قبل سنة من الآن، تحديدًا يوم 24 فبراير/شباط 2022، أي بعد مضي 8 سنوات على ضمه شبه جزيرة القرم وبداية النزاع في شرق أوكرانيا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شن عملية عسكرية على أوكرانيا قائلًا إنه يستهدف “نزع السلاح من أوكرانيا واجتثاث النازية منها”.
جاءت هذه العملية العسكرية، بعد أشهر من حبس الأنفاس والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، و3 أيام فقط من إعلان بوتين اعتراف بلاده باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في أوكرانيا: دونيتسك ولوغانسك، ومطالبته مجلس الدوما بالاعتراف الفوري بهذا القرار ودعم “الجمهوريتين” المعلنتين من جانب واحد.
في غضون دقائق قليلة من إعلان بوتين، أُبلغ عن سماع دوي انفجاراتٍ في كييف وخاركيف وأوديسا ودونباس، وبدأت القوات الروسية التقدم ميدانيًا، وفي ظن بوتين أن الحرب ستستمر أيامًا قليلةً وأن النصر سيكون حليفه.
مرت الأيام والأسابيع والشهور، وها هي سنة بأكملها تمر لكن إلى الآن لم تتحقق أحلام بوتين، فلا سقطت العاصمة كييف، ولا أطيح بالرئيس فولوديمير زيلينسكي، ولا انتقلت السلطة إلى نظام موال لموسكو بدلًا منه، ولا انهار الجيش الأوكراني، ولا جاع الأوروبيون، رغم التركيز الروسي الكلي على هذه الحرب.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” سنحاول رصد حصيلة الغزو الروسي لأوكرانيا في عامه الأول، وما الذي جناه الطرفان وما الذي خسراه، وأبرز التطورات المتعلقة بهذه القضية التي لا يمكن التنبؤ بموعد فضها.
حصيلة القتلى الروس
مع حلول الذكرى الأولى للحرب الروسية ضد أوكرانيا، يقترب عدد القتلى والجرحى من القوات الروسية في هذا البلد الأوروبي من 200 ألف، وهذا الرقم أعلى بثماني مرات من الخسائر الأمريكية في عقدين من الحرب في أفغانستان، ما يؤكد حجم المأزق الذي وقع فيه بوتين، بعد أن كان يظن أن الحرب ستكون بمثابة فسحة قصيرة، وفقًا لمسؤولين أمريكيين وغربيين آخرين.
ويقول مسؤولون أمريكيون إن موسكو ترسل مجندين غير مدربين تدريبًا جيدًا، منهم مدانون في جرائم حق عام، إلى الخطوط الأمامية في شرق أوكرانيا، في ظل ارتفاع عدد القتلى بصفوف قادة الجيش الكبار.
إرسال الجيش الروسي مجندين غير مدربين تدريبًا جيدًا إلى الخطوط الأمامية للمعركة، في مواجهة مباشرة للقصف الأوكراني والمدافع الرشاشة، كان نتيجته مقتل وإصابة مئات الجنود كل يوم في الفترة الأخيرة.
وإلى الآن لا توجد إحصائية رسمية لعدد قتلى الجنود الروس في هذه الحرب، خاصة أن موسكو تقلل بشكل روتيني من عدد القتلى والجرحى في الحرب، وفي بعض المرات أعلنت موسكو بعض الأرقام، كان آخرها بداية هذه السنة بإعلانها مقتل 89 من جنودها في ضربة صاروخية أوكرانية في ماكيفكا التي تحتلها روسيا.
تستند أرقام الخسائر الخاصة بالجيشين الأوكراني والروسي إلى صور الأقمار الصناعية واعتراض الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي
يعود ارتفاع عدد القتلى في صفوف الجيش الروسي إلى استخدام القوات الأوكرانية صواريخ موجهة بدقة حصلت عليها من الغرب أو راجمات صواريخ هيمارس، التي يبلغ مداها نحو 70 كيلومترًا، لمهاجمة تجمعات القوات الروسية ومراكز القيادة ومستودعات الأسلحة وطرق الإمداد، وأعطت الصواريخ أوكرانيا قدرة هجومية حاسمة، ما أجبر موسكو على تعديل تكتيكاتها.
وتشمل الخسائر الروسية، الجنود النظاميين وكذلك مرتزقة فاغنر الذين يشاركون في هذه الحرب منذ انطلاقها، وتم استدعاء عدد كبير منهم كانوا يقاتلون في ليبيا وسوريا ودول إفريقية أخرى لمعاضدة جهود الجنود النظاميين.
مع ذلك، من المؤكد أن هذه الخسائر في الأرواح لن تكون رادعًا لأهداف بوتين الحربية، خاصة أنه ليس لديه معارضة سياسية قوية في الداخل، وقد شرعن الحرب بالدفاع عن الدولة الروسية من “تغول الغرب وأطماع حلف الناتو”.
حصيلة القتلى الأوكرانيين
نفس الشيء ينطبق على الجانب الأوكراني، فمن الصعب أيضًا التأكد من أرقام الخسائر هناك، لإحجام كييف عن الكشف عن خسائرها في زمن الحرب، ويعتمد الجيش الأوكراني نفس خطط الروس، إذ يتم في غالب الأحيان الاحتفاظ بتشكيلات المشاة المدربة بشكل أفضل في الخطوط الخلفية لحمايتهم، بينما يتم وضع القوات الأقل استعدادًا على خطوط المواجهة الأمامية وتتحمل وطأة القصف.
وفق آخر تقديرات صادرة عن رئيس الأركان النرويجي إريك كريستوفرسن، فقد أوقعت المعارك 100 ألف قتيل وجريح في الجانب الأوكراني إضافة إلى مقتل 30 ألف مدني، والنرويج الدولة المتاخمة لروسيا، عضو في الناتو منذ تأسيسه عام 1949.
سجّلت أعلى مستوى لها منذ مارس/ آذار 1990.. #الحرب_الروسية_الاوكرانية ترفع أسعار الغذاء والطاقة إلى مستويات قياسية لا تزال مستمرة إلى اليوم.#UkraineRussianWar #نون_بوست pic.twitter.com/oTfTTikskc
— نون بوست (@NoonPost) May 9, 2022
قبل ذلك، في نوفمبر/تشرين الثاني قال رئيس الأركان الأمريكي مارك ميلي إن الجيش الأوكراني تكبد خسائر تزيد على 100 ألف جندي بين قتيل أو جريح، مع ذلك تبقى هذه الأرقام مجرد تقديرات، فلا أحد قادر في الوقت الحاليّ على تقديم إحصائية دقيقة لأعداد الضحايا.
وتستند أرقام الخسائر الخاصة بالجيشين الأوكراني والروسي إلى صور الأقمار الصناعية واعتراض الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي وتقارير وسائل الإعلام على الأرض، فضلاً عن التقارير الرسمية من الحكومتين.
وحشية الروس
شهدت بداية الحرب، تقدم الروس وسيطرتهم على العديد من المدن والقرى الأوكرانية، لكن مع نهاية شهر مارس/آذار تغير المشهد عكسيًا، إذ انسحبت القوات الروسية من ضواحي كييف وكل المقاطعات الشمالية (كييف وجيتومير وتشيرنيهيف وسومي).
هذا الانسحاب، كشف عمّا وصفته كييف بـ”مجازر” ارتكبها الروس في مدن هوستوميل وبوتشا وإربين وبوروديانكا وغيرها، هذه الوحشية دفعت ملايين الأوكرانيين إلى الهروب من هول الفاجعة والتوجه نحو الدول الأوروبية خوفًا من القتل.
وتحدث الادعاء العام في كييف عن توثيق 58 ألفًا و163 جريمة حرب ضد أوكرانيا ومواطنيها حتى أواسط شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، كما تحدثت منظمات عن عشرات الآلاف من الجرائم بحق المدنيين الأوكرانيين.
بلغ حجم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا منذ بداية الحرب 26.7 مليار دولار، آخرها حزمة من المساعدات العسكرية بقيمة 2.5 مليار دولار في يناير/كانون الثاني الماضي
استهدفت آلة الحرب الروسية المنشآت العسكرية والمدنية على حد سواء، وعطلت آلات الإنتاج في عدد من المناطق، وأدت هذه الحرب إلى موجات نزوح ولجوء “أوروبية-أوروبية” هذه المرة، شملت نحو 16 مليون نسمة، أي ما يعادل ثلث عدد سكان أوكرانيا، الذي كان يقدر بنحو 42 مليونًا قبل الحرب.
وحتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لجأ 8 ملايين و364 ألف أوكراني إلى دول أخرى، 90% منهم نساء وأطفال، ومن بين اللاجئين نحو 7.5 مليون طفل، وذلك يمثل أكثر من نصف عدد الأطفال في أوكرانيا قبل الحرب، فيما بلغ عدد النازحين داخليًا نحو 8 ملايين، لكن الرقم قد يبلغ 12 مليونًا وفق السلطات المحلية، بحكم أن كثيرين لا يسجلون أنفسهم “نازحين” في مناطق الإقامة الجديدة.
المساعدات الغربية لأوكرانيا
منذ اليوم الأول للحرب، قدمت كييف نفسها على أنها حامية المبادئ والحدود الأوروبية ضد “الغطرسة الروسية”، ما مكنها من الحصول على مساعدات تقدر بمليارات الدولارات، لولاها لما صمد الجيش والشعب الأوكراني في وجه الروس لهذا الوقت.
من الصعب حساب مقدار المساعدات العسكرية التي تتلقاها أوكرانيا بالضبط، فالمعلومات الرسمية من الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية عن المساعدات العسكرية غير كاملة، لكن بعض التقديرات تشير إلى أنها بلغت نحو 100 مليار يورو، بعضها تم تقديمه بالفعل لكييف وبعضها الآخر مجرد وعود لم يتم الإيفاء بها إلى الآن.
أغدق الغرب على كييف مساعدات مالية وعسكرية، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تصدّرت القائمة، فقد بلغ حجم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا منذ بداية الحرب 26.7 مليار دولار، آخرها حزمة من المساعدات العسكرية بقيمة 2.5 مليار دولار في يناير/كانون الثاني الماضي.
وتضم المساعدات العسكرية الأمريكية أنظمة صواريخ “أرض-جو” (NASAMS) وأنظمة دفع جوي من طراز (Avenger) ومركبات برادلي القتالي وصواريخ مضادة للدبابات وناقلات مدرعات ومركبات نقل مضادة للألغام وذخيرة حية وأجهزة رؤية وغيرها من الأسلحة.
احتلت بريطانيا المركز الثاني بين الدول الداعمة لأوكرانيا، حيث قدمت لها خلال عام 2022 مساعدات عسكرية بقيمة 4.1 مليار يورو، ومن بين الأسلحة التي قدمتها راجمات صواريخ من طراز M270 وأسلحة مضادة للدروع ومئات الصواريخ قصيرة المدى وأنظمة دفاع جوي وناقلات جند مدرعة.
نتيجة هذه العقوبات وغيرها، تضرر القطاع المالي الروسي، ما أدى إلى خسارة مئات المليارات من الدولارات
كما تعهدت مؤخرًا، 10 دول، بينها بريطانيا وإستونيا ودول أخرى، بالسعي بشكل جماعي لتقديم مساعدات غير مسبوقة لأوكرانيا تتضمن دبابات، وذلك بعد أيام من موافقة ألمانيا على منح أوكرانيا نحو 40 دبابة ماردر بنهاية مارس/آذار، كما قبلت برلين إرسال دبابات (ليوبارد 2) إلى أوكرانيا والسماح لدول أخرى مثل بولندا بالقيام بذلك.
يذكر أن ألمانيا قدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا خلال العام الماضي بقيمة 2.3 مليار يورو، لتحتل بذلك المرتبة الثالثة بين داعمي أوكرانيا، ومن بين الأسلحة الثقيلة التي قدمتها ألمانيا راجمات صواريخ وأنظمة دفاع جوي أهمها Iris-T ومدافع هاوبتس 2000 المدرعة المتحركة ومدافع غيبارد ذاتية الدفع المضادة للطيران.
أما فرنسا فقد احتلت المرتبة السابعة بين أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا، فقد وصلت قيمة مساعداتها العسكرية إلى 500 مليون يورو خلال العام الماضي، ومن أبرز الأسلحة التي قدمتها باريس لكييف مدافع سيزر وصواريخ ميلان المضادة للدروع وصواريخ أرض جو من طراز ميسترال.
مكّن الدعم الغربي السخي وخاصة بصواريخ “جافلين” البريطانية ونظم “هايمارس” الأمريكية، كييف من إطلاق عمليات نوعية ومعارك مضادة، استعادت من خلالها العديد من الأراضي التي سيطرت عليها القوات الروسية، ما مكنها من قلب موازين القوى أكثر من مرة.
عقوبات تستهدف روسيا
في مقابل هذا الدعم الغربي السخي لأوكرانيا، فرضت الدول الغربية مجموعة واسعة من الإجراءات الرامية إلى الحد من قدرة موسكو على تمويل الحرب، ففي البداية استهدفت الدول الغربية الأفراد والبنوك ومصالح الأعمال والمؤسسات المملوكة للدولة.
جُمدت أصول البنك المركزي في روسيا، لمنعه من استخدام احتياطيه من النقد الأجنبي البالغ 630 مليار دولار، وعُزلت البنوك الروسية عن نظام المراسلة المالية الدولي “سويفت”، كما استبعدت المملكة المتحدة بنوكًا روسيةً من النظام المالي للمملكة.
ليس هذا فقط، إذ منعت الشركات الروسية أيضًا من اقتراض المال ووضعت قيودًا على عمليات الإيداع التي يمكن للروس القيام بها في البنوك الغربية، كما اُعلن عن عقوبات تستهدف الصادرات الروسية وخاصة الواردات من النفط والغاز.
كما فرضت الدول الغربية عقوبات على أكثر من 1000 شخص وشركة روسية، وشملت القائمة رجال الأعمال الأثرياء الذين يطلق عليهم “الأوليغارشية” ويُعتبرون من المقربين للكرملين، من بينهم المالك السابق لنادي تشيلسي لكرة القدم رومان أبراموفيتش.
الحلويات ممنوعة والزيوت مفقودة و #الخبز شارف على النفاذ، كيف تدفع دول #الشرق_الأوسط ثمن #الحرب_الروسية_الأوكرانية؟#نون_بوست pic.twitter.com/A4O9kSEDoS
— نون بوست (@NoonPost) March 9, 2022
فُرضت عقوبات على مسؤولي الحكومة الروسية وأفراد عائلاتهم، من ذلك الرئيس بوتين الذي تم تجميد الأصول المالية التابعة له وأيضًا وزير الخارجية سيرغي لافروف في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا.
نتيجة هذه العقوبات وغيرها، تضرر القطاع المالي الروسي، ما أدى إلى خسارة مئات المليارات من الدولارات، بحسب ما كشفت وثيقة لوزارة المالية الداخلية الروسية، تداولتها العديد من الوسائل الإعلامية الغربية قبل أشهر من الآن.
تدخل الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، دون أن تتحقق أهداف الروس، لهذا من المتوقع أن تستمر من دون توقف قريب، خاصة أن كييف حصلت على مساعدات عسكرية نوعية من الغرب لها أن تقلب موازين القوى مرة أخرى لصالحها.