمال السوري، لكن الأرقام وحدها لا تعبر عن حقيقة المشهد، فالتراجع في إغاثة السوريين وتردي البنية الصحية وحرمانهم من المساعدات العاجلة، مقارنة بالوضع على الجانب التركي، قد يقلب الطاولة خلال الساعات المقبلة، خاصة أن قرى بأكملها في الشمال الغربي قد تم تسويتها بالأرض ومن المرجح تزايد أعداد الوفيات إن لم يكن هناك تحركات عاجلة للإنقاذ.
الرهان على استجابة نظام الأسد للوضع الحاليّ وإحياء ضميره الإنساني الميت، رغم احتمالية تبييض صورته المشوهة من خلاله إذا سمح بعبور المساعدات أي كانت الطريقة، رهان غير مرجح، فالنظام الذي استعذب قتل معارضيه وتلذذ بالتنكيل بهم لا يمكنه أبدًا أن يمنحهم طوق النجاة من الموت حتى إن كان بتلك الطريقة المفجعة، إلا شريطة تحقيقه مكاسب سياسية ترسخ أركانه، وعليه لا بد من طرح العديد من التساؤلات بشأن ضرورة وسرعة إيجاد صيغ للتنسيق من أجل إيصال المساعدات برعاية أممية أمريكية روسية تركية لإنقاذ الوضع قبل الخروج عن السيطرة.
وبين فريق يرفض التعامل مع نظام الأسد، مرسلًا مساعداته لأنقرة، وآخر يصر على منح الأسد قبلة الحياة عبر كسر الحصار وإرسال المنح والدعم لدمشق مباشرة، يقبع الملايين من المكلومين في الشمال السوري ضحايا هذا الجدل الذي إذا لم يحسم في أسرع وقت سيخرج الوضع عن إطاره المتوقع، فحجم الكارثة النهائي لم يظهر بعد، والقادم ربما يكون أكثر مأساوية حال استمر المشهد على صورته الراهنة.