لن تصدق حجم المأساة إلا إذا ذهبت إلى المناطق المنكوبة.
منذ لحظة الزلزال اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بالصور والفيديوهات التي تعكس حجم ما خلّفته الكارثة، لكن من سمع وشاهد عن بُعد ليس كمن رأى الواقع على الأرض، مقولة نرددها دائمًا؛ لكن هذه المرة بإمكان من ذهب إلى الجنوب التركي أو الشمال السوري أن يدركها حق إدراك.
تعادل قوة الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي وأجزاء من سوريا، فجر يوم 6 فبراير/ شباط 2023، قوة 500 قنبلة ذرية، حسب أورهان تتار، مدير عام قسم الزلازل والحدّ من المخاطر في رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد).
دقيقة و5 ثوانٍ كانت كافية لتغيير الخارطة وتبديل ملامح هاتاي التركية، خاصة في مدينة أنطاكيا الأكثر تضررًا، والتي انهارت أكثر من نصف مبانيها وتدمّرت بنيتها التحتية.
مشاهدات في أنطاكيا
شوارع وجسور متشقّقة وغالبية الأبنية مسوّاة في الأرض، والأبنية الباقية متصدعة وجرى إخلاؤها تمامًا، فالهزات الارتدادية كانت كفيلة بانهيار الكثير من المباني لاحقًا، حيث شهدنا على انهيارها في اليوم الثالث بعد الزلزال.
هنا في أنطاكيا تستطيع أن تشتمَّ رائحة الموت المفجع الذي يفوح من الجثث المدفونة تحت الأنقاض، ويملأ المدينة بالكامل، بحيث تبدأ الرائحة من مداخل المدينة، ولن تدرك أنها رائحة الموت حتى تصل وتقف أمام الأنقاض عاجزًا أمام حجم المصيبة.
صراخ من تحت الركام، وأناس تركض وتقول: “سمعت صوتًا هنا، تعالوا بسرعة علّنا نخرجهم أحياء”. فرق إنقاذ تتسابق مع الزمن، ولا تترك ركامًا قبل أن تفقد الأمل بوجود أحياء تعود بهم إلى الحياة من جديد.
أهالٍ مكتوفو الأيدي، يقفون على الركام منتظرين إنقاذ ذويهم بوجوه شاحبة مثقلة، تبدو دون ملامح من هول الصدمة والبكاء، وجثث على الأرصفة لعائلات كاملة ملفوفة ببطانيات تنتظر نقلها.
أطفال ناجون لكنهم مذعورون، لا يعرفون ماذا حصل، وأطفال من هول الصدمة لا يستطيعون التحدث أو التواصل مع أحد.
أمهات ثكالى وآباء مفجوعون، وأشخاص فقدوا صوابهم وضربوا من حولهم عندما لمحوا جزءًا من أطراف عائلاتهم معلقًا بالتريكس الذي يحفر في الأنقاض، وأصوات سيارات الإسعاف والشرطة.. مشهد من يوم القيامة لا بل أكثر.
في حي مزارليك المدمَّر بالكامل في أنطاكيا، شاهدتُ فتيات يجلسن على قطع بلاستيكية أمام شادر أزرق لا يقي من برد ولا مطر، يطلقن عليه خيمة، استأذنت أهلهن وذهبت للتحدث معهن.
أخبرتني فاطمة (10 سنوات) عن قصة نجاتها مع عائلتها من الزلزال: “كنا نائمين، وكان هناك برق ورعد، وكنت أصحى على أصواتهما، لكن فجأة بدأ البيت بالاهتزاز، ظننت أنه من الرعد، لكن بعدها أمي وأبي ركضا وأخذانا أنا وأخواتي وخرجنا من البيت، كان كل شيء يقع على الأرض، ونحن نركض على الدرج وقعت قطعة من السقف علينا، لكن بسبب الخوف استمرينا ونزلنا إلى الشارع”، وتتابع: “لم أكن خائفة من الزلزال بل من الموت”.
عند الركام كان يتوزّع عدد كبير من فرق الأمن والعسكر، دعاني عددهم إلى سؤال أحد ناجي الحي عن سبب كثرتهم، فأخبرني أن “هناك عصابات تقوم بالسرقة من الأنقاض وتستغلّ الكارثة لتتابع حياتها بالإجرام، رغم أنهم بالكاد حصلوا عليها بعد النجاة”، وتابع حديثه: “البارحة أحدهم قام بقطع يد امرأة ليسرق سوارها”.
وعن قصص نجاة إحدى العائلات، أخبرني شخص عن جيرانه الذين نجوا بفضل قطتهم التي أصابتها حالة ذعر هستيرية قبل 5 دقائق من الزلزال، وأسعفتهم البديهة فتنبّؤوا بحدوث مصيبة وخرجوا معها من منزلهم مباشرة إلى الشارع.
في الشارع مرَّ طفل يحمل دمية كبيرة (دبًّا زهري اللون)، صوّرته على عجل، كان وجهه يحمل همومًا بحجم الزلزال، تفاصيل خطوط وجهه أشبه بكهل مرَّ عليه دهر من الشقاء، لا أعلم قصته لكن عينَيه الحزينتَين جعلتاني أتخيّل أنه يعانق دمية ربما تكون آخر من تبقى له.
أما عن الحيوانات، فكانت الكلاب والقطط في أنطاكيا بحالة يرثى لها، ففي ملامح وجهها يمكنك أن تشاهد كمية الذعر والقهر معًا.
أحد الكلاب كان يسير على طرف الرصيف، يتتبّع السيارات التي تعبر الطريق ببطء من الازدحام، ويفتّش كل سيارة تمرُّ، ويتابع سيره خائبًا حزينًا وكأنه يبحث عن صاحبه الذي فقده ولم يجده.
قوافل المساعدات
من إسكندرون إلى أنطاكيا عادة نحتاج ساعة من الزمن للوصول، لكن مع ازدحام الطريق المكتظ بالشاحنات وصلنا بعد 5 ساعات.
قوافل محملة بالأغذية والماء والبطانيات والألبسة، يتم توزيعها على الناس التي تفترش الشوارع والمخيمات، لكنها كثيرة جدًّا وربما هناك فائض فيها الآن، لكن من خرج ناجيًا من الزلزال يحتاج منزلًا يأويه، وسيارات تقلّه إلى مدن آمنة، ونقودًا تساعده في التنقل بعد أن هرب وخسر كل ما لديه.
محمد حاج بكري، صحفي، ذهب إلى أنطاكيا في اليوم التالي للزلزال، بعد أن فقد التواصل مع عائلته بالكامل وتوفي عدد كبير منها تحت الأنقاض. كتب محمد على فيسبوك: “تبدو مدينة أنطاكيا مرهونة لحساب السماء منذورة للموت، ذبيحة وأضحية لأجل من بقي على قيد الحياة. مشاهد الموت تحت الركام لا تشبه في تفاصيلها سوى معاناة اليابانيين في هيروشيما.
رأيت أخي مضرجًا بدمائه تحت حطام المنزل، وابنته جثة هامدة في سريرها ملتحفة بغطائها، راقدة على مخدتها وفوقها أطنان من الإسمنت.
أخرجنا قبل قليل ابنة ابن عمي وعمتي الطفلة غنى حاج بكري. الأميرة الصغيرة، كانت كالعسل الصافي الذي امتزج بماء الزلال وصب في قدح من ذهب.
أريد أن أبكي الآن.. لكنني أحبس أدمعي في حضرة أبي الثمانيني الذي ما زال حتى اللحظة يشد من أزرنا أنا وأبناء عمي.
لكنني أحتاج للبكاء، للصراخ، فهناك ما هو أقسى من الموت، نعم؛ حين لا تستطيع أن تقبّل أختك أو أخاك، أو تودعهما لأن الجثث أصبحت مفسّخة، تموت أنت بكل روحك، لتغدو حجرًا يبكي، صدقوني، الحجارة بكت في أنطاكيا”.
للعودة من أنطاكيا إلى إسطنبول يحتاج المرء إلى شجاعة مضاعفة، كي يصطحب معه جسده ويدفن روحه تحت الأنقاض لتؤنس من هم هناك، يلفظون أنفاسهم دون أن يصل إليهم أحد وينقذهم.
لن يكفينا بكاء ولا اكتئاب بعد ما شاهدناه في المدن المنكوبة، ولا كلام يصف الشوارع ووجوه الناس المثقلة بالألم، ولا شرح لرائحة الموت التي تجتاح المدينة وتعشعش في الذاكرة، ولا معانٍ تصف حالة هستيرية لأمّ تضرب رأسها حين يُخرجون أطفالها دون نبض، وتصرخ صرخة تعلن فيها موت قلبها.
عند وصولي إلى إسطنبول التقيت بأقاربي الناجين من زلزال أنطاكيا، كان أولادهم متضررين نفسيًّا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
في السادسة مساءً، سألني ابنهم قصي (10 سنوات) لماذا لا يوجد عتم في سماء إسطنبول كما كانت أنطاكيا حين هربوا من الزلزال، أخبرته أن إسطنبول يتأخر فيها الليل ويبقى الضوء لفترة أطول، فأجابني: “بس أنطاكيا كلها عتمة بعمرها ما بيطلع فيها الضو”.
يعتقد قصي أن الزلزال أخذ الشمس معه في أنطاكيا، كما أخذ منه منزله ومدرسته ومدينته.
في الختام، يصعب على المرء الكتابة من أرض الكارثة دون أن يضع مشاعره عنوة، فالحالة النفسية لشخص ذهب وشاهد الدمار الهائل واشتمَّ رائحة الموت لن تسمح له أن يكتب دون مشاعر تعبّر عن هول ما رآه. عدنا إلى إسطنبول ومعنا حزن جلبناه معنا من تحت الأنقاض “يكفينيا للأبد”.