مرت خمسة أيام على الزلزال المدوي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، فجر الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، وبلغت قوته 7.7 درجة على مقياس ريختر، الذي أودى بحياة أكثر من 24 ألفًا وخلف عشرات آلاف المصابين، وامتدت تداعياته لتشمل الملايين من المشردين والنازحين، ولا تزال أصداؤه تخيم على الأجواء، في الداخل والخارج.
وتجاوز عدد ضحايا الزلزال الذي يعد أحد أكبر الكوارث في تاريخ تركيا بحسب الرئيس رجب طيب أردوغان حاجز الـ21 ألف قتيل، فيما بلغ عدد المصابين أكثر من 80 ألفًا على الجانب التركي، مقابل 3 آلاف و637 قتيلًا و7216 مصابًا على الجانب السوري وفقًا لأحدث البيانات الرسمية.
الأرقام ليست نهائية فالأعداد تتزايد بين الساعة والأخرى في ظل استمرار عمليات الإنقاذ، وسط مخاوف من كارثية الحصيلة النهائية لتلك المأساة التي أوجعت معظم دول العالم، حكومات وشعوب، ما دفعها لتنحية التوجهات السياسية جانبًا – ولو مؤقتًا -، والمبادرة بإرسال مساعدات وفرق إنقاذ على وجه السرعة، استجابة للنداء الإنساني المقدم بطبيعة الحال على أي مسارات أخرى.
يبدو أن السياق الإنساني وحده لن يكون عنوان الكارثة، فبينما يطالب الجميع بموقف موحد لمواجهة ما حدث بصفته محطة فاصلة في تاريخ الدولة تستدعي تماسك الجبهة الداخلية في مواجهة الارتدادات والتداعيات المحتملة، وهو المعتاد في مثل تلك الظروف الاستثنائية التي تمر بها الشعوب والأمم، إذ بأصوات عدة تُعلي نبرتها مغردة خارج السرب، أصوات صادرة عن قادة المعارضة تحمل بين طياتها سهام نقد لاذعة تحت ذريعة أن هناك أفضل مما كان، لتأخذ الأزمة مسارًا آخر، حيث إرهاصات معركة سياسية جديدة يحاول فيها كل طرف توظيف المشهد لحسابات شخصية، وذلك قبل أن تجف دماء الضحايا ولم تنته بعد أعمال التنقيب والإنقاذ بحثًا عن ناجين.
حملة انتقادات
منذ الساعات الأولى للكارثة، وبينما كان الجميع منهكًا ومشغولًا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كان لرموز المعارضة رأي آخر، رأي متعارف عليه في علوم السياسة، حيث استغلال كل التطورات والأحداث لخدمة الأجندة واستهداف النظام الحاكم، حتى لو كانت ذات بعد إنساني، فالمسارعة لانتقاد الرئيس وحزبه كانت الفرصة التي ارتأت المعارضة ألا تضيعها مهما كان الثمن.
زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كيليجدار أوغلو، حمّل الرئيس رجب طيب أردوغان مسؤولية ما حدث، معلقًا بقوله: “إذا كان هناك شخص مسؤول عن هذا بشكل رئيسي، فهو أردوغان”، مضيفًا “خلال 20 عامًا، هذه الحكومة لم تعد البلاد لزلزال”، مشيرًا إلى تقدمه بطلب رسمي لزيارة رئاسة إدارة الكوراث والطورائ التركية، لكنه لم يتلق ردًا على حد قوله.
وشاركه في الاتهام رئيس حزب النصر المعارض، أومت أوزداغ، الذي انتقد ما أسماه “الأداء البطيء للحكومة” تجاه الاشخاص العالقين تحت أنقاض المباني المدمرة، فيما نشر مقطعًا مصورًا على حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي عنون له بـ”أين هي الدولة”، فيما اتهم رئيس حزب العمال، أركان باش، الحكومة بـ”الكذب والغش والتلاعب بالأرقام والإحصاءات وهدر المال العام على أمور غير ضرورية بدلًا من موضوع الزلازل في تركيا”.
أما رئيس حزب الوطن، محرم أنجة، فتناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي له مقطعًا مصورًا يقول فيه: “أنا الآن في شوارع كهرمان مرعش لا أشاهد الشرطة، لا أشاهد قوات الإغاثة، لا توجد بطانيات ولا يوجد حتى شوربة ساخنة ولا توجد دولة أصلًا!”.
حالة تربص وتوتر
حالة التربص كانت واضحة بين الحكومة والمعارضة في التعامل مع الزلزال، لعل من أبرز ملامحها محاولة السلطات التركية تفويت الفرصة على المعارضة لاستغلال ما حدث لتأجيج الشارع التركي، وهو ما تمثل في حجب موقع تويتر لبضع ساعات بالتزامن مع زيارة أردوغان للمناطق المنكوبة، ثم إعادته مرة أخرى لاحقًا.
وخلال زيارته لكهرمان مرعش، المدينة التي كانت مركز الزلزال، الأربعاء 8 فبراير/شباط الحاليّ، حرص أردوغان خلال خطابه هناك على توجيه عدة رسائل للمعارضة والشارع التركي معًا، تحذر من استغلال ما حدث لأغراض بعيدة عن المأساة ولحساب أجندات خاصة، موجهًا خطابه للصحفيين قائلًا: “لا أريد أن أمنح الفرصة للاستفزازت.. لا يجب أن تمنحهم وسائل الإعلام الفرصة، الآن هو وقت الوحدة”.
الكارثة التي تشهدها تركيا الآن ربما تكون محطة مفصلية لما هو قادم، يتوقف ذلك على إدارة أردوغان لها وقدرته على العبور بها إلى بر الأمان بأقل الخسائر الممكنة
وبلغ الأمر، أن تجاهل أردوغان التواصل بداية الأمر مع الحكام المحليين للأقاليم المنكوبة الذين ينتمون للمعارضة، لكنه سرعان ما تراجع عن هذه الخطوة التي وصفت بـ”غير الجيدة”، إذ أفادت تغريدة من مكتب الرئيس تشير إلى أنه تحدث مع عمدة مدينة هاتاي المنتمي لحزب الشعب الجمهوري.
وتضمن الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي التأكيد على قوة الدولة وقدرتها على عبور الأزمة، متعهدًا ببذل كل ما في وسعها للتخفيف من حدة الأضرار الواقعة على المنكوبين، وعدم تحميلهم أي أعباء بشأن إعادة بناء منازلهم المهدمة، مطالبًا الشارع بكل أطيافه بالتعاون والتوحد في مواجهة تلك الكارثة التي وصفها بأنها واحدة من أخطر الكوارث في تاريخ الدولة التركية، وهي الرسائل التي قرأها البعض تصديًا لسهام المعارضة ومحاولة استغلالها للموقف.
محطة مفصلية
خبراء يرون أن الكارثة التي تشهدها تركيا الآن ربما تكون محطة مفصلية لما هو قادم، يتوقف ذلك على إدارة أردوغان لها وقدرته على العبور بها إلى بر الأمان بأقل الخسائر الممكنة، إذ يعتبرونها سلاحًا ذا حدين، إما أن يرسخ أركان حزب العدالة والتنمية الحاكم ويحجز مقعدًا مضمونًا في السلطة خلال الفترة القادمة، وإما أن يخسر كل شيء.
الخبير من مكتب “تينيو” للاستشارات حول المخاطر السياسية ومقره لندن، وولفانغو بيكولي، قال في مذكرة مكتوبة له: “استجابة فعالة للحالة الطارئة قد تعزز رئيس الدولة وحزبه، حزب العدالة والتنمية، من خلال إثارة شعوره بالتضامن الوطني بقيادته”، فيما حذر الباحث في مركز السياسة الخارجية بلندن، إمري كاليسكان، من أن إخفاق أردوغان في الاستجابة للأزمة ربما يخسره الانتخابات المقبلة المقررة في مايو/آيار، حسبما نشرته “فرانس 24”.
وتستند التحليلات بشأن تداعيات الأزمة الحاليّة وقدرتها على تغيير المشهد مستقبلًا إلى سيناريو 1999 حين تعرضت تركيا لزلزال مشابه (زلزال أزميد أو زلزال مرمرة أو زلزال غولكوك) في 17 أغسطس/آب، أودى بحياة 17 ألف مواطن، (هناك مصادر أخرى تقول إن العدد تجاوز 45 ألف) حينها وجهت الانتقادات الحادة للتحالف الحكومي متهمة إياه بالتخاذل وبطء الاستجابة، وهو ما أغضب الشارع التركي وكان ذلك أحد أسباب فوز حزب العدالة والتنمية، الوليد حينها، بثقة الشارع التركي في أول انتخابات يخوضها عام 2002.
الكارثة التي ضربت تركيا مؤخرًا تمثل امتحانًا لقيادة أردوغان، وطريقة رده عليها ستحدد طبيعة المواقف منه
ويبدو أن أردوغان يتذكر هذا السيناريو جيدًا، ويتجنب قدر الإمكان الولوج في ذات المستنقع وتكرار أخطاء الماضي، وهو ما دفعه للتحرك الفوري والاستجابة العاجلة لزلزال كهرمان مرعش منذ الثواني الأولى، حيث قام بتعبئة سريعة لكل الموارد، وفتح حدوده لاستقبال المساعدات الدولية عكس ما كان عليه الوضع في 1999، ما فاقم الكارثة وقتها، كما أمر بحزمة مساعدات عاجلة قيمتها 100 مليار ليرة (5.3 مليار دولار)، ما يشير إلى فارق كبير بين إدارة الأزمة قديمًا واليوم.
ومن الاختلافات الواضحة بين زلزالي 1999 و2023، أن الانتقادات الموجهة للحكومة هنا تتعلق بسرعة الاستجابة من عدمها والإعداد المسبق للتعامل مع مثل تلك الكوارث، دون التطرق إلى المواصفات الرديئة للمباني وعدم وجود معايير سلامة جيدة، كما كان قبل 24 عامًا، وهو ما يؤمن الشعب التركي، حكومة ومعارضة، أنه تغير كثيرًا اليوم بعد حزمة الاشتراطات والمعايير الموضوعة منذ سنوات بشأن مواصفات البناء والتشييد.
ورقة انتخابية
رغم التوتر والتربص بين الحكومة والمعارضة إزاء تلك الأزمة، فإن الأخير وعبر تحالفه الذي يقوده حزب “الشعب الجمهوري”، أجل اجتماعه الذي كان يفترض خلال الأيام الحاليّة والمقرر أن يعلن فيه مرشحه لمنافسة أردوغان، إلى الأسبوع المقبل حتى يتم الانتهاء من أعمال البحث عن الناجين.
ورغم ذلك هناك آراء تشير إلى أن الزلزال الحاليّ سيكون ورقة انتخابية محورية في الماراثون الرئاسي المقبل، وهو ما ألمح إليه آدم سامسون وأيلا جان ياكلي في تقريرهما المنشور في صحيفة “فايننشال تايمز” حين قالا إن الكارثة التي ضربت تركيا مؤخرًا تمثل “امتحانًا لقيادة أردوغان، وطريقة رده عليها ستحدد طبيعة المواقف منه”.
التقرير لفت إلى أن زيارة الرئيس التركي للمناطق المتضررة من الزلزال (بعد 9 ساعات تقريبًا) جاءت بعد الانتقادات التي وجهتها المعارضة، وأن أردوغان اعترف بشكل صريح بحصول قصور في التعامل الأولي مع الأزمة، وهو ما سيحولها إلى أحد أبرز الملفات بيد قوى المعارضة في مواجهة حكومة العدالة والتنمية حسبما أشار الكاتب المتخصص في الشأن التركي عمر كوش.
يرى مدير قطاع أوروبا بمركز “أوراسيا” البحثي، إيمري بيكر، أن حكومة العدالة والتنمية إن نجحت في الحفاظ على هذا المستوى من الزخم في تعاطيها مع الأزمة فإن ذلك سيفيدها في الانتخابات المقبلة
ولفت كوش إلى أن خلال الساعات الـ48 الأولى من الزلزال خيمت حالة التعاطف الشعبي مع الكارثة، غير أنه ومع بدايات اليوم الثالث بدأت المعارضة توظف الأمر لصالحها من خلال توجيه الانتقادات للحكومة، مضيفًا في تصريحات صحفية له أن الانتقادات ستتزايد مع مرور الوقت خاصة مع ارتفاع أعداد الضحايا، فضلًا عن عدم الرضا عن مسألة إيواء الناجين وعمليات الإنقاذ، على حد قوله.
وعلى الجانب الآخر يرى مدير قطاع أوروبا بمركز “أوراسيا” البحثي، إيمري بيكر، أن حكومة العدالة والتنمية إن نجحت في الحفاظ على هذا المستوى من الزخم في تعاطيها مع الأزمة فإن ذلك سيفيدها في الانتخابات المقبلة، وهو عكس ما ذهب إليه المحلل في مركز “تيباف” البحثي ومقره أنقرة، سليم كورو، الذي قال إن الناس تعساء جراء ما حدث، وأن التعاسة في الغالب تقود إلى التصويت العكسي من أجل التغيير، بحسب تعبيره.
وبين هذا وذاك، يتوقع مراقبون تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى بسبب التحديات اللوجستية التي فرضتها الكارثة التي تتطلب عبورها بأسرع وقت وترميم تبعاتها، بجانب تقليل نفقات العملية الانتخابية لصالح أعمال البناء وإعادة الإعمار، لا سيما أنها مسألة تحتاج إلى المزيد من الوقت والمال، وهو ما قد يكون عائقًا أمام إجراء الانتخابات في موعدها المقرر بعد 3 أشهر.