لم تمضِ ساعات قليلة على زلزال سوريا وتركيا المدمّر الذي خلّف آلاف الضحايا والجرحى، حتى سارعت بعض الدول العربية إلى استغلال المحنة لمد جسور التواصل مع نظام الأسد، متناسية آلاف المكلومين والعالقين تحت الركام والدمار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام شمال غربي سوريا، والمكتظة بالنازحين والمهجّرين السوريين، والتي تعاني أصلًا من أزمة اقتصادية وإنسانية كارثية، وسط ظروف مناخية قاسية وانعدام للاحتياجات الأساسية، فضلًا عن الطبية والإغاثية.
يتزامن ذلك مع ارتفاع مطّرد لأعداد الضحايا التي تجاوزت حتى يوم أمس، 2274 حالة وفاة وأكثر من 12 ألفًا و400 مصاب، بحسب التحديثات الدورية الصادرة عن منظمة الدفاع المدني، فضلًا عن تدمير آلاف المباني كليًا أو جزئيًا.
وتلقّى رأس النظام بشار الأسد سيلًا من الاتصالات الهاتفية من رؤساء مصر والجزائر والأردن وسلطنة عمان والإمارات والبحرين، الذين أعربوا عن تضامنهم وتعازيهم بضحايا الزلزال، حيث أجرى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، اتصالًا هاتفيًّا يعدّ الأول من نوعه بعد وصوله إلى الحكم عام 2014 مع الأسد، تبعه اتصالٌ من الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، والملك الأردني، عبد الله الثاني، وسلطان عمان، هيثم بن طارق، في تحرك هو الأول من نوعه على هذا المستوى بعد عام 2011.
كما زار بشار في دمشق، وزير الخارجية الإمارتي عبد الله بن زايد آل نهيان، الأحد، ووفدًا أمميًا برئاسة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسّق الإغاثة في حالات الطوارئ مارتن غريفيث، الإثنين، ووزير الخارجية والمغتربين الأردني أيمن الصفدي، اليوم الأربعاء.
واستلم نظام الأسد مساعدات إنسانية (إغاثية وطبية) من عدة دول، كمصر والأردن وتونس وأرمينيا وباكستان والهند وروسيا وإيران والجزائر وفنزويلا وسلطنة عمان وصربيا والعراق والإمارات وليبيا والبحرين ولبنان، عبر 42 طائرة هبطت في مطارَي حلب ودمشق الدوليَّين، فضلًا عن إرسال بعض فرق الإنقاذ للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ من مصر وتونس والجزائر والأردن وتونس ولبنان.
هذه التطورات المتسارعة فتحت باب الحديث مجددًا عن احتمالية انتهاز نظام الأسد كارثة الزلزال لكسر العزلة الدولية المفروضة عليه، عبر المطالبة برفع العقوبات والتحكم الكامل بدخول المساعدات الإنسانية إلى سوريا.
انتهازية نظام الأسد والاستثمار في الأزمة الإنسانية
لطالما استثمر نظام الأسد في مآسي السوريين ونكباتهم لتمرير مشاريعه ومصالحه، والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، وتجديد مساعيه للسيطرة على المساعدات الإنسانية الدولية والأممية، والتحكم بطرق إيصالها إلى المناطق المتضررة، ضمن محاولاته الحثيثة لإيجاد متنفّس اقتصادي في ظل الأزمة الاقتصادية الكارثية التي يمرُّ بها، ومتنفّس سياسي عبر الدفع لاستعادة شرعيته على المستوى الدولي والإقليمي.
ويحاول النظام تجيير ذلك كله لخدمة آلته العسكرية، عبر استثمار عضويته كممثل “شرعي” وحيد لسوريا في الوكالات والمؤسسات الدولية لا سيما الأمم المتحدة، في ظل دعم حلفائه في مجلس الأمن، روسيا والصين، وتقاعس المجتمع الدولي وتحديدًا الغرب، وهو ما يعني فعليًّا تعزيز قبضته على السلطة وعودته تدريجيًّا إلى الحظيرة الدولية.
وحرص نظام الأسد منذ الساعات الأولى للزلزال على اغتنام فرصة الكارثة الإنسانية، واستثمارها لتحقيق بعض المكاسب السياسية والاقتصادية، عبر إطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق من خلال إعلامه الرسمي، ومن حسابات التواصل الاجتماعي لفنانين وإعلاميين وأعضاء في مجلس الشعب ومؤيديه.
تسعى هذه الحملة إلى الترويج لروايته التي تحمّل مسؤولية تردّي الأوضاع الإنسانية داخل سوريا للعقوبات الاقتصادية، وتطالب برفع العقوبات الدولية بحجّة عرقلتها جهود الاستجابة الإنسانية للمتضررين من الزلزال، وتحرمهم من المساعدات الإنسانية.
وتتزامن هذه التحركات الإعلامية مع تحركات سياسية ودعوات من مسؤولي النظام للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة برفع العقوبات، بذريعة أنها تعوق وصول السوريين إلى الإمدادات والخدمات الطبية، حيث طالب وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، برفع العقوبات وإرسال مساعدات فورية للمتضررين.
كما رحّبت مستشارة بشار الأسد بأي مبادرة تقدّمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية للمساعدة في مواجهة الآثار الكارثية للزلزال، “شريطة أن يتم ذلك دون تسييس”، واتهمت الدول الغربية بتقديم المساعدة “للإرهابيين في المناطق الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية”، متهمة هذه الدول بأنها “تهتم بالدرجة الأولى بحماية “داعش” وجبهة النصرة والخوذ البيضاء”، واشترطت “حصر وصول المساعدات عبر التنسيق والتعاون مع النظام”.
كذلك أعرب رئيس منظمة الهلال الأحمر السوري، في مؤتمر صحفي، عن استعداد المنظمة لإرسال قوافل مساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب عبر الأمم المتحدة، مطالبًا المجتمع الأوروبي برفع الحصار والعقوبات الاقتصادية المفروضة.
كما سارع النظام بإرسال طلبات رسمية للاتحاد الأوروبي لإرسال مساعدات إنسانية ورفع العقوبات الاقتصادية، وتفعيل آلية الحماية المدنية التابعة للاتحاد الأوروبي، بهدف مواجهة الأضرار التي خلّفها الزلزال.
ما هي مكاسب النظام السياسية والاقتصادية المحتملة؟
يوظف نظام الأسد جيدًا ورقة المساعدات الإنسانية وكارثة الزلزال لابتزاز القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة والغرب، بعد أن شهدت هذه الكارثة زخمًا واهتمامًا دوليَّين واسعَين، لتوسيع هامش مناورته وانتزاع بعض المكاسب لصالحه.
ويتم هذا عبر محاولة انتزاع موافقة لتخفيف حدّة الحصار الاقتصادي، والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة بموجب “قانون قيصر”، والقانون المتعلق بمعاقبة النظام ومكافحة إنتاج المخدرات والإتجار بها، وتفكيك الشبكات المرتبطة به، والذي أقرّه الكونغرس الأمريكي بمجلسَيه الشيوخ والنواب، فضلًا عن العقوبات الدولية والأممية الأخرى؛ أو عبر الدفع نحو استعادة شرعيته وإعادة تعويمه دوليًّا.
ومثلت هذه الأزمة فرصة جيدة أيضًا للدول التي تحاول شرعنة النظام، وإعادة تطبيع العلاقات تدريجيًّا معه، وتأمين انخراطه مجددًا مع المجتمع الدولي وإعادته إلى “الحضن العربي”، كالإمارات ولبنان والعراق والجزائر، حيث استغلت هذه القوى الوضع الكارثي لإرسال المساعدات نحو مناطق النظام حصرًا، دون تقديم أية مساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرته شمالي سوريا، والالتفاف حول النظام وإبداء نوع من التعاطف معه.
دفع هذا الأمر ممثل الاتحاد الأوروبي إلى سوريا للردّ على النظام، بأن الاتحاد يقدم فعليًّا المساعدات والدعم لآلاف المتضررين في سوريا وفقًا للاحتياجات، مشيرًا إلى إرسال برنامج الأغذية العالمي حصصًا غذائية طارئة إلى حماة، ومؤكدًا أن العقوبات المفروضة على سوريا لا تعيق إيصال المساعدات الإنسانية، لا سيما المواد الغذائية والأدوية والمعدّات الطبية والإسعافات الأولية.
كما أشارت وزارة الخارجية الفرنسية إلى أن النهج السياسي لفرنسا تجاه النظام لن يتغير بعد الزلزال، وأن المساعدات المقدَّمة لسوريا تنحصر فقط عبر المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة.
وترافق الرفض الأوروبي مع ردّ وزارة الخارجية الأمريكية على اتهامات النظام، بالتأكيد على أن العقوبات الدولية تتضمن استثناءات لا تمنع وصول المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية وغيرها للشعب السوري، معلنة رفضها “انتهازية النظام” ومؤكدة عدم تواصلها مع النظام، وأنها ستقدم المساعدات للسوريين داخل سوريا عبر المنظمات غير الحكومية، واستبعادها تقديم تلك المساعدات عبر حكومة النظام.
وأصدرت وزارة الخزانة الأمريكية قرارًا بخصوص إعفاء النظام من العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لمدة 6 أشهر لجميع المعاملات المتعلقة بالاستجابة للزلزال، التي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات على النظام، حيث سيُسمح بتحويل الأموال المخصصة للإغاثة عبر النظام البنكي التابع للنظام.
تبقى إشكالية تسييس الملف الإنساني وبقائه عرضة للمساومات السياسية التي يعدّ نظام الأسد طرفًا فاعلًا فيها، تهديدًا للوضع الإنساني الكارثي في مناطق شمالي غرب سوريا.
وعليه، لا يبدو أننا سنشهد انفراجًا اقتصاديًّا مهمًّا للنظام عقب الكارثة الزلزالية التي ضربت سوريا، فممّا لا شكّ فيه أن النظام سيستغل بطبيعة الحال تدفُّق الأموال والمساعدات إلى المناطق الواقعة تحت سيطرته لسرقتها، وتدعيم خزينته المالية، وتعزيز سلطته، في ظل غياب المرجعية الأخلاقية التي قد تدفعه لإيصال المساعدات إلى مستحقيها، أو استعمالها على وجهها الصحيح.
وهذا ما أكدته عشرات المصادر والتوثيقات والتسريبات التي تحدثت عن تحكم النظام بالمساعدات والتلاعب بحجمها وطريقة توزيعها، وسرقتها علانية من قبل الأجهزة الأمنية، فضلًا عن أن معظمها يذهب إلى “الأمانة السورية للتنمية” التي تشرف عليها أسماء الأسد شخصيًّا، وذلك على غرار ما حصل قبل سنوات مع المناطق التي كانت تحت حصار قواته كالغوطة وحمص، حيث استولى عشرات المرات على الحصص الغذائية المتوجهة للنازحين والمنكوبين.
وفي السياق ذاته، لا يبدو أننا مقبلون أيضًا على انفراج سياسي قريب للنظام، كما لا يبدو أن مسار التطبيع الدولي والعربي مع النظام يأخذ منحنى تصاعديًّا كنتيجة عملية لكارثة الزلزال، لا سيما مع استمرار معارضة القوى الدولية والعربية المعارضة أصلًا لهذه المساعي، كقطر والسعودية اللتين أرسلتا قوافل مساعداتهما إلى الشمال السوري، إضافة إلى الولايات المتحدة والأوروبيين المعارضين أي خطوة من شأنها إعطاء النظام شرعية سياسية، أو رفع العقوبات الاقتصادية عنه.
ختامًا، تبقى إشكالية تسييس الملف الإنساني وبقائه عرضة للمساومات السياسية التي يعدّ نظام الأسد طرفًا فاعلًا فيها، تهديدًا للوضع الإنساني الكارثي في مناطق شمالي غرب سوريا، وهو ما سيترتّب عنه تداعيات سلبية خطيرة، متمثلة في إبقاء المنطقة رهينة لمزاجية النظام وعنجهيته، ما يعني زيادة في معاناة السوريين المهجّرين والنازحين القاطنين في تلك المناطق.