بين تبرعات مادية ودعم نفسي وصلوات غائب ودعوات لم تفارق الحناجر، قدمت الشعوب العربية ملحمة من المساندة للشعبين التركي والسوري جراء الزلزال الذي ضرب البلدين، فجر الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، وأودى بحياة قرابة 29 ألفًا (24.671 قتيلًا وأكثر من 80 ألف مصاب في تركيا، و4500 قتيل وأكثر من 8 آلاف مصاب في سوريا) وفق البيانات الرسمية حتى صباح اليوم.
وبعيدًا عن المواقف الرسمية للحكومات العربية إزاء تلك الكارثة التي قد تحمل الكثير من التأويلات المشوبة بغبار السياسة والدبلوماسية، الناجمة عن المواقف والرؤى المختلفة، فإن الهبة الشعبية هي الأكثر مصداقية ونقاء، إذ تحولت إلى ما أشبه بالانتفاضة الإنسانية المتجردة تمامًا من أي أبعاد أخرى.
لم يشهد الشارع العربي، الذي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة وهموم داخلية طاحنة، مثل هذا الحراك منذ سنوات طوال، في مشهد يعود بالذاكرة إلى بين عامي 2000 – 2005 حين التحمت الشعوب العربية دعمًا وتأييدًا للفلسطينيين في انتفاضتهم الثانية أمام انتهاكات الاحتلال الغاشمة.
تفاعل منقطع النظير للجاليات العربية المقيمة في تركيا، والمواطنين العرب في بلدانهم، عشرات المبادرات الشعبية تم إطلاقها لإغاثة المنكوبين وإنقاذ العالقين ودعم المشردين، جنبًا إلى جنب مع المساعدات التي قدمتها الحكومات العربية بشتى انتماءاتها، في لوحة يتسلل منها بصيص من النور، وسط هذا الظلام الدامس الذي خيمته الكارثة ووقعها وتداعياتها المحتملة.
الجاليات العربية داخل تركيا.. رد الجميل
أصدرت قرابة 40 جمعية وجالية عربية في تركيا بيانًا مشتركًا أعلنوا فيه تضامنهم مع الشعبين التركي والسوري في مصابهم الأليم، كما دعوا “كل المنتسبين إليها لتقديم أنواع الدعم كافة بالتبرع المادي والعيني للجهات الرسمية والمنظمات، وتنظيم قوافل إغاثة لإنقاذ العالقين وإسعاف المصابين وإيواء المشرّدين وتخفيف آثار الزلزال المدمّر”.
المنظمات وعبر بيانها المنشور أعلنت جاهزية عشرات المتطوعين المنتمين إليها للمشاركة في جهود الإنقاذ في المناطق المنكوبة، ومساعدة مؤسسات المجتمع المدني التركية في دعم وإغاثة المنكوبين وأسر الضحايا، واصفة هذا التحرك بأنه “حق الوفاء ورد الجميل لتركيا وشعبها الكريم”.
وتنوعت مظاهر الدعم المقدم من الجاليات العربية في تركيا، من أبرزها التبرع بالدم، حيث نظم البيت المصري التركي حملة تبرّع بالدم تحت عنوان “الدم التركي والمصري واحد”، فيما أعلن اتحاد الجاليات العربية تنظيمه حملة أخرى للتبرع بالدماء، لإنقاذ المصابين.
كما نظمت الجاليات حملات لجمع متطوعين من أجل الذهاب إلى المناطق المنكوبة وتقديم المساعدة الميدانية، كان من أبرزها الجالية المصرية والفلسطينية بجانب جاليات وجمعيات سورية على رأسها فريق “مُلهم” التطوّعي السوري، المعروف بنشاطاته الواسعة في جنوب تركيا وشمال سوريا.
التبرعات المادية كانت هي الأخرى أحد مسارات الدعم التي قدمتها الجالية العربية داخل تركيا، حيث تبنت بعض الكيانات والمنظمات الخيرية حملات لجمع التبرعات منها حملة المنتدى السوري لجمع التبرعات لدعم ضحايا الزلزال في سوريا، وحملة من فريق اللمّة السورية للاستجابة الطارئة، بجانب جمعية “أيزا” للمدارس الدولية في تركيا، التي نظمت حملة تبرعات عينية للمحافظات المنكوبة.
الشارع العربي.. انتفاضة شعبية
على المستوى العربي، هبت شعوب المنطقة للمسارعة في هذا الماراثون الإنساني الملح عبر عشرات المبادرات والاستغاثات التي قدمها مواطنون عرب عاديون، ومنظمات مدنية مستقلة، إعلامية ومجتمعية، في مشهد قلما يتكرر في السنوات الأخيرة، لتتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى مزاد كبير لتقديم عروض الدعم والمساعدات بشتى أنواعها، الأمر الذي يكشف عن الكثير من التساؤلات الحرجة.
وكان للخليج الكلمة الأبرز في هذا المضمار، حيث شهد حملات تبرعات عدة، وصلت في منصة واحدة منها وهي منصة “ساهم” المسؤولة عن “الحملة الشعبية لإغاثة متضرري الزلزال بسوريا وتركيا”، التي أطلقها مركز الملك سلمان للإغاثة، إلى أكثر من 100 مليون ريال (26 مليون دولار) فيما تشير مصادر أخرى إلى أنها تجاوزت 70 مليون دولار في غضون 3 أيام فقط.
وفي الإمارات دعت جمعية الهلال الأحمر الإماراتي إلى الانضمام إلى حملة “جسور الخير” لدعم منكوبي الزلزال، التي جذبت أكثر من 1200 متطوع لأجل جمع التبرعات، وتشمل الحملة تعبئة المساعدات الأولية في إمارتي أبو ظبي ودبي، وتضم جمع التبرعات النقدية والعينية لمدة أسبوعين عبر هيئة الهلال والمؤسسات الإنسانية والخيرية الإماراتية المشاركة في المبادرة، فيما أعلنت شركة الأنصاري للصرافة تبرعها بـ3.67 ملايين درهم إماراتي (مليون دولار أمريكي).
ومن خلال عشرات المؤسسات الخيرية وفي مقدمتها الهيئة العُمانية للأعمال الخيرية، أطلقت سلطنة عمان حملة شعبية موسعة لتلقي التبرعات العينية والنقدية لمساعدة الشعبين السوري والتركي، فيما طالب العديد من الكتاب والباحثين والساسة العمانيين بالتبرع، كما جاء في تغريدة الكاتب العماني عضو مجلس إدارة جمعية الصحفيين حمود الطوقي: “هل ما زال هناك شخص لم يتبرع بعد؟”.
وفي قطر، عززت جمعية قطر الخيرية والهلال الأحمر القطري من جهودهما في جمع أكبر قدر ممكن من المساعدات لإرسالها إلى تركيا وسوريا، وتنوعت ما بين مبالغ مالية ومستلزمات إعاشة، كما خرجت العديد من المبادرات الخيرية للدعم منها مبادرة “دار الشرق” الإعلامية بالتبرع بإيرادات بيع صحفها الأربعة (الشرق – العرب – لوسيل – البننسولا) اعتبارًا من الخميس 9 فبراير/شباط الحاليّ ولمدة أسبوع لشعبي البلدين الشقيقين، فيما خصصت مؤسسة “دوري نجوم قطر” الرياضية، الأربعاء، عائدات تذاكر مباراتي نصف نهائي كأس قطر لكرة القدم لصالح المتضررين من الزلزال.
الوضع ذاته في الكويت، فتحت عنوان “فزعة الكويت” أطلقت عشرات الجمعيات حملات تبرع لاقت إقبالًا قويًا، وسرعان ما تفاعل معها الشعب الكويتي، نخبته وقاعدته، حيث أكد الكاتب الكويتي ناصر بدر العيدان، قائلًا: “إننا بحاجة لفزعة حكومية وشعبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ضحايا أنقاض زلزال تركيا سوريا”، داعيًا إلى تقديم “دعم طبي ودوائي – معونات غذائية ولوجستية – تبرع بالدم – فرق بحث تطوعية – خبراء كوارث.. الكارثة إنسانية وخطيرة والمنظمات العالمية تتوقع ضحايا بعشرات الآلاف”.
ومن الحملات النشطة الأخرى في هذا المسار، حملة “الكويت بجانبكم” التي انطلقت السبت 11 فبراير/شباط، وخلال يوم واحد فقط تجاوزت إجمالي التبرعات المجمعة حاجز 42 مليون دولار، وذلك عبر بث حي في التليفزيون الكويتي الرسمي.
فيديو / كويتيون يبدأون بوضع تبرعاتهم العينية امام السفارة التركية في الكويت بعدما أعلنت الأخيرة عن استقبال المواد العينية في مقرها داخل منطقة الدعية لايصالها إلى المناطق المتأثرة بالزلزال.
#زلزال_ترکیا_وسوريا pic.twitter.com/ZfKXDF6A9m
— المجلس (@Almajlliss) February 9, 2023
بدورها دعت المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية بالبحرين الشعب إلى التبرع لصالح الحملة الوطنية لدعم متضرري الزلزال، حيث حثت شركات القطاع الخاص والأفراد على الإسهام في الحملة، فيما استجاب بحرينيون كثر لتلك الدعوات وسلموا مساعدات عينية للسفارة التركية في المنامة من أجل توصيلها للمنكوبين.
وفي مصر، دشنت الجالية السورية هناك بمساعدة مواطنين مصريين حملات لجمع التبرعات لمنكوبي الشمال السوري، حيث افتتح مقران بمدينتي الرحاب والعبور بالقاهرة لتلقي التبرعات من أبناء السوريين المقمين في مصر أو المصريين في العموم، فيما أعلن البعض عن تخصيص عقارات ووحدات سكنية بأكملها لإيواء النازحين المشردين من الكارثة حال وصولهم إلى مصر.
وتحت عنوان “العون السوري الأردني” دشن الأردنيون مبادرات على منصات التواصل الاجتماعي لجمع التبرعات للسوريين على وجه التحديد نظرًا لتفاقم معاناتهم وعدم القدرة على إيصال المساعدات الدولية لهم، وفي هذا الشأن يقول مسؤول المبادرة أحمد الهام، لـ”الجزيرة نت“: “المبادرة تعنى في الأساس باللاجئين السوريين في الأردن وتقديم سبل الدعم المادي والاجتماعي لهم، لكن في ظل الأحداث الحاليّة، توجهت كل أفرع المبادرة وأنشطتها لدعم جمع التبرعات لمنكوبي الزلزال”.
وكشف أن الأردنيين يتكاتفون جنبًا إلى جنب مع السوريين في تلك المحنة، وتابع “أطلقنا مبادرة لشراء الليرة السورية ودعمها في مواجهة صعود الدولار بعد الزلزال، بالإضافة لفتح عشرات المنازل المغلقة في الداخل السوري من أجل المنكوبين وتوصيل الأطعمة والدواء وأدوات الحفر مع فرق الإنقاذ وفرق من الأطباء”، هذا بجانب تخصيص الكنائس الكاثوليكية في المملكة تبرعات قداسات يومي الأحد القادمين، لمساعدة المتضررين من الزلزال.
وكان العراقيون حاضرين بشكل لافت في ذلك السباق، عراق الداخل والخارج، فقد دشن العشرات منهم حملات ومبادرات لجمع التبرعات والمساعدات بشتى أنواعها، تضمنت مبالغ مالية وطعام وملابس ووسائل تدفئة، فيما أفتى ديوان الوقف السني في العراق، بجواز تعجيل تقديم الزكاة هذا العام للمنكوبين في سوريا وتركيا، هذا بخلاف الجالية العراقية في تركيا التي تواصل جمعها للتبرعات لليوم الخامس على التوالي.
الوضع في موريتانيا التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة كان الأكثر لفتًا للأنظار، حيث تبرع تلاميذ فرع “وقف المعارف” التركي في موريتانيا بنحو 16 ألف دولار للمنكوبين جراء الزلزال، فيما أشار الفرع أن حملة التبرعات لاقت تفاعلًا غير متوقع من التلاميذ وذويهم في إشارة إلى رد الجميل لأنقرة على جهودها الخيرية في الداخل الموريتاني طيلة السنوات الماضية، فيما فتحت السفارة التركية في نواكشوط، باب التبرع للمناطق المنكوبة بدءًا من 10 فبراير/شباط الحاليّ.
الموقف نفسه في الداخل اللبناني، حيث هرولت العديد من الجمعيات والمؤسسات الأهلية لجمع التبرعات تضامنًا مع الشعبين، حيث أطلقت مؤسسات إذاعية محلية مع منصات التواصل الاجتماعي حملات مكثفة تحث المواطنين على التبرع، وقد لاقت صدى وتفاعلًا كبيرًا وصل حد تبرع النساء ببعض حليّهن الخاص لصالح المتضرّرين من الزلزال، فضلًا عن تنظيم حملات للمتطوعين من أجل الانتقال إلى تركيا وسوريا للمساهمة في جهود الإنقاذ إلى جانب قوات الدفاع المدني هناك، كتلك التي نظمتها جمعية الكشاف المسلم في لبنان بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية والسفارة التركية في بيروت.
بعض المنظمات تبنت هي الأخرى مبادرات لمساعدة المنكوبين، ومنها منصّة “بوكس توغو” ومقرها لبنان، التي أعلنت تنظيمها حملة تبرّع عبر جمع صناديق غذائية جاهزة من المتبرعين وإيصالها للمنكوبين، فيما عرضت شركة بيلدين رانسكي لتقييم حالة المباني الأردنية، تقديم الاستشارات للشقوق في المنازل كفريق هندسي، أما منظمة “المعونة الإسلامية Muslim Aid” التي تتخذ من لندن مقرًا لها فأعلنت أنها “موجودة على الأرض وعلى استعداد للمساعدة في تركيا وسوريا”، ودعت للتبرّع بالدم لإنقاذ الأرواح.
القوى الناعمة حاضرة
القوى الناعمة العربية كان لها دور واضح في هذا السباق الإنساني العربي العالمي، حيث ناشد علماء المسلمين الأمة بضرورة دعم ومساعدة المنكوبين، وحثوا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على تعظيم مشاعر الإخاء والإنسانية، فيما زخرت مساجد المسلمين بصلاة الغائب على أرواح الضحايا.
الإعلام هو الآخر مارس دورًا ملحوظًا في اللحاق بركب الهبة الشعبية، فدشن عشرات الكتاب والصحفيين وبعض المنصات الإعلامية العديد من المبادرات وحملات التبرعات لمساعدة المتضررين، وحثوا الشعوب العربية والإسلامية على المساهمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه إزاء كارثة وصفت بأنها واحدة من أخطر الكوارث في السنوات الأخيرة.
فنانو العرب ساهموا بشكل أو بآخر في حملة الدعم والمساعدات، فبعضهم ألغى حفلاته تضامنًا مع الضحايا كما فعل المطرب اللبناني وائل كفوري، كما ألغت إدارة “جزيرة المها” في قطر حفلات الفنان المصري عمرو دياب، وألغيت حفلة الفنانة مايا دياب في دبي، فيما تبرع المطرب ماجد المهندس بأجره عن حفل الكويت للمتضررين ونشر عبر تويتر: “أعلن عن التبرع بأجري في حفل فبراير الكويت، تاريخ 10/2/2023 للمتضررين من زلزال سوريا تركيا في الشقيقة سوريا والجارة تركيا، ربي يرحم اللي فقدناهم في هذا الحادث الأليم ويشفي كل الجرحى”، والآخرون أعربوا عن تعازيهم الحارة لأسر الضحايا والمنكوبين وأعلنوا تضامنهم الكامل إزاء تلك الكارثة المروعة.
وفي الأخير، لم تستأثر الحكومات وحدها بالمشهد، إذ سحب الشارع العربي البساط من تحت أقدام الجميع، مقدمًا واحدة من أنصع اللوحات الإنسانية بياضًا ونقاءً، معليًا قيم الإنسانية والإخاء والمساعدة رغم ما يعانيه من واقع معيشي مؤلم، مؤصلًا للخصال العربية التي عرفها التاريخ ووثقتها عشرات التجارب السابقة حتى إن انزوت مؤخرًا – بفعل فاعل – خلف الأدلجة والعناد السلطوي للأنظمة الحاكمة.