لم تكن الصدمة الكبيرة بالنسبة إلى إبراهيم عندما استيقظ على اهتزاز منزله في الطابق الرابع جراء الزلزال، بل عند رؤيته الأحياء المدمرة وما خلّفه الزلزال من مسح لقرى وأحياء مدنية كاملة سقطت على قاطنيها.
“لقد كان المشهد مرعبًا بداية عند اهتزاز البيت لمدة طويلة، حُبست فيه الأنفاس وتجمدت فيه الدماء، ثم بدأت الجدران تسقط واحدًا تلو الآخر، شعرت أن المسافة وأنا أحمل طفلَي الاثنين من باب شقتي إلى أسفل البناء كأنها سنة، كان الغبار والذعر يحيط بنا من كل جانب، لا أصدق أني ما زلت على قيد الحياة”.
هكذا يصف إبراهيم أبو جاد (30 عامًا) لحظات وقوع الزلزال الذي ضرب ولاية عنتاب التركية إلى جانب ولايات أخرى، والتي أدّت إلى سقوط قرابة 32 ألف ضحية، وإصابة أكثر من 80 ألفًا، وإجلاء قرابة 148 ألف مواطن في إحصائية غير نهائية لإدارة الكوارث والطوارئ التركية.
يعيش أبو جاد، المهجّر من ريف دمشق جنوب سوريا، في قضاء الإصلاحية بعنتاب منذ 5 سنوات، إلا أنه وبعد كارثة الزلزال لجأ برفقة أسرته إلى أحد المساجد القريبة، بعد أن بقيَ في الحديقة لأكثر من 6 ساعات تحت الثلج والصقيع، يحدّثنا أبو جاد أن بيته لم يعد صالحًا للسكن، كون البناء ككُلّ أصبح آيلًا إلى السقوط، فيما تعلو الحيرة وجهه، إذ لا يدري أين ستكون وجهته القادمة.
يضيف: “لا أستطيع الرجوع إلى سوريا ولا مغادرة عنتاب باتجاه ولاية أخرى لأن عملي هنا، كما أنه ليس لدي أقرباء خارج الولاية، وليس لدي قدرة على استئجار بيت جديد وشراء أثاث جديد والبدء بحياة جديدة”.
ويفكر أبو جاد بالانتقال إلى مخيم الإصلاحية في الولاية، لأن الوضع سيكون هناك أفضل، “فهنا لا يقدَّم لنا إلا غذائيات خاصة بالأطفال، كما أن التدفئة معدومة والمكان مكشوف ومزدحم، وكثيرة هي الليالي التي لم أجد لي مكانًا للنوم”، يختم حديثه.
فرق سورية تمدّ يد العون
تعرّض قضاء الإصلاحية غرب مدينة عنتاب، والذي يقطنه 60 ألف نسمة، لدمار كبير بنسبة 50% من أبنيته، حسب تغريدة نشرتها رئاسة بلدية عنتاب، الأمر الذي دفع نسبة كبيرة جدًّا من قاطنيه إلى مغادرته.
بالمقابل سارعت إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” (AFAD) إلى إنشاء عدة مخيمات، كان أبرزها مخيم في ملعب أتاتورك بالقرب من المركز الشبابي، ضمَّ 2000 فرد و300 خيمة على أن يستوعب فيما بعد 6 آلاف شخص و1000 خيمة.
وقد شارك في خدمة هذا المخيم وبالتنسيق مع “آفاد” 50 طالبًا متطوعًا يمثلون اتحاد طلبة سوريا في تركيا، يعملون في الترجمة وعمليات الإحصاء والإطعام والتوزيع والطبابة وتقديم مساعدات التدفئة والإغاثة العاجلة.
صهيب درباس، متطوّع من اتحاد طلبة سوريا، يوضّح لـ”نون بوست” أن الاتحاد نسّق بداية مع “آفاد” وإدارة الهجرة في إسطنبول، التي وافقت مباشرة على قدوم الفريق الطلابي إلى المناطق المنكوبة في الجنوب، وإغاثة أهلها برفقة فرق إنقاذ وقافلة متكاملة من أطباء ومسعفين وممرضين وطبّاخين ومترجمين.
لافتًا: “ننسّق أيضًا مع الهلال الأحمر التركي وجمعية اقرأ الإغاثية، بعد أن حاول فريقنا أيضًا الدخول إلى الشمال السوري وإغاثة أهلنا هناك، لكن كان ذلك صعبًا نوعًا ما، فتمَّ تكثيف اهتمامنا بالسوريين الموجودين في تركيا ومداراتهم والوقوف معهم ومساعدتهم بكل طاقاتنا”.
وأضاف درباس: “انطلقنا إلى عدة أماكن ككهرمان مرعش وهاتاي ونورداغ والإصلاحية في عنتاب، حيث وجدنا أن ضعف الإغاثة يكمن في الإصلاحية بسبب الدمار الكبير فيها، وتوجّه كثير من سكانها وسكان منطقة نورداغ إلى المخيمات”.
وبدأ نشاط الفريق في مخيمَين، الأول في الإصلاحية وقد اكتمل من حيث العدد، والثاني قريب منه يتسع لأعداد كالأول، كما تمَّ إنشاء نقطة طبية ونقطة إطعام وإغاثة من ملابس وأدوات صحية ووسائل تدفئة وطبابة، لتخديم 12 ألف فرد ما بين المخيمَين، إضافة إلى تأسيس دائرة إحصاء لمساعدة السوريين من ناحية الترجمة وجمع البيانات لتسهيل أمورهم.
“نقوم بتبديل الفرق كل 10 أيام، وندخل لسدّ الثغرات ونتكفّل بقدوم الناس المنكوبين إلى المخيمات أينما كانوا، ونقدّم لهم مباشرة الخيام ونتكفّل بكل احتياجاتهم، ومستمرون لنهاية الأزمة، حاليًّا سنتوجه إلى أنطاكيا للوقوف على احتياجات أهلنا هناك”، يختم درباس حديثه.
حطام وركام وواقع مأساوي
أدّى الزلزال الذي سجّل 7.7 على مقياس ريختر في الهزة الأولى و7.6 في الهزة الثانية، إلى تدمير أجزاء واسعة من الولايات الجنوبية والجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية، متأثرًا بذلك نحو 20 مليون نسمة حسب الرئاسة التركية.
في حين أن القطاع الصناعي تأثر بشكل واسع، خاصة في عنتاب كونها عصب الصناعة إلى جانب إسطنبول، حيث تضررت أكثر من 1500 منشأة متوسطة وصغيرة ذات الطاقة الإنتاجية العالية وأصبحت خارج الخدمة.
هذا فضلًا عن تضرر واسع في قطاع شركات التأمين، وتضرر البنية التحتية، سواء الطرق السريعة أو الجسور أو شبكات نقل الغاز الطبيعي والكهرباء والماء، وتضرر شركات السياحة ومجموعات الفنادق، وحركة الملاحة الجوية والشحن الجوي.
بالمقابل خرجت 6 عربات قطار عن المسار المخصّص لها وانقلبت، بعد أن دمّرتها صخور فُصلت عن الجبال وسقطت على السكك الحديدية، كما أدّى الزلزال إلى تدمير أجزاء واسعة من منطقة نورداغي، الأمر الذي سينتج عنه هدم المنطقة بالكامل وإعادة بنائها حسب وسائل إعلام تركية، في حين أنه تمَّ تسجيل وفاة 3 آلاف و273 في عنتاب، وإنقاذ أكثر من 13 ألفًا، حسب وزير البيئة والتخطيط العمراني، مراد كوروم.
كحالة عشرات الآلاف من الأتراك، أدّت كارثة الزلزال إلى فقدان كثير من السوريين منازلهم وأرزاقهم وأماكن عملهم، وعرّضتهم لخسائر مادية جسيمة مُضافة إلى ما يعانونه أصلًا من سوء في الأحوال المعيشية.
لا يجد الحاج نهاد حسام أبو سيف (55 عامًا) تعابير تعبّر عن محنته، إذ خسر منزله في الإصلاحية، إضافة إلى مبلغ كان يدّخره لأيامه السوداء.
حيث يصف حسام لـ”نون بوست” كيف سقط منزله أمام عينَيه بالقول: “خرجنا من المنزل على آخر نفس وابتعدنا عنه، ثم بدأنا نشاهد هبوطه وكأنك في منام، لقد بقيت صامتًا لربع ساعة من هول المنظر”، مضيفًا: “طالما أنك سوري فالمصائب ستبقى تلاحقك حتى آخر يوم في حياتك، أنا مقيم هنا منذ 6 سنوات، ومنذ سنتَين فقط بدأت أحوالي تستقرّ، إلا أنه مع هذه الكارثة عدتُ إلى الصفر”.
ويتساءل حسام الذي وجد نفسه بالشارع في ليلة وضحاها: “أين نذهب؟ هل نعود إلى مخيمات الشمال أم إلى المخيمات التي تبنيها “آفاد”؟ وكم سنبقى؟ بالنسبة إلى الأتراك فقد وعدهم رئيسهم أردوغان بإعادة تشييد بيوتهم، أما نحن فلا بواكي لنا”.
ويختم حسام، وهو أب لخمسة أطفال، حديثه: “رغم كل ما حصل أحمدُ الله أني خرجت سالمًا بعائلتي، فمن يرى مصيبة غيره، وكيف اختفت عائلات بكاملها، وكيف يبكي الأهالي على أقاربهم العالقين تحت الأنقاض بحسرة، تهون عليه مصيبته، فليذهب كل شيء. المهم أن أسرتي بجانبي، والمال يعوَّض بإذن الله”.
الخسارة الكبيرة
تأثّرت نسبة كبيرة من المنشآت الصناعية والمعامل والمهن والمحال التجارية في عنتاب، والتي كان يعتمد عليها السوريون في معيشتهم، ما يعني أن اليد العاملة السورية باتت عاطلة عن العمل، وهذا سيؤدي إلى رحيل هذه اليد العاملة إلى ولايات أخرى، وبالتالي الاصطدام بعوائق إدارية قد تتعلق بقرارات رئاسة الهجرة، كموضوع تثبيت السكن والحصول على إذن عمل والإقامة، والاستفادة من الخدمات الصحية والطبية والتعليمية لباقي أفراد الأسرة في الولايات الجديدة.
طه الغازي، وهو ناشط حقوقي مهتم بقضايا اللاجئين في تركيا، رأى أن المرحلة القادمة وخاصة الأشهر الستة الأولى ما بعد الزلزال، سيكون فيها نسبة واسعة من البطالة في اليد العاملة السورية، ما سيدفع السوريين اللاجئين نحو قرارَين: إما مغادرة تركيا نحو الاتحاد الأوروبي، وهذا ما سيخلّف موجة هجرة جديدة، وإما التفكير بالعودة إلى الداخل السوري سواء إلى الشمال أو مناطق النظام.
واصفًا في حديثه لـ”نون بوست” مستقبل السوريين بالمأساوي والمظلم بعد أن فقدوا كل ممتلكاتهم، لا سيما أن الحكومة التركية تخلت عنهم بشكل شبه مباشر، كما شاهدنا في مرسين وقونيا وموغلا عندما تمَّ إبلاغ اللاجئين من قبل بعض المراكز الإغاثية بأن أولوية الإغاثة ستكون للأتراك فقط، كذلك في بعض المناطق كان هناك بعض المواقف العنصرية في ظل غياب تامّ لمؤسسات المعارضة والمنظمات السورية.
وانتقد الغازي عمل المنظمات السورية التي انشغلت بقضية التبرعات العينية والنقدية، علمًا أن المرحلة الآن تتطلب تفرُّغ قسم من كوادر هذه المنظمات للوجود مع السوريين المنكوبين في مدنهم وأماكن نزوحهم، وإجلائهم من المناطق المنكوبة إلى ولايات ومناطق أخرى آمنة.
لافتًا إلى غياب موضوع توثيق وتقييد بيانات الوفيات، وأماكن الدفن، ولمّ شمل الأسرة التي نُقل بعض أفرادها الجرحى إلى مشافٍ متباينة بعد الزلزال، معلّلًا السبب بأنه سنأتي على مرحلة لاحقة قد تمَّ فيها دفن عدد من السوريين دون معرفة هويتهم وبأسماء مجهولة أو أرقام، وهذا سيترك فراغًا كبيرًا لدى الأسرة السورية التي ستعيش على أمل نجاة هذا الفرد، فضلًا عن الفوضى في عمليات الإغاثة والتوزيع، إذ توجد بعض المناطق المنكوبة أُشبعت بالإغاثة فيما مناطق أخرى لم يصلها شيء.
إلى الداخل
يؤكد الغازي أنه من خلال معاينته لوضع المنكوبين السوريين في تركيا، قد لمس توجُّه بعض المنظمات السورية في الأسبوع الأول من الكارثة نحو الداخل السوري، وهذا الأمر مهم وسط غياب المعدّات والآليات، لكن المصيبة أن تتعمّد هذه المنظمات والجهات الإغاثية الدخول بقصد التهرُّب من المسؤولية والدفاع عن حقوق اللاجئين أمام رئاسة الهجرة التركية ووزارة الداخلية التركية، وخشيه الصدام معها.
فيما توقّع الغازي أن المرحلة القادمة ستكون صعبة جدًّا بالنسبة إلى اللاجئ السوري الذي أعادته عقارب الساعة إلى نقطة الصفر، فكثير من السوريين باتوا بهذا المسار نحو تجربة هجرة ثالثة أو رابعة، وكأن اللاجئ مكتوب عليه البقاء في حالة عدم استقرار، داعيًا كل الأطراف السورية للعمل بشكل أكثر فاعلية على تأمين ما يمكن تأمينه من الاستقرار لهذا اللاجئ، الذي تُرك لوحده في الداخل التركي.
ويبدو أنه -مع هذه الكارثة التي اجتاحت مناطق واسعة في الجنوب التركي- بات مصير ومستقبل اللاجئين السوريين في نفق مظلم وغامض، وسط غياب المعارضة السورية التام عن احتياجاتهم، وانشغال الحكومة التركية بلملمة جراحها، وحشدها للكثير من مقدراتها، واستدعائها للدعم العالمي والأممي منذ الساعات الأولى للزلزال للخروج من هذه المحنة.