لا يبدو أن حكومة بنيامين نتنياهو، رئيس الكيان الإسرائيلي، ستصمد حتى انتهاء فترتها الانتخابية الخاصة بالكنيست الإسرائيلي، في ظل الأزمات الداخلية التي تعصف بها والتظاهرات العارمة من قبل الأحزاب المحسوبة على الوسط واليسار.
تحظى حكومة نتنياهو بدعم 64 من أعضاء الكنيست من أصل 120، علمًا أن 38 من الأعضاء الداعمين للحكومة الجديدة ينتمون إلى اليمين الديني المتطرف، والتيارات الدينية والحريدية، و14 منهم يقطنون في المستوطنات بالضفة الغربية المحتلة.
ورغم التنازلات التي قدّمها حزب الليكود -الذي حصل على 32 مقعدًا في انتخابات الكنيست الأخيرة-، إلا أن نتنياهو يسعى إلى التحكم بمقاليد حكومته، في وقت ظهرت الخلافات مبكّرًا إلى السطح مع حزب “الصهيونية الدينية” برئاسة بتسلئيل سموتريتش (7 مقاعد)، وحزب “عظمة يهودية” برئاسة إيتمار بن غفير (6 مقاعد)، الذي يتولى حقيبة الأمن القومي.
وللمرة الأولى باتت تُسمَع في دولة الاحتلال جديًّا تعبيرات “الحرب الأهلية” و”زلزال شعبي” و”يشعلون النار في البلاد”، فالأحزاب الوسطية واليسارية قلقة من هيمنة الأحزاب اليمينية الدينية واليمينية الوطنية على مقاليد الحكم في البلاد.
وفي المعارضة، يعتبرون ما تنفّذه الحكومة حاليًّا “انقلابًا”، ويحذّرون من “حرب أهلية”، ولذلك يدعون الإسرائيليين إلى الخروج إلى الشوارع للاحتجاج، وهو ما حصل على مدار الأسابيع الستة الماضية حين تظاهر مئات الآلاف في عدة مدن.
يمثل الحريديم فئة السكان الأسرع نموًّا في “إسرائيل”، ويكرّسون أوقاتهم لدراسة الشريعة اليهودية بدل الذهاب للعمل، وهم تيار ديني متشدد جدًّا.
هذا الخلاف بدأ مع منح الكنيست صلاحيات واسعة لزعيم حزب “القوة اليهودية”، اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، كوزير للأمن القومي، مرورًا بتصريحات نواب من الأحزاب اليمينية الدينية عن تطبيق الشريعة اليهودية في البلاد، وصولًا إلى إعلان وزير العدل ياريف ليفين، وهو من قادة حزب الليكود بزعامة نتنياهو، عمّا أسماها خطة الإصلاح القضائي.
وأحدثت رسالة وجّهها 100 مؤرّخ إسرائيلي هزة بالنسبة إلى الإسرائيليين، حينما حذّروا من حكم نتنياهو واعتباره “خطرًا استراتيجيًّا على “إسرائيل””، إلى جانب الإشارة إلى أن الحكومة الحالية بوضعها خطة لإضعاف جهاز القضاء، إنما تشكّل خطرًا على الأمة الإسرائيلية.
وقالوا في رسالتهم: “منذ تشكيل دولة “إسرائيل”، جاء إليها المهاجرون لـ 3 أسباب أساسية: لأنهم فرّوا من ملاحقات، لأنهم سعوا إلى تحسين وضعهم الاقتصادي، ولأنهم بحثوا عن مكان يمنح حياتهم مضمونًا وجوديًّا وشعورًا بالانتماء، وتخضع جميع هذه الأهداف للتهديد حاليًّا”.
وأشاروا إلى أنه “عندما يهدد الحكم مواطنيه بسحب حقوق في المساواة وبمحاكمة نزيهة، فإن النتيجة التي لا يمكن منعها بإصلاحات قضائية هي تغييب التكتُّل الاجتماعي وشعور الانتماء، ليحلَّ مكانهما شعور بالاغتراب والعداء. والإصلاحات المقترحة تهدد الاقتصاد الإسرائيلي أيضًا”.
وتطرّقت عريضة المؤرخين إلى الاتفاقيات الائتلافية، وتقسيم مسؤوليات وزارة الأمن بين 3 وزراء (غالانت وسموتريتش وبن غفير)، وقالوا إن “من شأن ذلك أن يعيد “إسرائيل” إلى فترة الميليشيات الصهيونية المتناحرة قبل عام 1948″.
وخلصت العريضة إلى القول: “نحن كمؤرّخين يبحثون في تاريخ الشعب اليهودي، نتابع تواصل وجوده، ومميزات الدولة وصورة المجتمع في “إسرائيل” في السياقات الواسعة: صورة الوضع مثيرة جدًّا للقلق، ومنذ بداية وجودها لم تحدث في دولة “إسرائيل” أزمة عميقة بهذا الشكل، ينطوي بداخلها خطر داهم على وجود الدولة”.
الأزمات الداخلية.. التفكُّك الداخلي
بعد فوز كتلة الائتلاف بقيادة نتنياهو، زعيم الليكود، بالأغلبية البرلمانية في الكنيست الإسرائيلي، احتد الانقسام الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، فإضافة إلى الانقسام العرقي ثمة انقسام آخر بين العلمانيين والمتطرفين التوراتيين، وأهدافهم في تحويل “إسرائيل” إلى دولة دينية عقيدتها شعب الله المختار لدولة من النيل إلى الفرات.
وهذا المنطق يتعارض مع النظرة العلمانية لكون “إسرائيل” في اعتقادهم وفي تحليلهم دولة ديمقراطية تلتزم بالقانون الدولي ومبادئ جينيف عام 1947 وعام 1949، وعدم التمييز في صفة المواطنة، علمًا أن سكّان ما يُسمّى “إسرائيل” ينتمون إلى أكثر من عرق وقومية ودولة، وهناك التمايز الاقتصادي والثقافي والاجتماعي بين سكانها.
الخلاف الآن في الاحتلال حول خطة يقدمها وزير العدل الإسرائيلي تسمّى “إصلاحات القضاء”، ما يعتبره العلمانيون انقلابًا على ماهية الحكم، فيما يبرر المعارضون لفكرة الإصلاح القضائي بأنها محاولة من نتنياهو السيطرة على المحكمة الدستورية العليا بإضافة 7 أفراد و7 قضاة إلى الثلاثة القائمين في مجلس المحكمة الدستورية العليا.
بينما اتهم آخرون نتنياهو بتقديم تلك الإصلاحات لتقويض النظام القضائي، بتغيير التركيبة القضائية والسيطرة على القضاء وانتهاء حقبة الفصل بين السلطات، ما يعتبَر تغييرًا في جوهر نظام الحكم.
اللافت أن نتنياهو ووزير العدل، ياريف ليفن، متهمان سابقًا بالفساد وخيانة الأمانة، والتعديل المطلوب يعني حذف جملة الفساد (خيانة الأمانة)، وبالتالي ترفَع جميع القضايا والتحقيقات الخاصة بهم، ويضيف المعارضون أن هذا القانون يسيء دوليًّا وإنسانيًّا لكيانهم.
ولكن الأبرز في هذا الموضوع تصريح رئيس المحكمة العليا السابق، القاضي أهارون بارك، بأن تقويض المحكمة العليا بداية نهاية “الهيكل الثالث”، وهو مصطلح توراتي لوصف زوال الاحتلال الذي نوّه به سابقًا نتنياهو، عندما قال ربما نستطيع الوجود لأكثر من 70 عامًا.
اللافت هنا أن الحديث عن انهيار الكيان الإسرائيلي تصاعد كثيرًا في العام الأخير، سواء كان ذلك من وزراء حرب إسرائيليين سابقين أو حتى مسؤولين في الجيش، حيث يتمّ الربط بين الانهيار المتوقع والمزعوم وأن دولتَي “اليهود” السابقتَين لم يتخطَّ عمرهما 80 عامًا.
وذهب البعض في الاحتلال إلى إطلاق وصف “لعنة الثمانين” على عدم تجاوز دولتهم عقدها الثامن، على اعتبار أنه وعلى مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 عامًا إلا في فترتَين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتَين كانتا بداية تفكّكها في العقد الثامن.
من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.. التطرُّف الديني
يمكن الإشارة إلى أن الخطوط العريضة لجميع حكّام الاحتلال متقاربة، سواء كانوا وسطًا أو يسارًا، غير أن اللافت هذه المرة اتجاه المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف الديني أكثر، والميل نحو الأحزاب اليمينية بطريقة مغايرة عن السابق.
فبعد أقل من عامَين على حكم اليسار، عاد اليمين واليمين الديني المتشدد للصعود في نتائج الانتخابات بأرقام مغايرة عمّا كان يحصل في السابق، وهو ما يعكس بالنسبة إلى مراقبين الاتجاه المتصاعد نحو التطرف الديني في الاحتلال.
ويعتمد تشكيل حكومة نتنياهو على الأحزاب اليهودية (الحريدية)، ما عكسَ تعاظم قوة التيار الديني في المجتمع الإسرائيلي، وتعزيز نفوذه سياسيًّا واجتماعيًّا، وانتقال مجتمع اليهود المتدينين (الحريديم) من العزلة والتهميش إلى الحكم.
وتسعى الأحزاب الحريدية الرئيسية (شاس ويهودية التوراة) الممثّلة بـ 18 مقعدًا في الكنيست، إلى توظيف قوتها السياسية للتوغُّل بمفاصل الحكم، الأمر الذي يمكّنها من التأثير على الهوية الإسرائيلية برمّتها، من دولة “يهودية ديمقراطية” كما تعرّف نفسها، إلى دولة تتطلع إلى الحكم بموجب التوراة والشريعة الدينية اليهودية.
ويضيء تنامي التيار الحريدي المتشدد دينيًّا على الصراعات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، خاصة مع عدم حسم مسألة الهوية اليهودية للدولة، وبسبب غياب هوية موحّدة ومتجانسة لليهود في فلسطين، الذين انقسموا بين علمانيين ويهود تقليديين ومتدينين يعبّر عنهم الحريديم ومَن يسمّون أنفسهم بالقوميين.
ويُظهر هذا الخليط المجتمعي تناقضات بين مركّبات الهوية الإسرائيلية التي تضمّ الديانة اليهودية والقومية والصهيونية والديمقراطية، وهو مزيج يرفضه التيار الحريدي الذي يتمسّك بالديانة اليهودية والتوراة كهوية واحدة لـ”إسرائيل”.
ويمثل الحريديم فئة السكان الأسرع نموًّا في “إسرائيل”، ويكرّسون أوقاتهم لدراسة الشريعة اليهودية بدل الذهاب للعمل، وهم تيار ديني متشدد جدًّا، وتعني كلمة الحريدي “التقيّ”، ويتنكّر هؤلاء اليهود للصهيونية، ويعيش غالبيتهم في فلسطين التاريخية والولايات المتحدة.
ويتمسّك الحريديم بالنصوص التي وردت في التوراة والتلمود وبتعاليم الحاخامات، ويجمعون أن دولة “إسرائيل” وحياة اليهود فيها يجب أن تحكمهما الشريعة اليهودية والتعاليم التوراتية، وليس مبادئ الديمقراطية وقِيَم الصهيونية والقوانين التي شرّعها الإنسان، وعليه يوظفون نفوذهم السياسي لفرض هذه التعاليم على الحياة اليومية للإسرائيليين.
سيناريوهات.. هل يتكرر سيناريو رابين؟
أمام تصاعد حدة الخلافات الإسرائيلية الداخلية، وحالة التراشق الإعلامي والكلامي بين أفراد الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه نتنياهو والمعارضة بقيادة يئير لابيد، تبرز التحذيرات من الدخول في حرب أهلية أو تعرُّض أفراد من الائتلاف الحكومي للاغتيال.
ويعود هذا السيناريو إلى عملية اغتيال رئيس وزراء الاحتلال الأسبق إسحاق رابين، الذي وقّع على اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وهو ما دفع بالمنظومة الأمنية الإسرائيلية إلى إطلاق جرس التحذيرات من خطورة التراشق الإعلامي.
وأما بخصوص ما يجري، فإن سيناريو الحرب الأهلية قد لا يبدو مستبعدًا في ظلّ ازدياد الاستقطاب داخل المجتمع الصهيوني، وارتفاع حدة التحريض بين الفئات السياسية والاجتماعية والحزبية المتعارضة، وذلك على خلفية إصرار حكومة نتنياهو السادسة على تمرير خطة المؤسسة القضائية.
وفي ظل الحديث عن الاغتيالات، يجب الإشارة إلى دعوة الطيار الإسرائيلي، زئيف راز، الذي شارك في قصف المفاعل النووي العراقيّ في يونيو/ حزيران 1981، إلى اغتيال نتنياهو، في حال واصل تنفيذ خطة “الانقلاب” على المؤسسة القضائية.
وجاء هذا التهديد، الذي أثار عاصفة سياسية في الدولة العبرية، في مدونة نشرها الجنرال بالاحتياط راز، وهو أحد قادة الاحتجاج ضد نتنياهو، على صفحته في موقع فيسبوك، وجاء فيها: “إذا حصل رئيس الوزراء على سلطات ديكتاتورية، فهو ووزراؤه يجب قتلهم”، على حدّ تعبيره.
في الوقت ذاته، لم يكن هذا التهديد وحيدًا، بل تبعه تهديد للمحامي دافيد حوديق، أحد أهم وأشهر المحامين في المجال الاقتصادي في “إسرائيل”، حيث هدد الأسبوع الماضي بأنه سيلجأ إلى استخدام السلاح الناري حتى يمنع تحويل “إسرائيل” إلى دولة ديكتاتورية، الأمر الذي أثار عاصفة في تل أبيب دفعت شرطة الاحتلال للتحقيق معه بتهمة التحريض على القتل.
الفلسطينيون ورؤيتهم.. رحيل الأحزاب الصهيونية؟
أما الفلسطينيون فيراقبون عن كثب وقرب ما يجري في الاحتلال، لا سيما في ضوء التصعيد الكبير الذي تقوم به الحكومة الحالية، والتي عملت على تغيير التعامل الاستراتيجي في سياستها مع القضية الفلسطينية من “إدارة الصراع” إلى “حسم الصراع”.
ورغم أن الخلافات لم تبلغ ذروتها إسرائيليًّا، إلا أن الفلسطينيين يأملون أن تنهار هذه الأحزاب والائتلاف الحكومي سريعًا، لوقف حالة الاستفراد بالقضية الفلسطينية، في ظل حالة عدم الاهتمام بهذا الملف دوليًّا أمام ملف الحرب الأوكرانية والملف النووي الإيراني.
داخليًّا لا يمتلك الفلسطينيون أي رؤية رسمية بشأن التعامل مع الأحزاب الإسرائيلية، سواء الائتلاف الحكومي أو حتى ما يجري من إشكالات، باستثناء الحديث عن ضرورة تجنيب الفلسطينيين أي محاولة إسرائيلية للهروب من الأزمات الداخلية نحو الدم الفلسطيني.
بالعموم، لا يبدو أن حدة الخلاف الإسرائيلي ستقف عند هذا الحد، وستشهد الفترة المقبلة مزيدًا من الإشكالات مع إصرار الائتلاف على تمرير التعديلات القضائية، وهو ما قد يفجّر “ثورة” عارمة داخل الاحتلال تدفع نحو الاقتتال.