ترجمة وتحرير: نون بوست
أنا دانيال بلاتمان، أستاذ في معهد اليهود المعاصرين في الجامعة العبرية، تتناول مجالات اهتماماتي الهولوكوست والنازية والفاشية والإبادة الجماعية ويهود أوروبا الشرقية خلال الهولوكوست، وأشارك في هذه اللحظة في إنشاء متحف غيتو وارسو في بولندا، “المقرر افتتاحه في سنة 2025”.
لقد أرسلتُ لكم بعد مصادفتي مقالة رأي كتبتها لموقع هآرتس العبري منذ حوالي ست سنوات، ويبدو المقال كأنه كان من الممكن كتابته هذا الصباح؛ إنه مقال تنبؤي إلى حد كبير.
تعتبر كلمة “التنبؤ” كبيرة؛ إلا أنني أستطيع أن أقول إنني أدركتُ أن هناك عملية بدأت تؤتي ثمارها هنا ستؤدي إلى تصادم القوى، وأنا حقًا لست متفائلًا بشأن احتمالية أن تستمر إسرائيل في ختامها في أن تعمل الديمقراطية بها بشكل صحيح.
لقد كتبتُ المقال في سنة 2017؛ عندما كان بنيامين نتنياهو لا يزال يخضع للتحقيق حول القضيتين 1000 و2000 فقط؛ حيث لم يتضح ما إذا كان سيتم تقديم لوائح الاتهام. وناقشت في المقال أنه سيتم تدمير القضاء في النهاية من أجل مساعدته على البقاء في السلطة.
كان ذلك عندما بدأت تفاصيل القضايا في الظهور. انظر، أنا مؤرخ ولست بالتأكيد متنبئًا، ولم أشعر أنني كنت أكتب نوعًا من النص التنبؤي؛ لقد قلت إن إسرائيل تتدهور إلى وضع يتم فيه تحريف النظام القضائي بأكمله لخدمة شخص واحد في السلطة، وذلك على حساب الاستقرار الديمقراطي والنظام الديمقراطي في إسرائيل؛ لقد كان ما أتخيله هو أن قائدًا يبني صورة لنفسه كشخص فوق القانون وفوق المعايير التقليدية للمساواة القضائية لجميع المواطنين، وكان إضفاء الشرعية على هذا الأمر آخذًا في الازدياد، في حين صوت عدد كبير من المواطنين في الانتخابات الأخيرة ممن ينتمون لجميع أنواع الأحزاب التي تشكل اليوم الائتلاف، مثل: حريديون إلى حد ما، أو قوميين إلى حد ما – لا فرق – ويعتبر هذا الجمهور منقسم حول العديد من القضايا، ولكنه متحد حول قاسم مشترك واحد.
تعد الديكتاتوريات الأكثر فظاعة في القرن الـ20، هي التي لم ترسل الناس إلى السجون ومعسكرات الاعتقال؛ حيث تميزت بالإعجاب بالزعيم، وذلك مثل ستالين وهتلر اللذان كانا قائديْن شعبييْن حتى مرحلة معينة، ويتشابه شيء ما حول الشعبوية النموذج الإسرائيلي
لقد أطلقت عليها اسم شعبوية نتنياهو، لكن بالطبع لا جديد في فكرة أن رئيس الوزراء سياسي شعبوي، فربما يمكنك أن تشرح بشكل أكثر تحديدًا ما كنت تقصده، لأن الشعبوية مفهوم واسع، لذلك من الواضح أن التعريف المقبول عمومًا هو تعريف كاس مود، عالم السياسة الهولندي المعاصر، الذي قال فيه: إن الشعبوية تقسم المجتمع إلى مجموعتين متعارضتين: الشعب والنخب.
وتعتبر الشعبوية نظامًا سياسيًّا تطور في القرن العشرين واتخذ أشكالًا متعددة في القرن الحادي والعشرين، لكن هذا المفهوم يخص الشعب ضد النخب – سواء كانت نخب اقتصادية أو أكاديمية أو أرستقراطية – حيث إنه مفهوم مشترك بين كل تلك الأشكال، كما يمكن أن تؤدي الشعبوية إلى الفاشية أو للأنواع الأخرى من الأنظمة الاستبدادية التي نعرفها من التاريخ – ليس بالضرورة النازية التي يركز عليها الناس دائمًا – ولكن الديكتاتوريات العسكرية مثل الموجودة في أمريكا الجنوبية، هذا إلى جانب تلك التي تقسم المجتمع إلى فئتين: “معي” أو “ضدي”.
ويعني “معي” أن تكون مع القائد في صراعه ضد النخب، فهذا الزعيم يجسد التمييز والاقصاء والبعد عن مراكز السلطة التي تخضع لسيطرة النخب.
أما في الشعبوية، فالشعب هو صاحب السيادة الحقيقية والقائد هو الصوت الحقيقي والأصلي للمجتمع الذي يصوغ الشراكة الجماعية التي تحدد الأمة؛ على عكس الآخرين من النخبويين، الذين استولوا على مراكز السلطة وبذلوا كل وقتهم في البحث عن مصالحهم الخاصة فقط، بينما يتمثل المبدأ الآخر، وهو في النهاية جوهر الشعبوية، في أن القائد هو شخصية أبوية، وهو ما يطرح سؤالا هامًا الآن، وهو: ما الذي يعطي للأنظمة الشعبوية قوتها؟ غالبًا ما نخطئ في الاعتقاد بأننا نتحدث عن دكتاتورية ترهب الجمهور؛ حيث يخشى الناس التحدث علانية والشرطة السرية تطرق الأبواب ليلا، لا إنها لا تبدو كذلك.
وتعمل الديكتاتوريات على غرار فيكتور أوربان المجري على الحفاظ على واجهة ديمقراطية، فالقمع لديها ليس عنيفًا، لذلك تشبه هذه الأنظمة إلى حد كبير الديكتاتوريات الطوعية التي تأتي بتعاون الشعب.
بالمناسبة، تعد الديكتاتوريات الأكثر فظاعة في القرن الـ20، هي التي لم ترسل الناس إلى السجون ومعسكرات الاعتقال؛ حيث تميزت بالإعجاب بالزعيم، وذلك مثل ستالين وهتلر اللذان كانا قائديْن شعبييْن حتى مرحلة معينة، ويتشابه شيء ما حول الشعبوية النموذج الإسرائيلي – وأنا لا أقارن بالطبع نتنياهو بهتلر أو ستالين – حيث يرتبط بعلاقته العميقة بشرائح واسعة من الجمهور، الذين يرونه شخصية رفيعة ذات قدرات فريدة.
بالتأكيد يعتقد الناس في الليكود – بعد كل شيء – أن معدل ذكائه هو سادس أعلى معدل في العالم أو شيء من هذا القبيل.
ويعتبر هذا الأمر جزءًا من عبادة الشخصية، وذلك من خلال العلاقة الخاصة مع الشعب التي بدأت تتشكل في وقت مبكر من سنة 2015، بعد فوز نتنياهو في الانتخابات؛ فلقد اتخذت بعدًا مختلفًا عندما بدأت تشابكاته القانونية، فنتنياهو ليس أول زعيم شعبوي لإسرائيل؛ وباستثناء [مناحيم] بيغن و[ديفيد] بن غوريون في الوقت الحالي، فقد كان الزعيم الشعبوي الأقرب إلى تحقيق مكانة نتنياهو هو [أرييل] شارون؛ حيث أصبح متورطًا في عدد كبير من الممارسات الفاسدة، لكنه كان ذكيًا بما يكفي لتحديد المخاطر، حتى لا يتجاوز الخط ويتجنب الوصول إلى النقطة التي نحن عليها اليوم في إسرائيل، وهي: حكومة شعبوية تقترب من الفاشية، ولذلك أعتقد أننا يجب أن نسأل أنفسنا كيف حدث هذا، وكيف تحول المجتمع الذي قدس المبادئ الديمقراطية لسيادة القانون وسلطة القانون لحماية كرامة الإنسان وحريته لتقديس القائد.
يمكن تمييز النمط الشائع في صعود الأنظمة الشعبوية، فهناك جزء من المجتمع يشعر بالفعل أنه يتعرض للتمييز؛ حيث يشعر عامة الناس أنهم حُرموا من شيء ما، وهو الشعور الحقيقي الذي يدفع الجمهور إلى التماهي مع هذه الروايات، أليس كذلك؟ فهي ليست مثارًا للسخرية.
وتعتبر هذه المشاعر حقيقية؛ حيث إن هناك نمط يعيد نفسه على محور زمني في شكل تاريخي من أشكال السخرية، وتتمحور هذه المشاعر حول مشاعر التمييز والقلق بسبب الأزمات الاقتصادية، بينما يعتبر الأساس دائما هو الشعور السائد بين جمهور كبير بأنه يفتقر إلى شيء ما، وأن شيئًا أساسيًّا في وجوده قد تضاءل – بدءًا من الكبرياء الوطني إلى الغضب الوجودي – فهو لا يعتبر نفسه شريكًا؛ حيث لا يحصل على شيء يحصل عليه الآخرون.
قصة اضطهاد
هل يعتبر “الشعور بالتمييز” أصيلًا بين السياسيين أيضا؟ ينتمي دونالد ترامب ونتنياهو، على سبيل المثال، إلى خلفيات مميزة.
ينحدر كل من نتنياهو وترامب من عائلات ثرية، لكنهما كانا بارعين جدًا في تكوين صورة عن نفسيهما على أنهما منبوذين. وفيما يخص نتنياهو؛ يتعلق الأمر بوالده الذي تعرض للاضطهاد، والذي يلاحقه هو أيضًا، ومدى صعوبة النضال للوصول إلى مركز “السلطة” ويصبح شرعيًا، لذلك دفع نفسه إلى النخب التي لم ترغب في قبوله، وهذا هراء بالطبع، حيث إن هؤلاء الناس “ترامب ونتنياهو” هم نخب، إلا أن قصة الاضطهاد تخدمهم للتواصل مع الناخبين.
ماذا عن مناحيم بيغن؟ لقد كان أول من طرح مفهوم التمييز، كما استفاد منه سياسيًا.
لم يكن بيغن شعبويًا بهذا المعنى؛ حيث كان يعزف على التمييز، ولكن حتى مع كل الاحترام الذي أظهره، لم يعتقد أحد أنه فوق القانون، ولم يكن ليجرؤ على سحق الديمقراطية، وأعتقد أنه لم يكن ليحاول حتى، وأنه لو حاول، لما سمح حزبه بفعل أي شيء من هذا القبيل.
لكن في الأنظمة الشعبوية، فإن الزعيم فوق الحزب، حتى أن الحزب ليس له أي تأثير على أرض الواقع.
في النظام الشعبوي، لا يعد الحزب أكثر من مجرد أداة لمساعدة الحاكم في تحقيق أهدافه وتزويده بالخدمات. لكن الحزب في أنظمة كهذه ليس كيانًا سياسيًا حيًا كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية، بل إنه يحتضر؛ فلا مكان للنقاش أو لوجهات النظر التعددية. إنه فقط أداة في يد الحاكم يحرّكه كيفما يشاء.
أعتقد أن هذه صورة أيقونية تتنبّئ بالواقع الذي نعيشه اليوم، إذ يتناسب الفساد الذي يخيّم على الحزب الآن مع هذه الصورة. يقدّم العديد من القادة الشعبويين أنفسهم على أنهم يحاربون فساد النخب؛ خذ على سبيل المثال، رئيس الفلبين السابق رودريغو دوتيرتي ورئيس البرازيل السابق جايير بولسونارو والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذين سوّقوا لأنفسهم بأنهم محاربين للفساد، ثم تورّطوا هم أنفسهم في الفساد.
أين الخط الفاصل بين ما هو فاسد وما هو شرعي في نظر المجتمع؟
نحن نتحدث هنا عن معايير مجتمع معين. فمثلًا، هناك دول في أفريقيا لا تُعرَّف فيها جرائم نتنياهو بالفساد. وسيصدر الكنيست غدًا قانونًا ينص على أن الهدايا من الأصدقاء التي تقل قيمتها عن 100 ألف دولار ليست فسادًا بل هدايا مشروعة، وهناك جمهور عريض لا ينظر إلى نتنياهو أو الحاخام أرييه درعي زعيم حركة “شاس” اليمينية على أنهم فاسدين، بل إن هذا الجمهور يدعمهم على الرغم من إدراكهم لأفعالهم. إذن، كيف يُعرّف الفساد؟ َ
في الأسابيع المقبلة، على الأقل، هل سنظل قادرين على استخدام المعايير القانونية [الموجودة]؟
تعرّف الديمقراطيات الليبرالية التقدمية القواعد المعيارية وفقًا للقانون. في الوقت الحالي؛ يحدث تصادم في إسرائيل بين أنظمة القيم التي لا يستطيع الهيكل الديمقراطي الليبرالي احتوائها، وهو عبارة عن تصادم بين المعايير والمفاهيم. في الأنظمة الديمقراطية؛ يُعد النظام القانوني المستقر والمستقل أساس جميع الأنشطة العامة والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إذ سيفضّل السياسيون دائمًا القضاة الضعفاء، الذين لن يتدخلوا في إعادة انتخابهم حتى لو فشلوا في تنفيذ مناصبهم أو اُتهموا بالفساد. وهذا ما يجعل الديمقراطية نظامًا هشًا للغاية وعُرضة للضغوط.
إسرائيل اليوم هي بالضبط عند نقطة الانهيار تلك؛ حيث يفهم السياسيون الفاسدون والمجرمون المدانون أنهم إذا لم يقضوا على استقلال القضاء، فلن يتمكنوا من البقاء في مناصبهم، وستطردهم المحكمة ـ كما حدث مع أرييه درعي زعيم حركة “شاس” اليمينية ـ أو ينتهي بهم الأمر في السجن، وهذا ما يشكّل كابوس نتنياهو الكبير. وعليه؛ فإن هدفهم هو التخلص من النظام القضائي، وبالتالي ضمان حكمهم وسلطتهم السياسية.
لقد شاهدتُ المؤتمر الصحفي الأخير لنتنياهو، عندما أعلن أن الاقتصاد الإسرائيلي ليس في خطر، وأن رأس المال الكبير لن يهرب، فيما يتساءل الناس عن العلاقة بين دخول المستثمرين إلى بلد ما والوضع الذي تختار فيه الحكومة وحدها القضاة؟ وهنا بالضبط يأتي دور موضوع الفساد؛ فطالما لا يوجد هناك قضاء لحماية الاقتصاد، الذي هو عرضة لتعسف مسؤول سياسي فلا أحد يريد المخاطرة بأمواله، لأنه إذا حدث شيء ما فلن تحميهم المحكمة. لماذا لا يستثمر الناس في المجر اليوم كما كانوا يفعلون قبل تولّي فيكتور أوربان زمام السلطة؟ أعتقد أن النظام في إسرائيل لا يدرك العلاقة أو بالأحرى لا يريد أن يستوعبها.
يمكننا أن نفترض أنه يستوعبها جيدًا.
نعم، نتنياهو يُدرك ذلك، لكني لست متأكدًا من أنه يعرف كيف يتعامل معه، لأنه مُحاط بآخرين يقودوه نحو الشعبوية الأيديولوجية، لا سيما أن نتنياهو ليس مفكرًا ولم يكن أبدًا منظّرًا. إنه يتفهم المخاطر الاقتصادية لكنه محاط بوزراء يقودونه حيثما يشاؤون، كما أن ينتظر محاكمة جنائية تتعلق بتهم فساد. ومن المستحيل تجاهل ذلك.
هناك مقالة لك في سنة 2017 تؤكّد فيها أن الفساد هو نوع من الشرط المسبق لصعود الشعبوية. هلّا وضحّت لنا ذلك؟
في مجتمع يقوم على قيم الديمقراطية الليبرالية والمساواة والعدالة والأخلاق، فإن معدل العائق الذي تواجهه الشخصيات العامة مرتفع، ويُحارِب النظام بشراسة جميع حوادث الفساد التي يتم الكشف عنها، وبالتأكيد في حالة المسؤولين المنتخبين. لا يمكن أن يتطور النظام الشعبوي في ظل هذه الظروف. في المقابل، عندما تكون المعايير منخفضة، وعندما لا يكون المسؤول المنتخب ملتزمًا بالعدالة والأخلاق والنزاهة – يمكنه أن يراكم القوة والسلطة في يده، لاسيما أنه لن يكون قادرًا على ذلك إذا حكم وفقًا للقواعد.
في سنة 1977، استقال إسحاق رابين على خلفية حساب بنكي غير قانوني لزوجته في الولايات المتحدة. كان ذلك قبل أكثر من 40 سنة، وكان هذا هو المعيار في ذلك الوقت، وهذا هو الفرق بالضبط. أما اليوم فإننا نرى أن غالبية الجمهور الذي يدعم ديري ونتنياهو لا يبالي بأفعالهم، ونرى من بين الجالسين على طاولة الحكومة اليوم سياسيون من يُشتبه في خرقهم للقانون، ومن ثبتت إدانتهم بخرق القانون، فيما يرى الجمهور الذي انتخبهم أن من المشروع لهم أن يحكموه.
هذا الجمهور لا يعتقد فقط أنه من الشرعي بالنسبة لهم أن يكونوا قادتهم، بل يعتقدون أنه من المشروع لهم تعديل النظام القضائي.
بالطبع. لذلك نرى بشكل فعال كيف يُدمّر الفساد السياسة. ما هي أهمية الساحة السياسية في إسرائيل اليوم إذا لم تعد خاضعة للرقابة القضائية؟
مجرد ساحة صورية
“شيء واحد نراه هنا هو أن النظام بدأ في تنفيذ ثورة قضائية وسياسية وأخلاقية سريعة – كما هو الحال في ألمانيا. بدءًا من يناير 1933، انتهى كل شيء، وفي غضون نصف سنة أصبح البلد غير معروف”. المؤرخ الإسرائيلي دانيال بلاتمان
إذا تم تنفيذ هذه “الإصلاحات” القضائية، في واقع معقد مثل واقع إسرائيل، فإنها ستؤدي إلى كارثة، لاسيما أننا لسنا بولندا. في بولندا، ستكون هناك انتخابات في غضون نصف سنة. وسواء تم استبدال الحكومة أم لا، فإن الناس هناك سيعيشون معها. لكن في المكان الذي توجد فيه إسرائيل بتكوينها الاجتماعي المحلي ووجود الاحتلال ووجود أقلية من السكان العرب تبلغ 20 بالمئة من إجمالي السكان وفي مثل هذه الحالة المعقدة من حيث الأمن والمجتمع والاقتصاد، فإن الشعبوية تقود إلى الدمار؛ ليس دمار القيم الأخلاقية فحسب، بل دمار البلد بأكمله.
الناس ليسوا على دراية كافية بهم، ولا يقرؤون منشوراتهم. أنا أتابعهم عن كثب، إنهم ينشئون بيانًا اجتماعيًا وسياسيًا واسعًا، إذا تبنته إسرائيل في النهاية، فسوف يحولها إلى دولة مختلفة تمامًا. قد تقول “فاشية”، لكنها لن تبدو هكذا
لا أعرف كم يمكنني الصراخ بصوت عالٍ حول ذلك، وأنا في الحقيقة مجرد مؤرخ متواضع. إن ذلك يشكل خطرًا كارثيًا على وجود الدولة. ستهرب العقول المبدعة، وستصبح الحياة مملة وصعبة وخطيرة. قد يبدو الأمر مجرد هلاوس، لكن الخطر هنا هو خطر وجودي حقيقي. هل تعلم ما هو أكبر تهديد لاستمرار وجود دولة إسرائيل؟ إنه ليس حزب الليكود، ولا حتى عتاة المجرمين، بل إنه منتدى “كوهيليت” للسياسات [مركز أبحاث يميني محافظ مدعوم من مانحين أمريكيين أثرياء].
الناس ليسوا على دراية كافية بهم، ولا يقرؤون منشوراتهم. أنا أتابعهم عن كثب، إنهم ينشئون بيانًا اجتماعيًا وسياسيًا واسعًا، إذا تبنته إسرائيل في النهاية، فسوف يحولها إلى دولة مختلفة تمامًا. قد تقول “فاشية”، لكنها لن تبدو هكذا، فلا تزال الرأسمالية موجودة، وسيظل بإمكان الناس السفر إلى الخارج – إذا سُمح لهم بالدخول إلى بلدان أخرى، وسيكون هناك مطاعم جيدة. لكن شعور المواطن بأن هناك نظامًا يحميه لن يعد موجودًا.
قبل ثلاث سنوات؛ قابلتُ شيبنام كورور فينسينكي، وهي أستاذة وناشطة اجتماعية من تركيا تعرضت للاضطهاد من قبل الحكومة؛ حيث قالت شيئًا كنت أفكر فيه كل يوم منذ ذلك الحين: إنه من الخارج يبدو كل شيء كما هو؛ حيث يجلس الناس في المقاهي، ويلعبون لعبة الطاولة د، ويضحكون أحيانًا؛ لكن في الواقع لا شيء يبقى على وضعه.
نعم؛ أنا أفهم ما تقوله، وأكثر من ذلك؛ فقبل ثلاث وأربع وخمس سنوات لم يكن ما يحدث في نظام أردوغان هو ما يحدث اليوم، وهناك عملية تكرر نفسها في هذا النوع من النظام – سواء كانت أقل تطرفًا أو أكثر – حيث يحدث التصعيد.طوال الوقت، ولا تبقى الأشياء مكتوفة الأيدي، فالأمر لا يتعلق بأنه ستكون هناك شعبوية وستستمر؛ ولكن كلما شعر النظام أنه يفقد قبضته – سواء بسبب المعارضة الداخلية، أو بسبب الاقتصاد، أو بسبب الضغط الدولي، وهي الخيارات التي ستواجهها إسرائيل كلها – كلما زادت حدة القمع، وسيعزز قبضته على الجمهور، وسيصل النظام إلى نقطة اللاعودة، ومع استمرار سياسات القمع والتغيير- كلما خسرت أكثر.
في تركيا؛ أصبحت العملية أكثر تطرفًا، ففي السنوات الأخيرة؛ حدثت عمليات تطهير شاملة في الجيش والشرطة وقوى الأمن الداخلي، حيث يتم تعيين الموالين لأردوغان فقط، ولقد فقدت المحاكم استقلالها القضائي بالكامل تقريبًا، ويتم فرض قيود خطيرة على وسائل الإعلام غير الحكومية. والأسوأ من ذلك كله؛ أن الصحفيين والمحاضرين الجامعيين يتم اعتقالهم أو فصلهم، ولديَّ العديد من المعارف – المؤرخون الأتراك المولد الذين يعيشون في الولايات المتحدة – الذين يتعاملون مع مواضيع الإبادة الجماعية للأرمن وتركيا الحديثة، والذين طلبت منهم عائلاتهم في الوطن صراحة عدم الزيارة، لأنه لن يسمح لهم بالمغادرة مرة أخرى. من المستحيل معرفة إلى أي مدى ستذهب؛ حيث يقول أحد أعضاء الكنيست من حزب [إيتمار] بن غفي، على ما أعتقد، وقال نصف مازحا: “إذا كان هذا ما نريده، فلن نجري انتخابات لمدة 10 سنوات”.
“وصفة لكارثة”
لا أعتقد أنها كانت مزحة؛ فلماذا يجب أن تتخلى عن الكثير من السلطة طوعًا؟ باسم من أو ماذا؟ باسم الديمقراطية؟ لن يتم ذلك عن طريق خطوة فجة لإلغاء الانتخابات،ولكن سوف يتم تمرير جميع أنواع اللوائح ببساطة، ثم ينسحبون بعيدا بهدوء.
هذا يبدو خياليًّا؛ فإذا قلت ذلك قبل أربع سنوات لكان الناس اتهموك بالجنون؛ لكنك على حق. اليوم كل شيء ممكن، ففي اللحظة التي تمر فيها هذه “الإصلاحات” كما هي؛ كل شيء ممكن.
وماذا سيحدث بعد ذلك؟ ما هي السيناريوهات التي يقدمها لنا التاريخ؟
الأمثلة التي يمكنني التفكير فيها هي ديكتاتوريات أمريكا الجنوبية: البرازيل، والأرجنتين، وشيلي، والتي خضعت لعمليات أدت إلى ديكتاتورية شعبوية من نوع أو آخر في 1970 و1980. انهارت تلك الأنظمة، لكن البلدان تضررت بشدة؛ حيث استغرق الأمر من تشيلي 40 عاما للتعافي من بينوشيه، ولم تتعافى الأرجنتين حتى يومنا هذا من حكومة الجنرالات، وهاجرت أفضل العقول من البلاد، ولم تدخل أي استثمارات، وأصبح الفساد متفشيًا ولم يتوقف، حتى بعد سقوط النظام الشعبوي، لأنه كان بالفعل متأصلا بعمق في النظام، ووجدت المحاكم صعوبة في العمل حتى عندما رفعت الحكومة القيود، فالضرر تراكمي وطويل المدى.
إسرائيل بلد صغير؛ صحيح أنها قوية عسكريًّا واقتصاديًّا، لكنها صغيرة وتقع في منطقة معقدة مع توترات داخلية هائلة؛ وهذه وصفة لكارثة، فالغضب الذي يعبر عنه كثير من الناس اليوم ليس هستيريًّا، لأنه يقوم على ما حدث في أماكن أخرى. لم نخترع الشعبوية – كما تعلم – لقد كانت موجودة منذ أجيال؛ ولا تحتاج إلى حرب عالمية لإحداث انهيار في البلاد.
وقد يكون استبدال المستشارين القانونيين الوزاريين كافيًا، فجوهر هذه القصة هو القضاء وتعيين القضاة والمستشارين القانونيين، وتفكيك محكمة العدل العليا الإسرائيلية؛ حيث تسير شعبوية بيبي “نتنياهو” – التي تدعمها قوة ونفوذ أنواع الفاشيين المسيانيين الذين يحيطون به والسياسيين الذين لم تكن النزاهة قيمة لهم أبدًا – خطواتها النهائية نحو الفاشية. ومنذ اللحظة التي عبر فيها نتنياهو نقطة اللاعودة فيما يتعلق بالحفاظ على سيادة القانون واستقلال المحكمة العليا؛ انتقل بحكم الواقع – حتى لو لم يفهمها أو يفكر فيها – من كونه زعيما شعبويا تقليديا إلى زعيم فاشي واضح.
في اللحظة التي يمر فيها التشريع الجديد؛ سنكون في واقع آخر، فهي حقًّا تعيد التذكير بألمانيا في عام
أكثر ما يذهلني في هذه العملية التي تتكشف الآن هو السرعة، فهنا لا يوجد بالفعل شيء يمكن القيام به، وعندما أقارن وأعود طوال الوقت إلى أحداث الماضي التاريخية؛ فأنا مندهش من السرعة التي يتم بها تنفيذ الأشياء، فلا أحد يتذكر أنه قبل ثلاثة أشهر فقط كانت هناك انتخابات، وفي تشرين الأول/ أكتوبر الماضي فقط – قبل تلك الانتخابات – لم يرغب بيبي في التقاط صورته مع بن غفير.
نحن الآن في عملية كان ينبغي أن تستغرق بضع سنوات وليس بضعة أشهر، فلم نشهد مثل هذا الوضع من قبل، سواء في المجر أو في بولندا؛ حيث استغرق الأمر بعض الوقت [هناك]، وربما سنوات؛ حيث أعدوا المجتمع، وفعلوا ذلك تدريجيًّا، وقاموا بإنشاء حملات دعائية، وتم انتخابهم مرتين وثلاث مرات من أجل الوصول إلى هذا الحد، ولكن هنا؛ ثورته كلها تحدث في غضون ثلاثة أشهر.
في اللحظة التي يمر فيها التشريع الجديد؛ سنكون في واقع آخر، فهي حقًّا تعيد التذكير بألمانيا في عام 1933، ولكن ليس من حيث الطابع الأخلاقي للنظام؛ حيث إن إسرائيل لن ترتكب الإبادة الجماعية؛ كما يأمل المرء.
دعنا لا نلتزم بأي شيء في هذه المرحلة.
نعم – وكما قلت – لن يكون هناك جنود بقمصان بنية في الشوارع لكن الشيء الوحيد الذي نراه هنا هو نظام بدأ بتنفيذ ثورة قضائية وسياسية وأخلاقية سريعة؛ كما هو الحال في ألمانيا التي انتهى كل شيء فيها بداية من كانون الثاني/ يناير 1933، ففي غضون نصف عام أصبحت البلاد غير معروفة، وتم إضفاء الطابع المؤسسي على الديكتاتورية التي استمرت حتى عام 1945. وهذا يعني شيئًا واحدًا من وجهة نظري: أن المجتمع الألماني كان مستعدا لابتلاعه، فإذا لم يتسبب 50 مليون ألماني في توقف البلاد عندما وصل هتلر إلى السلطة، فمن الواضح أن المجتمع كان مستعدًّا لقبول [النظام الجديد]، وهذا هو الاختبار العظيم لإسرائيل اليوم.
أليس الاستنتاج من هذه المحادثة أن المجتمع الإسرائيلي قد فشل بالفعل في الاختبار؟ وأن هناك شيء مريض، وضعيف؛ ليس فقط في الحكومة الشعبوية ولكن في الجمهور الذي يريد مثل هذه الحكومة؟
ما نراه اليوم هو نوع من الجِنِّي الذي ينفجر من الزجاجة، ولست متأكدة من أنه يمكن إيقافه، ولا أشعر بالحرج من القول إنني خائفة
لقد مر المجتمع الإسرائيلي بعملية تطرف، فهناك كتلة كبيرة لا تقدس القيم الديمقراطية والليبرالية، ويمكن تفسير التطرف بكل أنواع الطرق؛ تقوية الدين، والأسباب الأمنية، وشيطنة العدو العربي. في الحكومة السابقة أيضًا؛ لم يرغب معظم المجتمع الإسرائيلي في رؤية القائمة العربية الموحدة هناك، وهذا هو السبب في أنني أعتقد أن التصريحات التي أدلى بها قادة المعارضة ومفادها أنه “مع وجود نصف مقعد [كنيست] هنا ونصف مقعد هناك ، كنا سنفوز”، وهذا هراء.
تنتصر الشعبوية عندما ينضج المجتمع لتلقيها، وكان المجتمع الإسرائيلي مهيئا لاستقبال الحكومة الحالية؛ ليس بسبب انتصار الليكود، ولكن لأن الجناح الأكثر تطرفًا جذب الجميع وراءه، وما كان يومًا اليمين المتطرف أصبح اليوم هو المركز، وأصبحت الأفكار التي كانت على الهامش مشروعة. وكمؤرخ مجاله هو الهولوكوست والنازية؛ من الصعب بالنسبة لي أن أقول هذا؛ لكن هناك وزراء من النازيين الجدد في الحكومة اليوم، وأنت لا ترى في أي مكان آخر – ليس في المجر، وليس في بولندا – وزراء عنصريون خالصون أيديولوجيًّا.
ما نراه اليوم هو نوع من الجِنِّي الذي ينفجر من الزجاجة، ولست متأكدة من أنه يمكن إيقافه، ولا أشعر بالحرج من القول إنني خائفة، وأعتقد أن مظاهرة من 100000، أو 200000 لن تساعد، فإذا لم ينهض مليونا شخص الآن ويقاتلون من أجل الديمقراطية، ومن أجل الليبرالية؛ فيجب أن يكون الاستنتاج هو أن المجتمع الإسرائيلي يقبل ما يحدث؛ إنه موجود بالفعل.
أجرت الحوار: آيليت شاني
المصدر: صحيفة هآرتز الإسرائيلية