انتهت محاولات الاستقرار والانسجام مع المجتمع المضيف لدى اللاجئين السوريين المقيمين في الولايات التركية الجنوبية، البالغ عددها 10 ولايات تعرّضت للزلزال صباح الاثنين 6 فبراير/ شباط الجاري، ويعيش فيها أكثر من مليوني لاجئ سوري، حاولوا بشتى السبل المتاحة بناء حياة جديدة خلال العقد الماضي، بعدما هُجّروا من منازلهم وعاش كثير منهم في الخيام لسنوات عديدة قبل النزوح إلى تركيا.
أسس اللاجئون السوريون على مدار العقد الماضي حياة في تركيا، إذ بدأوا بتنظيم علاقاتهم الاجتماعية، وإنشاء أعمالهم بمهن مختلفة، وارتباطاتهم المعيشية والاقتصادية والتعليمية، بهدف الشعور بأدنى درجات الاستقرار أملًا في بدء حياة جديدة، التي باتت خيارًا مفروضًا عليهم، لكنها في لحظة ما أضحت هباءً منثورًا.
“يمكن ما ضل عنا بكرا.. الناس هائمة على وجوهها، مو عارفة شو تعمل، الـ 24 ساعة الأولى كانت مظلمة على كل الناس سوريين وأتراك، مذهولين”، بهذه الكلمات بدأ محمود أبو موسى الذي يقيم مع عائلته في مدينة مرعش جنوبي تركيا، حديثه مع “نون بوست”.
كان المدرّس أبو موسى في منزله، ضمن الأحياء الشعبية في ولاية كهرمان مرعش، إلى جانب أسرته عندما حصلت مأساة الزلزال، إذ خرج هو وعائلته بسرعة إلى شوارع المدينة نتيجة الزلزال، ويقيم الآن في مخيم اللاجئين السوريين في محيط مدينة كهرمان مرعش جنوبي البلاد.
تجوّلَ الرجل عقب الزلزال في شوارع المدينة يتفقّد أصدقاءه ومعارفه، بعدما تفقّد عائلته، لكن فوجئ بهول الفاجعة التي أصابت المدينة، الأبنية وقعت على رؤوس ساكنيها، ونداءات الاستغاثة من كل مكان، مشيرًا إلى أن زميلًا له فقدَ 3 من أفراد أسرته، كان يقف أمام البناء ينتظر أحدًا يبحث عنهم، وصديقًا آخر فقده هو وعائلته بين الأنقاض.
بصيص أمل مفقود
خرج محمود أبو موسى قبل 10 سنوات من الأراضي السورية، إلى مخيم مخصّص للاجئين السوريين في ولاية كهرمان مرعش التركية، بعدما تقطعت بهم سبل الحياة على الأراضي السورية نتيجة قصف نظام الأسد على منازل المدنيين في منطقة ريف حلب الشمالي.
وأمضى مع أسرته في المخيم إلى جانب آلاف السوريين نحو 5 سنوات تقريبًا، رافضًا فرص الهجرة التي أُتيحت له، آملًا في العودة القريبة إلى منزله في سوريا، الذي عاش فيه 3 سنوات بعدما أتمَّ بناءه، إذ مضت تلك السنين دون تغيير يذكَر في حياته وأسرته، لا سيما تعليم أبنائه وتأسيس حياة جديدة مستقرة في هذا البلد، كحال معظم اللاجئين السوريين المقيمين في المخيمات التركية.
يقول الرجل خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن أبنائي كبروا في المخيم، ما اضطرني إلى الخروج نحو المدينة عام 2016، بهدف تعليمهم والاستقرار فيها، فلا عودة قريبة تلوح في الأفق إلى بلدنا، لأن البقاء في المخيم لا يعدّ حياةً حقيقية، وإنما أيامًا نحاول قضاءها، وذهبت سدى من عمرنا”.
ويضيف: “في السنوات الماضية التي عشتها ضمن أحياء المدينة، كوّنت مجتمعًا متنوعًا من الأصدقاء والأصحاب السوريين والأتراك، وعلاقات متينة، وعملًا مستقرًّا، عملت في العديد من المهن بعدما انفصلت من التعليم قبل عامَين، بهدف تأمين احتياجات أسرتي وأقساط الجامعات لبناتي”.
يتحدث الرجل بحرقة ولوعة شديدتَين عن الأحلام التي كان يحاول بناءها في ظل ظروف انعدام الاستقرار في البلد المضيف، حيث بدأ يدرّس بناته في الجامعات التركية ويتابع أبناؤه تعليمهم في المدارس، كباقي السوريين المقيمين هناك، لكن فجأة ضاعت كل تلك الجهود.
محاولة للنجاة
لم يكن حسان، يدري أن كل محاولاته في النجاة من سوريا ستعود إلى لحظة صفر، لأنه كان آملًا في حياة مستقرة بعدما تهجّر من منزله في مدينة مارع بريف حلب الشمالي خلال العام 2015، بسبب هجمات تنظيم “داعش” على المدينة.
كان الشاب يحاول خلال تلك السنوات تأسيس حياته في الداخل السوري بالإمكانات المتاحة، ومتابعة تحصيله العلمي في معاهد تعليمية محلية، لكن خطر التنظيم دفعه فجأة إلى الخروج من المدينة مع أسرته إلى تركيا، حيث استقرَّ مع أسرته وأشقائه في منزل في مدينة كهرمان مرعش التركية، وبدأ خلال الأيام الأولى وضع مخطط لحياته الجديدة التي كان يأمل أن تكون في سوريا، لكن لا مكان هناك للطامحين، فلا مقوّمات تمسك بأيديهم.
حاول خلال تلك الأثناء البحث عن مردود مالي، وبدأ العمل في مهن متعددة لتأمين احتياجات أسرته مع والده، كون تكاليف المعيشة مرهقة ولا يمكن الجلوس في المنزل دون العمل لتوفير الاحتياجات، لكن بعد محاولات مكثّفة استطاع الشاب، إلى جانب العديد من السوريين الذين يحاولون النجاة بإمكانات محدودة، الاندماج في المجتمع التركي ودخول المقاعد الدراسة الجامعية، إلى جانب عمله.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “رغم كل تلك المآسي التي كنا نمرُّ فيها كنا ننتظر النجاة من الحرب، وتأسيس حياة وقاعدة اجتماعية جديدة مرتبطة بأعمالنا ودراستنا، وعندما وصلنا إلى جزء من الاستقرار حلّت الكارثة”.
فقدَ الشاب عائلة كاملة من أقاربه خلال الزلزال، إضافة إلى فقدان العشرات من أقربائه وأصدقائه والأشخاص المؤثرين في حياته، إذ أضحت كل تلك السنوات وما أسّسه من حياة جديدة كأنّ شيئًا لم يكن، ما دفعه إلى النزوح مجددًا مع أسرته إلى ولاية كلس قرب الحدود مع سوريا، ويحاول الاستقرار في ظلّ ظروف صعبة للغاية، كأن محاولات النجاة التي كان ينسجها بأمل ضعيف تدمّرت بالكامل.
انتظار مجهول
أحمد الإبراهيم (28 عامًا) من مدينة حلب، ويقيم في منطقة نيزب جنوبي تركيا، ترك منزله بعدما تعرّض لتصدعات شديدة جرّاء الزلزال المدمر، وانتقل إلى مدينة غازي عنتاب مع أسرته المكونة من 3 أفراد.
لم يستطع الإبراهيم، الذي يعمل في شركة للألعاب، الاستقرار في ولاية غازي عنتاب، بسبب قربها من منطقة الزلزال، وتعرّضها لتصدعات مضاعفة عن المدينة التي يقيم بها، ما دفعه إلى الانتقال مجددًا نحو ولاية إسطنبول في ضيافة أقاربه.
وقال الشاب خلال حديثه لـ”نون بوست”: “قضيت نحو 10 سنوات في تركيا، أسّست حياة شبه مستقرة كباقي السوريين هنا، وتزوجتُ وأنجبتُ طفلًا، محاولًا تأسيس حياة جديدة طيلة السنوات الماضية رغم ظروفنا الصعبة كلاجئين فرّوا من بلادهم بإمكانات معدومة”.
وأضاف أنَّ المبنى الذي كان يقيم فيه أُغلق، وبات اليوم يبحث عن منزل جديد، ولا يعرف أين وجهته الجديدة، وما عليه سوى الانتظار حتى يتضح مستقبل اللاجئين السوريين المتضررين من الزلزال، لا سيما أنهم ينامون في الأماكن الآمنة والحدائق والمساجد حتى هذه اللحظة.
وأوضح أنَّ قرار العودة إلى نيزب صعب للغاية، بسبب فقدانها للأمان جرّاء تضرر الأبنية، ما يعني أنه سيضع أسرته تحت الخطر، لكنه في الوقت نفسه مضطر للعودة إلى المدينة بسبب قوانين النقل المحظورة على السوريين.
اللاجئون السوريون المنكوبون
أعلن معبر باب الهوى الحدودي عن افتتاح الإجازات لاستقبال اللاجئين السوريين ضمن الولايات التركية المنكوبة جرّاء الزلزال في الشمال السوري، إذ يمكن لحاملي بطاقة الحماية المؤقتة “كمليك”، في تلك الولايات، الدخول إلى الأراضي السورية، لإجازة أقلها 3 أشهر، وأقصاها 6 أشهر.
ويأتي هذا بهدف التخفيف عن اللاجئين السوريين في الولايات التركية المنكوبة، كون معظمهم لم يبقَ لديهم منازل يقطنون بها، والإجازة هي لعدة أشهر حتى استقرار الأوضاع في تركيا، بحسب مدير العلاقات العامة في المعبر، مازن علوش.
دفنَ السوريون في شمال غربي البلاد ضحايا الزلزال في الجنوب التركي والشمال السوري ضمن مقابر جماعية بسبب ارتفاع أعداد الضحايا
وتتوافد يوميًّا إلى المعابر الحدودية بين تركيا وسوريا المئات من جثامين اللاجئين السوريين الذين قضوا جرّاء الزلزال، وكانوا يعيشون في مدن الجنوب التركي، أديامان وكهرمان مرعش وغازي عنتاب ونيزب وعثمانية وملاطية وهاتاي وديار بكر وأضنا وشانلي أورفا.
وبلغ عدد جثامين اللاجئين السوريين التي دخلت الأراضي السورية نحو 1500 جثمان تقريبًا، دخلت معظمها من معبر باب الهوى، والتي بلغت 1290 جثمانًا، و153 جثمانًا من معبر باب السلامة، و27 جثمانًا من معبر الراعي، منذ لحظة وقوع الزلزال حتى مساء الاثنين 13 فبراير/ شباط الجاري.
وقال مدير العلاقات العامة في معبر باب الهوى، مازن علوش، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تخرج الجنازة من الأراضي التركية إلى سوريا عبر أخذها إلى جبّانة الريحانية، حيث يتم توثيقها، وثم تُنقل إلى معبر باب الهوى بواسطة سيارات البلدية بشكل مجاني، وبدوره فريق تخريج الجنازات في الجانب السوري، وبالتنسيق مع المكتب الطبي، يقوم بتسليم الجثامين لذويها”.
ودفنَ السوريون في شمال غربي البلاد ضحايا الزلزال في الجنوب التركي والشمال السوري ضمن مقابر جماعية بسبب ارتفاع أعداد الضحايا، ودفنوا معهم قصصًا وحكايات طويلة من المعاناة والآلام التي عاشوها في بلاد الغربة، بعيدين عن أرضهم وغير قادرين على العودة إلى سوريا، لكنهم عادوا محمَّلين على الأكتاف دون حركة، بينما عاد آخرون في إجازات لتوديع أحبائهم.