محاولات يقوم بها رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، لحلّ ما يصفها إخفاقات ارتكبتها الحكومات التي سبقته، مستهلًّا ولايته بوعود رفع رواتب الموظفين والمتقاعدين وتوفير فرص عمل للعاطلين وخلق وظائف للخريجين، إضافة إلى وعود أخرى مثل تحسين الخدمات ومكافحة الفساد.
لكنه وبعد مرور أشهر على تسلُّمه منصبه، لا يزال يدور في نفس فلك مشاكل الحكومات السابقة، ولم يتمكّن من حلّ أي من تلك الملفات بشكل جذري، فرغم كشف عدد من ملفات الفساد ووجود أدلة دامغة على تورُّط جهات متنفّذه في الدولة بهذه الملفات، إلا أن الحلول التي قدّمها بهذا الخصوص كانت ترقيعية، ولم تستكمل التحقيقات بالشكل الذي يلبّي طموح العراقيين، لأنها ربما تجرُّ خلفها أسماء فوق سلطة أي من الدوائر القضائية، أما ملف الخدمات فلم يلمس المواطن أي تحسُّن بهذا الخصوص، ولا تزال المشاريع الوهمية تسيطر على ملف المشاريع الخدمية في العراق.
قرار تثبيت عقود أكثر من 376 ألف من العاملين بأجور يومية كان خطوة مهمة، وأثار ردود فعل إيجابية وبعث الأمل في نفوس العراقيين حتى غير المنتفعين من القرار، معتبرينه خطوة نحو تحقيق المزيد من الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء، لكن هذه الآمال بدأت تتلاشى بمرور الوقت وبقاء الأزمات وربما تفاقمها.
إذ لا تزال معدّلات البطالة مرتفعة في بلد يملك ثروات نفطية هائلة وموانئ وموقع استراتيجي هام، إضافة إلى السياحة الدينية التي من المفترض أن توفر فرص عمل وتشجّع الحكومة على إنشاء مشاريع استثمارية تخدم هذا القطاع، إضافة إلى أنواع السياحة الأخرى مثل المواقع التاريخية وزيارة المناطق الطبيعية، التي أصبحت في الآونة الأخيرة تحظى باهتمام الأجانب، رغم إهمال الدولة لهذا القطاع الهام.
أما فيما يخص تثبيت العقود، فهي خطوة تمّت بشكل غير مدروس كما يرى مختصون، لأنها ستكون عبئًا على الموازنة، وهي ربما طريقة لاسترضاء الشارع وإيصال رسالة مفادها أن حكومة السوداني نجحت بما أخفقت به سابقاتها، لكنها ليست الخطوة التي ينتظرها العراقيون الطامحون لحلول جذرية لواقعهم الاقتصادي الصعب.
توفير فرص عمل محفوفة بالمخاطر
أثار إعلان السوداني، تثبيت العقود اليومية وتوفير فرص عمل، مخاوف خبراء الاقتصاد وعدد من النواب، بسبب رفع قيمة فقرة الرواتب في موازنة عام 2023 من 43 تريليون دينار عراقي (ما يعادل 28 مليار دولار) إلى 62 تريليون (ما يعادل 42 مليار دولار) سنويًّا، وهو أمر قد يسبّب عجزًا في الموازنة، لا سيما إذا انخفضت أسعار النفط، المصدر الرئيسي لتغذية موازنة البلد.
كما عدّ عضو اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، أحمد حاج رشيد، هذه الخطوة غير قانونية، بسبب عدم تشريع قانون موازنة عام 2023، فيما رأى خبراء اقتصاديون أن هذه الخطوة يجب أن تقابَل بحذف بعض الدرجات الوظيفية، لا سيما إذا استمرت أسعار النفط على ما هي عليه، لأن هذا يعني عجز الحكومة مستقبلًا عن تسديد فواتير رواتب الموظفين.
وعلّل الخبراء هذه الفرضية بحدوث ترقيات وظيفية سيحصل عليها موظفو الدولة بشكل تلقائي، وهذا يعني زيادة في رواتبهم، ما يؤدّي إلى زيادة العبء على ميزانية الدولة.
ما نُهب من العراق يكفي لسدّ ميزانية رواتب الموظفين والمتقاعدين والمصاريف التشغيلية لأكثر من 9 سنوات
قُدّر عدد الموظفين الذين سيتمّ تعيينهم بمليون موظف ليتجاوز العدد الإجمالي للموظفين الـ 4 ملايين موظف، ما سيرفع مصاريف رواتب الموظفين والمتقاعدين والمصاريف التشغيلية إلى 90 تريليون دينار عراقي (ما يعادل 61 مليار دولار) سنويًّا، ما قد يضع العراق أمام أزمة اقتصادية في حال هبّت رياح أزمة عالمية، ويقع العراق في فخّ اقتصادي جديد لا يحمَد عقباه.
كل ما تقدّم من مخاوف، سواء كانت من قبل مسؤولين أو خبراء الاقتصاد، تمحورت حول مخاوف من إرهاق ميزانية الدولة من رواتب الموظفين والمتقاعدين، دون الحديث عن إرهاق تلك الميزانية بملفات الفساد والعقود الوهمية التي يبرمها التجار المرتبطون بصنّاع القرار في العراق، ولم يتطرّقوا إلى نخر ميزانية الدولة بسرقات لم يتمَّ التحقيق بها بشكل شفاف.
فجميع تلك السرقات تُطوى في ملفات التحقيقات التي تُدار خلف الأبواب المغلقة، وتنتج عنها صفقات لإسكات القضاء، آخرها ما عُرف بـ”سرقة القرن” التي أُهدر فيها أكثر من 3 تريليونات دينار عراقي (ما يعادل 2.5 مليون دولار)، والتي لم يعلَن حتى الآن المبلغ الذي تمَّ استرداده من هذه الفضيحة، ولا يعلم العراقيون الفاقدون للثقة بدولتهم ما إذا كان استرداد هذه الأموال يتم ضمن سياق قانوني أم لا، وأين ستذهب الأموال؟
كما لم يتم الحديث عن المبالغ الطائلة التي تصرَف للنواب والمسؤولين بالدولة، كنثريات أو رواتب الحمايات أو وظائف يشغلها أقارب هؤلاء المسؤولين أغلبها اُستحدثت بغرض الاسترضاء، عدا ملفات سفر المسؤولين وعائلاتهم وإدراجها في بند الإيفادات، وتقدَّر بملايين الدولارات سنويًّا.
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تحدّث عن استرداد نحو 80 مليون دولار من الأموال المنهوبة التي قدّرها البعض بـ 600 مليار دولار، والبعض الآخر تحدّث عن مبالغ أكبر بكثير، فما قيمة 80 مليون دولار تمَّ استرجاعها لخزينة الدولة، مقابل هذه الأموال التي نُهبت على مدار عقدَين كاملَين؟
فلو افترضنا أن قيمة بند الرواتب والمصاريف التشغيلية السنوية تقدَّر بـ 90 تريليون دينار عراقي (ما يعادل 61 مليار دولار) سنويًّا، وقيمة المبالغ المنهوبة من العراق 600 مليار دولار، فهذا يعني أن ما نُهب من العراق يكفي لسدّ ميزانية رواتب الموظفين والمتقاعدين والمصاريف التشغيلية لأكثر من 9 سنوات، وهذه أقل التقديرات إن لم تكن المبالغ المنهوبة من العراق أكثر من هذا بكثير.
أعباء اقتصادية حرمت الملايين من خريجي الجامعات من حصولهم على فرص عمل طوال عقدَين، ووقفت عائقًا أمام نمو البلد، وحرمت العراقيين الحصول على خدمات تعد بديهية في دول أخرى، كتوفير الكهرباء والماء الصالح للشرب والبنى التحتية الأخرى، وفسحت المجال أمام المستفيدين ليكونوا من أغنى الشخصيات في العالم.
خطة الحكومة بدعم قطاعات جديدة وخلق فرص عمل
تراوحت معدلات الفقر خلال العامَين الماضيَين بين 20 و22% في بلد متعدد الموارد، أرقام تسبّبت في انعكاسات اجتماعية مخيفة، إذ فجّرت موجات من المظاهر الغريبة على المجتمع العراقي، فبعض العائلات لجأت إلى بيع أبنائها الذين عجزت عن توفير الخبز لهم، ومنهم من لجأ لتزويج بناته القاصرات، وغيرهم من لم تطاوعه نفسه على اتخاذ هذه القرارات فلجأ إلى الانتحار، أو الهروب من العائلة والزجّ بها إلى مصير مجهول.
عدا تفشي الجريمة واللجوء إلى المجموعات المسلحة والميليشيات والعصابات للحصول على فرصة عمل، يتمكّن رب الأسرة من خلالها توفير ما عجزت الدولة عن توفيره له، البطالة آفة نخرت بالمجتمع على مدار سنوات طويلة وتسبّبت في خروقات أمنية لم تتمكن الدولة الغارقة بفسادها من السيطرة على هذه الخروقات.
وبهذا أصبح العراق بيئة غير آمنة للاستثمار، ودفع برجال الأعمال العراقيين إلى إخراج نقودهم إلى دول آمنة والاستثمار هناك، وأدّى إلى شلل في القطاع الخاص، حتى غابت فرص عمله ولم يكن أمام خريجي الجامعات إلا مؤسسات الدولة، العاجزة عن توفير درجات وظيفية لهم.
كيف ستمرّر الأحزاب الموالية لإيران قرارات تدعم فيه الصناعة المحلية، في وقت تجاوزت فيه صادرات إيران للعراق من السلع غير النفطية خلال الـ 10 أشهر الأخيرة حاجز الـ 45 مليار دولار؟
حكومة السوداني أعلنت خطة جديدة لتفعيل عدد من القطاعات التي غابت عن موازنة الدولة لسنوات طويلة، منها الزراعة والصناعة والسياحة، والتي يعدّ تطويرها طريقة لإسناد ميزانية العراق بموارد جديدة غير النفط، وتوفّر فرص عمل للآلاف وربما الملايين، لكن هل سيتمكّن السوداني خلال الـ 4 سنوات القادمة من إصلاح ما أفسده أسلافه على مدار عقدَين؟
خطة مليئة بالتحديات، منها تتعلق بنظام الدولة والحاجة لاستحداث قوانين تخدم هذه الخطة، والتي ستكون تحت رحمة موافقة مجلس النواب الذي تسيطر عليه أحزاب ربما لا تروق لها هذه الخطة، فإذا تحدثنا عن الصناعة، فكيف ستمرّر الأحزاب الموالية لإيران قرارات تدعم فيه الصناعة المحلية، في وقت تجاوزت فيه صادرات إيران للعراق من السلع غير النفطية خلال الـ 10 أشهر الأخيرة حاجز الـ 45 مليار دولار، بحسب مدير عام الجمارك الإيرانية محمد رضواني؟
إنها طريقة لتوفير العملة الصعبة لإيران في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها، إذ يعدّ العراق الرئة التي تتنفس منها إيران، ولن تسمح بتنشيط الصناعة فيه لأن هذا سيمثل تنافسًا لسلعها التي تغزو الأسواق العراقية، إضافة إلى التحديات التي ترافق قطاع الزراعة، فهذا البلد يعاني من ظاهرة التصحُّر وانخفاض منسوب المياه وهجرة الفلاحين إلى المدينة.
يفقد العراق سنويًّا 100 ألف دونم زراعي من إجمالي 32 مليون دونم بسبب التصحُّر والزحف الصحراوي وتصاعُد وتيرة الكثبان الرملية في مناطق كانت زراعية في السابق، ما يهدّد الأمن الغذائي في العراق ويدفعه إلى استيراد محاصيله الزراعية من الخارج، وهو وضع يستحيل فيه تنشيط قطاع الزراعة وإعادة الفلاحين إلى أراضيهم.
إضافة إلى الهجرة القسرية التي تعرّضَ لها الفلاحون في عدد من المناطق العراقية، لا سيما بعد تحرير هذه المناطق من تنظيم “داعش” ومحاولات التغيير الديموغرافي التي تبعت ذلك، وحرمان سكان هذه المناطق من العودة إلى مناطقهم وأراضيهم الزراعية، ما خلق بطالة ملحوظة في صفوف هذه الفئة التي لم تعد في حسبان الحكومة، أو تناساها صنّاع القرار في العراق.
مزاد الوظائف والبطالة المقنَّعة
انتشرت في العراق خلال العقدَين الأخيرَين ظاهرة بيع الوظائف، إذ يطلب مسؤول كبير في الدولة، أو مسؤول التعيينات في إحدى الوزارات، مبالغ مالية مقابل حصول المواطن على وظيفة، وتختلف المبالغ بحسب أهمية الوظيفة وما تدرّه على صاحبها من مبالغ مالية من خلال الرشوة التي يحصل عليها أثناء تسلُّمه تلك الوظيفة.
إذ سُعّرت وظيفة المدرّس بمبلغ تراوح بين 5 آلاف و10 آلاف دولار أمريكي، بينما تخطى سعر منصب موظف في مؤسسات مرتبطة بالخدمات المالية الـ 100 ألف دولار، ظاهرة حصل الكثيرون من خلالها على وظائف، لكنها أساس لحلقة فساد جديدة، فمن يشتري منصب أو وظيفة سيقع هو ذاته في شرك الفساد والرشوة.
ومن خلال هذه الظاهرة جنى أصحاب قرارات التعيينات مبالغ كبيرة، ولم تتمكّن الحكومة من الحد من هذه الظاهرة لأنها شبكة توسّعت وتورّط فيها مسؤولون كبار في الدولة، فمن يتورط بهذا النشاط دون أن يكون له سند من صنّاع القرار في البلد يقاسمه هذا العمل التجاري المربح؟ لا سيما في ظل البطالة المنتشرة في العراق وصعوبة أو استحالة الحصول على تعيين في الدولة، خصوصًا قبل فتح التعيينات وتثبيت العقود.
وعلى صعيد المناصب العليا في الدولة، مثل الوزارات ومناصب إدارة المؤسسات، فهناك مستوى آخر من الأسعار تصل إلى ملايين الدولارات، ما يدفع بخلافات عميقة قد تصل إلى إعاقة تشكيل الحكومة في بعض الأحيان، وتعطيل الدولة ومؤسساتها بشكل كامل.
كما انتشرت ظاهرة أخرى في العراق، وهي سفر الموظفين إلى خارج العراق للدراسة أو لأغراض الهجرة، بينما بقوا في مناصبهم الوظيفية واستمروا بتقاضي رواتبهم بشكل اعتيادي، ما أدّى إلى وجود عجز في عدد موظفي مؤسسات الدولة في وقت تخصّص الدولة مبالغ كبيرة لبند رواتب الموظفين في الميزانية.
وتحت مسمّى تطهير مؤسسات الدولة من الفساد، تفانت الحكومات المتعاقبة في العراق للقضاء على هذه الظاهرة دون جدوى، بسبب تورُّط مسؤولين كبار في الدولة بهذه الممارسات، كما رفعت شعارات القضاء على البطالة وتوفير فرص العمل للعاطلين، إذ وعدت تلك الحكومات بتعيين الخريجين، لكنها شعارات انتخابية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وفقدَ الشباب الطامحون إلى إيجاد فرص عمل ثقتهم بهذا النوع من الوعود، فالبطالة ما زالت ظاهرة تؤرق هذه الفئة، التي من المفترض أن تكون أكثر فئات المجتمع إنتاجًا.