في المناطق التي ضربها الزلزال في عشر ولايات تركية، يوجد قرابة مليوني لاجئ سوري، أغلب هؤلاء اللاجئين باتوا جزءًا من المجتمع هناك بعد أكثر من عقد على اللجوء، كثير من العائلات شعرت بالاستقرار في هذه المناطق وبدأوا حياتهم وأعمالهم، وساعدهم على الاستقرار في هذه المناطق عوامل عدة أهمها العادات المشتركة مع أهل هذه المناطق، إضافة إلى أن عددًا لا بأس به من الأتراك في هذه الولايات يعرفون الحديث باللغة العربية في الحد الأدنى، خاصة في ولايات هاتاي وأضنة وديار بكر.
اليوم يشترك السوريون والأتراك بمصاب جلل وكارثة كبيرة، لكن ما يصعّب حالة السوريين الموجودين هناك أنهم أصلًا في حالة نزوح من بلادهم، فمن نجا من بشار الأسد نزح إلى تركيا ومن نجا الآن من الزلزال يبحث عن منطقة جديدة ينزح إليها، بعدما فقدوا ما بحوزتهم من مستلزمات المعيشة، فباتوا اليوم لا شيء بين أيديهم يعينهم، ولا دولة تنجدهم، خاصة أن كل ما أعلنته الحكومة التركية من حزم مساعدات عاجلة فيما يخص موضوع السكن لم يشمل اللاجئين السوريين إلى الآن.
كارثة عصية على الوصف
الشاب السوري محمد زكي يروي لـ”نون بوست” أهوال ما شاهده وقت حدوث الزلزال وما تبعه من آثار على عائلته، ويشبه زكي الحالة الحاصلة كأن “هيروشيما” قد عادت، فقد زكي الكثير من أقربائه في مدينة أنطاكيا، كما يروي كيف تشتت العوائل وتشردت بعد هذا الزلزال المدمر، خاصة أن الكثير من السوريين يعيشون أساسًا في الأحياء الفقيرة، ويشير زكي إلى أن أكبر نسبة دمار حصلت تعد في منطقة أنطاكيا وبعد ذلك تأتي باقي المناطق.
وفي وسط مدينة أنطاكيا بولاية هاتاي تجمع آلاف المتضررين من السوريين بجانب الأتراك في مخيم بني من أجل إيواء المتضررين، ويعد هذا اللجوء هو الثاني للكثير من السوريين الذين هربوا من الموت أو الاعتقال في سوريا.
ويقول الشاب محمد زكي إن حيًا كاملًا يضم عائلات سورية في أنطاكيا تهدّم ومن نجا منهم بات اليوم مشردًا، إما في الخيم وإما نزح إلى ولايات أخرى ليجلس عند أقارب له أو معارف إلى حين انكشاف هذه الأزمة.
الحاج أبو محمد الصالحاني نزح مع عائلته من مدينة كهرمان مرعش إلى مدينة بورصة، تواصلت معه من أجل إنجاز هذا التقرير، الحاج أبو محمد فقد ثلاثة من أبنائه شهداء في سوريا عام 2015 في قصف لنظام الأسد على منطقته، وهجر إلى إدلب في مرحلة ثانية من النزوح عام 2017، استجمع أبو محمد كل ما يملك من المال للخروج إلى تركيا مع زوجته وأولاده الثلاث الباقيين، استقروا في مدينة كهرمان مرعش عام 2019 وبدأوا في العمل من أجل إعالة الأسرة.
يعمل مع أبو محمد ابنه خالد في محل لبيع المستلزمات الغذائية، وابناه صالح ومؤيد بدآ بإكمال مسيرتهما التعليمية في جامعة غازي عنتاب، وعلى حين غرّة أتى الزلزال المدمر ودمر البناء الذي يقطنونه، خرج أبو محمد وأولاده بسلام من تحت الأنقاض وبدأوا رحلة البحث عن أمهم التي وجدوها في أحد مستشفيات مدينة أضنة بعد خمسة أيام من وقوع الكارثة، يقول أبو محمد: “ذهبنا إلى مدينة بورصة حيث يسكن أحد معارفنا ونحن الآن بضيافته”.
بحسرة يتحدث أبو محمد عن فقد كل المستلزمات تحت الركام، مضيفًا “فقدنا كل شيء، لكنني فرح أنني لم أفقد أحدًا من أفراد أسرتي”، ويوضح أنهم لا يمكلون الآن أي شيء لا مال ولا منزل ولا حتى ثياب، ولا يعرفون كيف سيتعاملون مع المستقبل، وإلى أين سيذهبون، يكمل أبو محمد قائلًا: “الحكومة التركية بيكفيها هم المواطنين الأتراك وأظن إنه لمرحلة ثانية حتى يطلعوا فينا نحنا اللاجئين، حاسس حالي ضايع وما بعرف شو بدي ساوي”.
في أنطاكيا
الصحفي السوري عبد الناصر القادري يروي لـ”نون بوست” مشاهداته من أرض الحدث في الجنوب التركي، مشيرًا إلى صعوبة الأوضاع الإنسانية للسوريين والأتراك على حد سواء، لكنه يوضح أن العائلات السورية تواجه كارثة مركبة بحكم أن هذا يعتبر النزوح الثاني لبعض العائلات، كما يبين أن الكارثة مرعبة في مدينة أنطاكيا التي تضم آلاف العائلات السورية وهو الأمر الذي يجعل السكن فيها مستحيلًا، فالمباني التي لم تدمر لم تعد صالحة للسكن.
وهو الأمر الذي يؤكده الأستاذ جهاد حذيفة القادم من مدينة أنطاكيا، قائلًا: “الناس التي خرجت لم يبق لها إلا الثياب التي تلبسها”، وأكد حذيفة أنه لا توجد عائلة في مدينة أنطاكيا بالذات إلا وفقدت أحدًا، كما أنه توجد عوائل كاملة فقدت تحت الركام.
مشيرًا إلى أن أعداد السوريين من الضحايا كثيرة، كما أن الكثير من العائلات تفترش الأراضي، الأمر الذي ينذر بكارثة أخرى في موضوع السكن والإيواء بالنسبة للسوريين هناك.
عنصرية يقابلها عمل مشترك
كما قبل الزلزال، لم يسلم السوريون من الألسنة العنصرية التي لم تدخر جهدًا في هذه الكارثة التي دمرت السوريين والأتراك، ليخرج إلينا أوميت أوزداع رئيس حزب الظفر متهمًا السوريين بالسرقة من المنازل المنكوبة، ويشير الصحفي عبد الناصر القادري إلى أن أوميت أوزداغ أتى مع مرافقته إلى أنطاكيا ودون أي معاينة أو اطلاع على الأحداث نزل من عربته ليصرح فورًا أن على الحكومة ردع “اللصوص السوريين”، متهمًا فرق الإنقاذ الحكومية بالتقصير، لكن العديد من الأتراك بحسب الصحفي القادري ردوا على أوزادغ متهمينه بالكذب والتحريض على العداوة والكراهية في مواقف النكبات.
في المقابل، نشر الناشط الحقوقي طه الغازي، مقطع فيديو على صفحته بفيسبوك، قال فيه إن هيئات ومنظمات وأحزابًا سياسية تركية أعلنت عن مواقفها الداعمة للاجئين السوريين ورفضها لأي تباين أو تمييز في التعامل مع ضحايا الزلزال.
وأضاف أن ذلك يأتي بالتزامن مع ارتفاع حدة خطاب الكراهية والتمييز العنصري ضد اللاجئين السوريين في بعض المناطق المتضررة من الزلزال، كما شارك الغازي مقطعًا مصوّرًا لرئيس حزب العمل التركي (EMEP) إيرجوميت أكدينيز، حيث قام بزيارة مخيمات اللاجئين السوريين المتضررين من كارثة الزلزال، وأكد على دعمه لهم ورفضه لأي خطاب أو سلوك عنصري تجاههم.
وإمعانًا في رفض العنصرية من الأصوات المتعالية هذه الأيام، يتشارك الكثير من السوريين والأتراك في إطلاق مبادرات الخير والعطاء في مناطق الجنوب التركي للمنكوبين وهو ما يمثل التكافل بين الشعبين في مواجهة هذه الكارثة التي يواجهها الملايين، وبحسب الصحفي عبد الناصر فإن الكثير من الفرق السورية التطوعية موجودة في المناطق المنكوبة من أجل المساعدة وإنقاذ العوائل السورية والتركية على حد سواء.
وتعمل بعض الفرق، مثل فريق ملهم، بتأمين حافلات للعوائل السورية من أجل نقلهم إلى ولايات أخرى، فالكثير من العائلات لا تملك وسائل نقل أو أن سياراتهم فقدت تحت الركام، كذلك فإن الضغط على المطارات ومواقف الباصات التركية يعيق نقلهم، إضافة إلى أن كثيرًا من شركات النقل الخاصة بدأت باستغلال أوضاع الناس وتطلب مبالغ كبيرة من أجل نقل العوائل إلى ولايات أخرى.
يضيف عبد الناصر أن الكثير من المطاعم السورية حولت عملها إلى المناطق المنكوبة من أجل إغاثة السوريين والمتضررين من هذه النكبة، موضحًا أن هذه المطاعم تعمل بطاقتها القصوى وتطبخ أفخر الأطعمة للناس في دلالة واضحة على كرم هذا الشعب حتى في أشد نكباته.
قوانين غير واضحة تضع السوريين في أزمة
لكن أيضًا ليس واضحًا حتى الآن ما القوانين التي يجب أن يسير عليها السوريون في تركيا خاصة المنكوبين الذين يريدون الخروج من هذه الولايات، فقد صدرت العديد من القرارات الحكومية التي توضح ماذا سيحل بالأتراك وأرزاقهم وكيف ستعمل الحكومة على تعويضهم في البيوت والمساكن والأعمال.
وقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان توفير دعم مبدأي لكل عائلة متضررة بـ15000 ليرة تركية، ويبدو أن الأمر لا يشمل السوريين القابعين في ظل ما يسمى “الحماية المؤقتة”، كذلك وعد أردوغان بأن الحكومة ستتعاقد مع الفنادق وأرباب المساكن من أجل توفير السكن المجاني للعوائل التركية المتضررة لمدة سنة.
كذلك يعاني السوريون حتى الآن من صعوبات في السفر وإيجاد مساكن مناسبة من أجل إيواء عوائلهم، ما ينذر بكارثة جديدة، وفي حال وجدت العائلة مسكنًا جديدًا فإن إيجارات المساكن ارتفعت فورًا إلى مستويات قياسية في حالة استغلالية كبيرة، وهو ما يزيد من معاناة العوائل السورية، كذلك يشتكي الكثير من السوريين عدم تجاوب الهيئات التركية مع اتصالاتهم وأسئلتهم وذلك لعدم وجود قرارات واضحة بخصوصهم حتى الآن.
إلى الشمال
على الرغم من إغلاق المعابر الحدودية مع سوريا لمدة طويلة بعد الزلزال وعدم دخول المساعدات الأممية، فإن الجثامين كان مسموحًا لها بالدخول، جثامين السوريين الذي قضوا في الزلزال الذي ضرب بعض الولايات التركية، وإلى ساعة إنجاز هذا التقرير بلغ عدد الجثامين التي دخلت إلى سوريا أكثر من 1050 قتيل، ولم تصدر أي إحصائية لأعداد القتلى من السوريين في تركيا.
وقد ارتفعت حصيلة الضحايا في عموم سوريا (مناطق سيطرة النظام والمعارضة) إلى 3574 قتيلاً، ووفقًا للمصادر فإن عدد القتلى من السوريين في تركيا فقط مرشح لأن يكون بالآلاف، ولا تحدد السلطات التركية هوية المتوفين في إحصائياتها اليومية، وقد ارتفع عدد قتلى الزلزال في تركيا إلى ما يقرب من 25 ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير.
بالمحصلة، زاد الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا من معاناة السوريين الذين يعانون من حرب بشار الأسد عليهم خلال السنوات الماضية، ولا أحد يأبه لهم، ويبدو أن نكبة السوريين في مدن جنوب تركيا مضاعفة بسبب النزوح الجديد وفقدان الممتلكات وعدم وضوح الرؤية التركية تجاه هؤلاء اللاجئين، إضافة إلى تشتت العائلات وتشردها.
يذكر أن السياسيين الأتراك يستخدمون اللاجئين السوريين كورقة في برامجهم الانتخابية، لكن هذه الورقة وضعت الآن في الجيب إلى حين يأتي وقت استخدامها مرة أخرى من الأحزاب والسياسيين.