ما زالت المحكمة الاتحادية تمارس مزيدًا من الإجراءات القانونية حيال إقليم كردستان، فبعد سلسلة من القرارات التي اتخذتها المحكمة، والتي بدأت منذ فبراير/ شباط العام الماضي عندما أبطلت المحكمة قانون النفط والغاز الخاص بالإقليم، أصدرت الشهر الماضي قرارًا يقضي بإيقاف تحويل الأموال إلى الإقليم من الحكومة المركزية في بغداد، فضلًا عن قرار أصدرته المحكمة مطلع الأسبوع الجاري، والذي يقضي ببطلان عملية التمديد لبرلمان إقليم كردستان، لتدفع هذه القرارات العلاقة بين بغداد وأربيل إلى نفق مسدود.
ممّا لا شكّ فيه أن المسحة السياسية واضحة على هذه القرارات، خصوصًا أنها تأتي بناءً على دعاوى قضائية تقدّمَ بها نواب محسوبون على الإطار التنسيقي الشيعي، كما أنها تأتي في ظل أزمة سياسية تعصف بالعلاقات بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والإطار التنسيقي حول العديد من الملفات، أبرزها ملف النفط والغاز، والمناطق المتنازع عليها، وحصة الإقليم من الموازنة العامة للدولة.
إلى جانب ما تقدم، يشهد الإقليم هو الآخر أزمة داخلية متصاعدة، خصوصًا على مستوى العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، بعد أن أصدرت محكمة أربيل الأسبوع الماضي قرارًا لصالح لاهور الشيخ جنكي وإعادة منصب الرئاسة المشتركة داخل الاتحاد مع بافل طالباني، ما دفع الاتحاد الوطني إلى إلغاء اجتماع كان مقررًا مع الحزب الديمقراطي.
ورغم الدور الذي لعبته الإدارة الأمريكية في تهدئة الأجواء بين الطرفَين، إلّا أن الخلافات ما زالت متواصلة حول ملفات عديدة، أهمها إجراء الانتخابات البرلمانية الكردستانية، ووضع صيغة جديدة لتقاسم النفوذ والإيرادات داخل الإقليم، وتحديد هيكل الإدارة داخل الإقليم، وما زاد هذا الوضع تعقيدًا هو تلويح طالباني بإعادة النظر بوضع السليمانية الإداري داخل الإقليم، ما يهدد بدوره وحدة الكيان الكردي.
إيران في الخطوط الخلفية
إن القرارت التي اتخذتها المحكمة الاتحادية تمثّل بدورها انقلابًا على المكتسبات السياسية التي تحصّل عليها الأكراد في العراق بعد عام 2003، وانتقاصًا من شراكتهم مع الحكومة المركزية، وسعيًا لوضع اليد على مكاسبهم التي تحقّقت من خلال العملية السياسية.
وممّا لا شكّ فيه أن بعض قوى الإطار التنسيقي المقرّبة من إيران تريد معاقبة الإقليم بسبب مواقفه ورفضه لعب دور الشرطي على حدودها الغربية، وعدم الاستجابة لمطالبها بتسليم عناصر كردية إيرانية معارضة لها، فضلًا عن عدم رضاها عن تعاملاته الخارجية، لتنسف بذلك حلقات التواصُل بين بغداد وأربيل، وتدفع الإقليم إلى التصعيد والعودة إلى خطاب الانفصال.
وممّا يزيد من تعقيد هذا الوضع هو محاولة إيران جعل ملف المعارضة الكردية الإيرانية بمثابة أداة مهمة لتصفية الحسابات مع الإقليم أيضًا، حيث تطمح إيران إلى احتواء تحركات إقليم كردستان في ملف تصدير الغاز، والعلاقة مع تركيا و”إسرائيل” ودول الخليج، أو حتى في دور الإقليم بالعملية السياسية العراقية.
وقد بدا هذا واضحًا في تصريحات قادة الحرس الثوري التي تشدّد على تهديد أمن الإقليم، فكلما أصبحت الاحتجاجات في الداخل الإيراني تمثّل تهديدًا وجوديًّا للنظام، كلما زادت إيران من تهديداتها لإقليم كردستان، كون التحديات التي يواجهها العراق حاليًّا، وتحديدًا على المستوى السياسي والاقتصادي، توفّر بيئة مناسبة لتهريب الأزمة، في ظل عجز الإقليم عن مواجهة الاعتداءات الإيرانية أو حتى إيقافها.
ردود فعل أولية للإقليم
بالتوافق مع قرارات المحكمة الاتحادية، بدأت دعوات كردية تظهر للعيان، والتي بدأت تطالب بضرورة إعادة النظر بهيكلية المحكمة الاتحادية، بسبب قرارات عديدة اتخذتها ضد الأحزاب والحكومة في الإقليم.
وكان أبرز هذه الدعوات هي دعوة القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، فاضل ميراني، الذي اعتبرَ أن المحكمة الاتحادية قوّضت مبدأ الفصل بين السلطات، وأصبحت هي السلطة الوحيدة في البلاد.
وأضاف أن العراق لديه حكومة لكن ليست لديه دولة، لأنّ الدولة من ناحية المفهوم السيادي والقانوني لديها مقومات، و”دولتنا فاقدة لتلك المقومات وليس بمقدورها إعادتها مرة أخرى”، مردفًا بالقول: “نحن نتحدث عن السيادة والاستقلال، وكلاهما مفقودان في العراق”.
إلى جانب ما تقدّم، أدّى التصريح الذي أدلى به الرئيس المشترَك للاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، حول كركوك إلى إثارة ردة فعل عنيفة حياله، إذ قال إن “كركوك كانت قدس كردستان وستظل كذلك”، إذ استنكرت هيئة الرأي العربية في كركوك تصريح طالباني بشأن المحافظة، ووصفت الهيئة هذه الأحلام بـ”حلم إبليس بالجنة”، وطالبت القضاء العراقي بوضع حدّ لهكذا تصريحات.
إن العلاقة بين بغداد وأربيل تتجه يومًا بعد آخر نحو التصعيد، وهو ما بدا واضحًا في النسق التصاعدي لقرارات المحكمة الاتحادية من جهة، وطبيعة الأزمة المعقّدة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والإطار التنسيقي من جهة أخرى.
ورغم الجهود التي يبذلها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني في التخفيف من حدة هذه الأزمات، إلّا أنه على ما يبدو لا يملك ذلك الهامش الكبير لاحتواء الأزمة، فهو بالنهاية مرهون بقرارات قوى الإطار التنسيقي الداعمة له، كما أنه لا يستطيع الذهاب بعيدًا بخياراته السياسية، بسبب أزمة داخلية يعاني منها الأقليم أيضًا.
هذا الواقع يشير بما لا يقبل الشك إلى أن حكومة الإقليم ستجدُ في عملية التلويح بالانسحاب من العملية السياسية خيارًا مطروحًا ومرجّحًا في المرحلة المقبلة، فقرار المحكمة الاتحادية الأخير والخاص ببطلان دستورية عمل برلمان إقليم كردستان، وجّه ضربة قوية لحكومة الإقليم التي تعتزم تعضيد قانون نفط وغاز الإقليم، بما يمنحها مزيدًا من الاستقلالية عن الحكومة المركزية، أو حتى في إمكانية الدعوة لإجراء انتخابات جديدة.
وهذا يجعل حكومة الإقليم معدومة الخيارات إلى حدٍّ بعيد، وإذا ما وجدت أن خيار الانسحاب قد لا يحقق رغباتها السياسية، قد تعيد طرح موضوع الانفصال مرة أخرى، لكن مع توفُّر بيئة داعمة له هذه المرة.