لم تكن مدينة حلب الواقعة تحت سيطرة حكومة نظام الأسد بمنأى عن الدمار الذي خلفه الزلزال، الاثنين 6 فبراير/ شباط، فالمدينة التي دمرتها المقاتلات الحربية لنظام الأسد وروسيا، ضاعف الزلزال محنتها، وأحال أبنيتها الآيلة للسقوط إلى ركام، وبات قاطنوها، أعني من تبقى حيّا منهم، مشردًا، بالخصوص مع تجاهل نظام الأسد لأحيائهم منذ سيطرته عليها.
حلب مدمَّرة قبل الزلزال
قادت الميليشيات الإيرانية والمحلية السورية، إلى جانب قوات نظام الأسد والطيران الروسي، عمليات عسكرية مكثّفة على الأحياء الشرقية التي تخضع لسيطرة المعارضة منذ عام 2012، انتهت بالسيطرة على المدينة في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2016، بموجب اتفاق هُجر على إثره عشرات الآلاف من أهالي المدينة، بمن فيهم بطبيعة الحال مقاتلوا المعارضة.
وتعرّضت المدينة لدمار كبير في البنية التحتية من قبل نظام الأسد، ذلك عندما كانت تحت سيطرة المعارضة، ما أدّى إلى خروج معظم المرافق العامة عن الخدمة، وتضررها أو دمارها بالكامل، ودمار أبنية سكنية طابقية كانت تأوي مئات الآلاف من السوريين الذين فرّوا إلى تركيا والشمال السوري، في رحلة نزوح وهجرة مستمرة.
وتعدّ نسبة الدمار في محافظة حلب أعلى نسبة بين جميع المحافظات السورية، حيث يوجد 4 آلاف و773 مبنى مدمّرًا كليًّا، و14 ألفًا و680 مبنى مدمّرًا بشكل بالغ، و16 ألفًا و269 مبنى مدمّرًا بشكل جزئي، ليبلغ مجموع المباني المتضررة نتيجة القصف والمعارك نحو 35 ألفًا و722 مبنى، بحسب معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR) الذي نشر بحثًا أمميًّا في مارس/ آذار 2019.
وأجرت لجنة السلامة، المكوّنة من فرق هندسية تابعة للنظام، عملية إحصاء في محافظة حلب للمباني الخطرة عام 2019 شملت 36 حيًّا، وخلصت إلى وجود نحو 10 آلاف مبنى خطر، وأقرّت بوجود نحو 80 ألف شقة سكنية يجب أن يتمَّ إخلاؤها فورًا بسبب خطورتها، لكن ذلك لم يتم في معظم المباني نتيجة انعدام التدابير والإمكانات لدى السكان.
ورغم أن نسبة الدمار في الأبنية السكنية مرتفعة، إلا أن الأهالي عادوا إلى منازلهم ومساكنهم في الأحياء الشرقية والأبنية التي تعرّض جزء كبير منها للدمار، بعدما فقدوا الأمل في الحصول على بديل آمن، في ظل عجز مجلس محافظة حلب عن تقديم الخدمات وسط تجاهل متعمّد.
وبقيت الأحياء الشرقية طيلة الـ 5 سنوات الماضية معدومة من الخدمات كليًّا، وسط إهمال من مسؤولي المحافظة، لا سيما إصلاح البنية التحتية كشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والاتصالات، فيما اقتصرت جهود المحافظة على ترحيل الدمار وفتح الشوارع.
وتسبّب الإهمال في سقوط عشرات الأبنية السكنية الطابقية فوق رؤوس قاطنيها قبل الزلزال، مخلفًا عشرات الضحايا والمصابين من المدنيين، بأعداد لا يمكن إحصاؤها بشكل دقيق، وكان آخرها انهيار مبنى سكني في حي الفردوس في 4 شباط/ فبراير، أي قبل الزلزال بيومَين، مخلفًا عددًا من الضحايا.
الزلزال يفاقم حجم الدمار
فاقم زلزال تركيا وسوريا حجم الدمار في الأحياء الشرقية من مدينة حلب، والتي تعرضت لقصف ممنهَج من قبل النظام وروسيا خلال السنوات الماضية، ولم تتمَّ إعادة ترميمها أو بناؤها، وبمعنى أصحّ، كانت الجهود المبذولة من قبل مجلس محافظة حلب ضعيفة جدًّا في تعاملها مع حجم الكارثة التي كانت تفتك بقاطني الأحياء بشكل دوري.
وتسبّب الزلزال في مضاعفة الدمار في أحياء الشعار، والحلوانية، وسد اللوز، وجورة، وضهرة عواد، والمواصلات القديمة، وبستان الباشا، والمشارقة، والصالحين، وكرم الجبل، والميسر، وسليمان الحلي، والعزيزية، وقاضي عسكر، وكرم الجزماتي، والجلوم، وكرم الأفندي، وغيرها من الأحياء الواقعة في القسم الشرقي من المدينة، والمتضررة جرّاء المعارك والقصف.
ما بين الزلزال وقصف نظام بشار الأسد.. يستذكر أهالي #حلب المهجّرين بعد أن دمّر نظام الأسد حاضرتهم بكل ما فيها من ذاكرة وعمران، مشاهد الدمار والركام والعالقين تحته ليأتي #الزلزال المدمر ويعيد لذاكرتهم المشاهدة ذاتها لكن بفعل مجرم حاقد لا يأبه لشيء سوى التشبث بالحكم.#سوريا pic.twitter.com/uXvR3kSIaD
— نون بوست (@NoonPost) February 14, 2023
وأكّدت مصادر محلية في مدينة حلب أن الأبنية السكنية التي دُمّرت جراء الزلزال معظمها يقع في القسم الشرقي، بينما كان الضرر في الأحياء الغربية التي بقيت تحت سيطرة النظام ولم تتعرض للقصف والمعارك نادرة مقارنةً مع الأحياء الشرقية، والتي كانت تقع فوق رؤوس أصحابها دون زلزال.
وأضافت: “إن آلاف العائلات اضطرت العودة إلى شققها السكنية رغم تضررها ومخاطر السكن فيها، لكن عجز الحكومة عن توفير منازل آمنة، والعمل على إعادة إعمارها، وتأمين بنية تحتية سليمة، ساهم في ارتفاع أعداد الضحايا جرّاء الزلزال الذي ضرب مدينة مرعش التركية”.
وبلغ عدد الأبنية المدمرة جراء الزلزال نحو 200 مبنى، مخلفًا نحو 2274 وفاة، وآلاف المصابين، بينما كان الدمار الحاصل الذي سبّبه النظام خلال العقد الماضي يتجاوز الـ 36 ألفًا.
النظام يتعمّد تدمير المباني
شكّلت حكومة النظام في محافظة حلب 15 لجنة من نقابة المهندسين، بهدف الكشف عن المنازل المتضررة جراء الزلزال، بحسب ما أوضح رئيس الحكومة حسين عرنوس، خلال جولته في المدينة في 8 فبراير/ شباط الجاري.
وبعد مرور 5 أيام على كارثة الزلزال، بدأت اللجان الكشف عن المنازل المتضررة والتي تعدّ خطرة وغير آمنة للقاطنين، حسب زعم اللجان التي اطّلعت على حالة الأبنية، والتي باشرت بهدم العشرات من الأبنية السكنية الطابقية، دون منح أصحابها مهلة حتى لتفريغها من محتوياتها.
أكرم (اسم مستعار) شاب يقيم مع أطفاله وأمه وزوجته في شقة سكنية بحي صلاح الدين في مدينة حلب، عاد إلى منزله المتضرر نسبيًّا جرّاء الزلزال بعد مرور يومَين على الكارثة، قضاهما في شوارع المدينة مع أسرته في ظل انخفاض درجات الحرارة وانعدام الحيلة، لكنه فوجئ بقدوم لجنة السلامة المكونة من مهندسين وعناصر أمنية تابعة للنظام تطرق باب شقته، حيث بلّغته الخروج من المنزل على الفور.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لم تجرِ اللجنة المتخصصة بالكشف على الأضرار دراسة مسبقة للبناء، إنما اعتمدت على آلية غير واضحة في تقييم الضرر، لا سيما أن معظم الأبنية متضررة مسبقًا، وطلبت مني الخروج وعائلتي من المنزل على الفور، دون منحي وقتًا لإخراج محتويات المنزل”.
وأضاف أنه طلب من اللجنة منحه بعض الوقت كي يقوم بتأمين منزل بديل ونقل محتويات منزله البسيطة من أغطية وفراش، والتي بقيَت لديه بعدما سُرق منزله سابقًا، لكنهم لم يسمحوا له بذلك، ما دفعه إلى الخروج من الشقة بلباسه مثل باقي قاطني المبنى.
ومنعت اللجنة أهالي المبنى الذي يقيم فيه أكرم والمبنى المجاور من إفراغ ممتلكاتهم، حيث أغلقت مداخل الأبنية وسرق الشبيحة والعناصر الأمنية محتوياتها أمام أعين أصحابها، لتدمّرها في اليوم التالي، ويبقى الرجل مع عائلته في الشارع يبحث عن مكان يأوي إليه، بعدما دُمّر منزله.
النظام يستغلُّ مساعدات الأهالي
بحسب أكرم، فإنّ مراكز الإيواء التي اُفتتحت في المدارس والمساجد تقيم فيها آلاف العائلات المتضررة جراء الزلزال، فهم غير قادرين على جلب محتويات منازلهم أو حتى البحث عنها بين الأنقاض، بعدما عملت جرّافات المحافظة على إزالتها، مشيرًا إلى أن مراكز الإيواء لا يوجد فيها تدفئة ولا حتى طعام، إذ تقضي آلاف العائلات ساعات طويلة دون أكل وشرب، حتى يتبرّع أحد التجار بتقديم المساعدة لهم.
وأعلن مجلس محافظة حلب عن افتتاح أكثر من 200 مركز إيواء، ضمن المدارس والمساجد والمرافق العامة داخل المدينة، والتي تأوي آلاف السوريين، من بينها مدرسة زكي الأرسوزي، مدرسة غزة، مدرسة بانقوسا، جامع سعد الإدلبي بحي الهلك، دير الأرض المقدسة لطائفة اللاتين بحي الفرقان، مدرسة النضال العربي في حي سليمان الحلبي، مدرسة الرجاء بحي سيف الدولة، ملعب الحمدانية ومدرسة أبي ذر الغفاري بحي الصاخور.
ومدارس كمال زينو، وعبد القادر الجزائري، وعمار ديب، والتحرير في حي بستان القصر، ومدرسة عدنان المدني في حي الحمدانية، ومدرسة محمد الدرة في حي صلاح الدين، وجامع بدر، وكنيسة النبي الياس في حي الفيلات، ومدرسة ذي قار في حي بستان الزهرة، ومدرسة عبد الرحمن جغل في حي المشارقة، وجامع الفتح في حي المحافظة، وثانوية الحكمة في حي المشارقة، وصالة العبابيد، ومدرسة الأندلس، ومدرسة أدهم مصطفى ومدرسة الأصمعي.
ورغم ذلك، تفترش عشرات العائلات الحدائق العامة والطرقات، إذ أظهرت صور نشرتها شبكات محلية وجود عائلات نائمة تحت جسر الصاخور، وذلك بعدما فقدوا الأمل بالعودة إلى منازلهم بعد تقييم الضرر الحاصل في المباني السكنية التي كانوا يقطنونها، وهبوطها كليًّا جراء الزلزال، حيث تقطّعت بهم السبل ولم يجدوا مكانًا للإقامة فيه.
وتعاني العائلات المقيمة في مراكز الإيواء من ظروف إنسانية صعبة رغم وصول المساعدات الدولية، لكن نهب النظام وميليشياته وتوجيهها إلى المحسوبين عليه من الجهات العاملة في المجال الإغاثي، وعلى رأسها الهلال الأحمر السوري، حال دون حصول المتضررين على الاحتياجات اللازمة.
ويرى محمد فارس، من مدينة حلب، وهو معتقل سابق لدى النظام السوري، أن الأخير يستثمر تداعيات الزلزال في محافظة حلب لصالحه، منها وقف العقوبات الأمريكية والأوروبية، والحصول على مساعدات دولية وأممية، تحصّلت المؤسسات العسكرية والأمنية على جزء كبير منها، فيما يصل الفُتات للمتضررين المقيمين بمراكز الإيواء التي يُنسب إليها تقديم المساعدات.
وقال فارس خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يغطي تدمير الأبنية المتضررة جرّاء الزلزال على الدمار الذي سبّبه القصف الجوي على منازل المدنيين خلال السنوات الماضية، ما سيمنح النظام إمكانية الحصول على الدعم الدولي في إعادة الإعمار للأحياء السكنية المدمرة، فيما يبقى آلاف السوريين دون مأوى وتحت رحمة ميليشياته”.
ويحاول النظام الجلوس على أنقاض السوريين مستخدمًا الآلاف من الضحايا الذين قضوا جراء الزلزال، ليبقى متربّعًا على عرشه الذي بناه بالدم والدمار، تمامًا كما فعل قبل سنوات خلال حربه وتدميره للشعب السوري، في حلب وريف دمشق وحمص ودرعا وغيرها من المحافظات السورية.