ترجمة وتحرير: نون بوست
مرت ست سنوات منذ أن أطلق صندوق النقد الدولي أول برنامج قرض له في مصر خلال رئاسة عبد الفتاح السيسي؛ ثم بدأ صندوق النقد الدولي، في غضون ذلك، برنامج قرض ثان، وهو الآن على وشك بدء برنامج ثالث، وهو ما يوضح أن هناك شيئًا خاطئًا في مصر، لكن المشكلة الأعمق قد تكمن في صندوق النقد الدولي؛ حيث تعتبر إخفاقات صندوق النقد الدولي في مصر بمثابة قصة تحذيرية، تسلط الضوء على أوجه القصور الصارخة في النهج الحالي للصندوق في التخطيط الاقتصادي.
لقد أمضى النظام المصري السنوات العديدة الماضية في استخدام إمكانية وصول البلاد الواسع إلى القروض لتمويل مجموعة واسعة من المشاريع العملاقة ومشاريع البنية التحتية التي تمت دراستها بشكل سيئ، والتي غالبًا ما تم التعاقد عليها بشكل مباشر مع الشركات المملوكة للنظام، ولا سيما الشركات المملوكة للجيش، الأمر الذي جعل الدولة المصرية مثقلة بمبلغ لا يمكن تحمله من الديون، لتستهلك خدمة الفائدة وحدها بانتظام حوالي نصف إيرادات الدولة. وفي الوقت نفسه؛ كانت الشركات المملوكة للنظام معفاة بشكل عام من ضرائب الشركات وضريبة القيمة المضافة والجمارك، مما أدى إلى حرمان الدولة من مصادر الإيرادات التي تشتد الحاجة إليها.
في الواقع؛ كانت عمليات الاختلاس صارخة ومضرًا بالصحة المالية للدولة لدرجة أن برنامج صندوق النقد الدولي الجديد يفرض قيودًا محددةً على الحكومة التي تبدأ مشاريع جديدة؛ حيث يبدأ البرنامج الجديد أخيرًا في التطرق إلى المصادر الاقتصادية والسياسية والحوكمة الواضحة للمشاكل الاقتصادية طويلة الأمد والمتنامية في مصر، بما في ذلك الإمبراطورية الاقتصادية المتوسعة للجيش المصري، ولكن المشكلة هي أنه في الوقت الذي استغرقه صندوق النقد الدولي لبدء الاستجابة الجادة لهذه القضايا الصارخة، زاد النظام الدين الخارجي لمصر بأكثر من 100 مليار دولار.
ولم يحدث هذا دون إرادة صندوق النقد الدولي، ولكن بسببه؛ حيث تم تسهيل قدرة مصر على اقتراض مثل هذه المبالغ الضخمة من خلال دعم الصندوق المستمر والثناء على الإصلاحات الاقتصادية، بدءًا من أول برنامج قروض سيئ التصميم، والذي أعلن صندوق النقد الدولي أن مصر “أتمته بنجاح” في تموز/ يوليو 2019، وبالرغم من مزاعم نجاح مصر، اضطرت البلاد العودة إلى صندوق النقد الدولي في سنة 2020 من أجل ضخ قرضين نقديين يصلان إلى ما يقرب من 8 مليارات دولار في شكل تمويل إضافي، وقد جاء ذلك بعد أن فر المستثمرون القلقون من الديون المصرية من البلاد بحوالي 14 مليار دولار في ستة أسابيع فقط في بداية جائحة كوفيد 19، ثم وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، على برنامج قرض آخر لمصر بـ 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي و14 مليار دولار أخرى في شكل تمويل إضافي من شركاء مصر الدوليين والإقليميين. وفي وقت سابق من عام 2022، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا؛ خرج المستثمرون فجأة من مصر بحوالي 20 مليار دولار؛ حيث حذر كل من بلومبيرغ وبنك أوف أمريكا، في العام الماضي، من أن مصر كانت من بين البلدان الخمس الأولى المعرضة لخطر التخلف عن السداد.
بالنسبة لمؤسسة مالية تركز في المقام الأول على تنفيذ برامج تهدف إلى إنتاج “استقرار الاقتصاد الكلي”، فإن هذا يمثل قدرًا كبيرًا من الهشاشة في قصة النجاح المفترضة لصندوق النقد الدولي.
يتحمل قادة مصر المسؤولية عن أفعالهم ضد مصالح البلاد وشعبها، لكن صندوق النقد الدولي ومساهميه مسؤولون أيضًا عن الدور الذي لعبوه في تمكينهم، الذي استفاد بعضهم من فورة الإنفاق التي أدت إلى تراكم هذه الديون المدمرة
وبالرغم من أن هناك من يجادل بشكل معقول بأن الوباء والغزو الروسي لأوكرانيا كانا لحظات فريدة تاريخيًا أنتجت صدمات استثنائية لم تكن خطأ الحكومة المصرية أو صندوق النقد الدولي، إلا أن المشكلة تكمن في أن معظم أهداف صندوق النقد الدولي الأخرى في برنامج 2016 كانت تظهر بالفعل علامات الفشل في 2019.
وتمثل الهدف الرئيسي للبرنامج في تحقيق “نمو يقوده القطاع الخاص” في مصر؛ وهو ما نفته استطلاعات مؤشر مديري المشتريات في بنك الإمارات دبي الوطني أن القطاع الخاص؛ حيث كشف عن أنه قد تقلص بالفعل، وكان ذلك في الشهر الذي سبق النجاح المعلن لصندوق النقد الدولي؛ لقد انكمش القطاع الخاص في مصر، في الواقع، لمدة 75 شهرًا من الأشهر الـ 84 الماضية – أو سبع سنوات – في حين أن برنامج 2016 كان يهدف إلى “خلق فرص عمل وزيادة المشاركة في سوق العمل، خاصة بين النساء والشباب”، إلا أن نسبة المشاركة الإجمالية في القوى العاملة قد انخفضت من 47 في المائة في سنة 2016 إلى 42 في المائة بحلول سنة 2019، كما انخفضت المشاركة في القوى العاملة خاصة بين النساء والشباب خلال ذلك الوقت أيضًا؛ حيث انخفضت من 23 في المائة إلى 16 في المائة ومن 30 في المائة إلى 22 في المائة على التوالي.
وقال صندوق النقد الدولي إن قرضه لسنة 2016 سيعزز “النمو الشامل”، إلا أن معدل الفقر كان يبلغ في 2016 27.8 في المائة، وارتفع إلى 29.7 في المائة في 2019-2020 وفقًا للإحصاءات الحكومية، في حين قدر البنك الدولي في سنة 2019 أن 60 في المائة من المصريين يعيشون بالقرب من خط الفقر أو تحته.
وفي اعتراف متأخر بالمشكلات الهيكلية التي تُركت دون معالجة، يبدو أن صندوق النقد الدولي قد نأى بنفسه عن الحد من الأداء الضعيف لمصر معطيًا الأولوية لمعالجة الصدمات الخارجية، مشيرًا في تقرير البرنامج الأخير إلى أن “الحرب الروسية على أوكرانيا فاقمت الضغوط القائمة”، مع الاعتراف بأن المشاكل المركزية التي تقوّض الاقتصاد المصري كانت موجودة في مصر من قبل وليست بسبب الصدمات الخارجية.
يأتي هذا بعد عدة سنوات من إشادة صندوق النقد الدولي ومساهميه بالأداء الاقتصادي لمصر، مما ساعد النظام على إثراء نفسه بشكل واضح مع تدمير الصحة المالية للدولة المصرية وإفقار السكان، الذين اضطروا إلى مواجهة نوبات متكررة من العنف والتقشف والتضخم المروع الذي تجاوز في بعض الأحيان 30 بالمئة والانهيار المتكرر لعملة البلاد.
يتحمل قادة مصر المسؤولية عن أفعالهم ضد مصالح البلاد وشعبها، لكن صندوق النقد الدولي ومساهميه مسؤولون أيضًا عن الدور الذي لعبوه في تمكينهم، الذي استفاد بعضهم من فورة الإنفاق التي أدت إلى تراكم هذه الديون المدمرة. لم يُنفق جنرالات مصر لإثراء أنفسهم فحسب، بل أنفقوا لكسب الأصدقاء في العواصم الرئيسية، فمن سنة 2012 إلى سنة 2021، اشترت مصر صفقات الأسلحة من فرنسا بما يقرب من 12.3 مليار يورو (حوالي 13.2 مليار دولار)، أي ما يعادل مشترياتها من الاتحاد الأوروبي بأكمله في نفس الفترة. وفي سنة 2021، وهي سنة قياسية بالنسبة لصادرات الأسلحة الألمانية، ذهب 46 بالمئة من صادرات الأسلحة الألمانية إلى مصر.
يحتاج صندوق النقد الدولي إلى “إصلاحات هيكلية داخلية عميقة”، ويجب أن يقوم بها بسرعة، وإلا فإن الأمر مسألة وقت فقط حتى يقود دولة أخرى إلى الإفلاس مشيرًا بأصابع الإتهام إلى زعماء البلاد، وكأنه لم يضطلع بما حدث
يجب أن تكون هناك مساءلة لصندوق النقد الدولي، لا سيما أن الصندوق لم يكن مجهزًا بشكل جيد في سنة 2016 لتصميم برنامج لمصر، ويعد هذا البرنامج الثالث استثنائيًا لأنه تجّرأ أخيرًا على محاولة كبح جماح الكسب غير المشروع للنظام، ولكن من اللافت للنظر أيضًا أن الأمر استغرق ثلاثة برامج وأكثر من ست سنوات حتى أدرك الصندوق أن ذلك كان ضروريًا.
يحتاج صندوق النقد الدولي إلى عدد أقل من الاقتصاديين وعدد أكبر بكثير من المتخصصين في شؤون الدولة والاقتصاديين السياسيين وعلماء الاجتماع والمؤرخين لبناء برامج المستقبل، إذ كان بإمكان أي اقتصادي سياسي يعمل في مصر تحديد العديد من هذه المخاطر، قبل وقت طويل من صرف الدفعة الأولى في سنة 2016.
في المقابل؛ تنتشر الأدبيات الاقتصادية والسياسية الاقتصادية في مصر على نطاق واسع؛ حيث يكتب الاقتصاديون السياسيون عن إمبراطورية الجيش الاقتصادية المُريبة والمحصّنة على نحو متزايد منذ عقود. وقد حدد كتاب نشره البنك الدولي في سنة 2004 أن النساء في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – ولكن بشكل خاص في مصر – يعتمدن على التوظيف في القطاع العام كمحرك لمعدلات مشاركتهن المتزايدة في القوى العاملة. كما هو متوقع، أدت الوصفة الروتينية لصندوق النقد الدولي لخفض فاتورة رواتب القطاع العام إلى انخفاض حاد في مشاركة المرأة في القوى العاملة، وكان ينبغي تفادي هذه المخاطر ومعالجتها في تصميم البرنامج، وبدلاً من ذلك؛ تُركت مشاركة الإناث في القوى العاملة في طور الانهيار الحاد ولم تظهر بعد أي علامة على التعافي.
تمثل التنمية تحديًا حتى في أفضل الحالات، ولكن تجاهل مجموعة المؤلفات الحالية التي كان من المفترض أن تسمح لمخططي صندوق النقد الدولي بتفادي فشل برامجهم أو إدراكها أمرٌ لا يمكن تقبلّه، في الوقت الذي يُلقى فيه المصريون في براثن الفقر وتُثقل دولتهم بالديون المستخدمة في تمويل مشاريع جنون العظمة مثل أطول برج في إفريقيا، وأطول خط سكة حديدية أحادية في العالم، وسلسلة من القصور الرئاسية الجديدة للرئيس الاستبدادي القمعي في البلاد. وعليه؛ يحتاج صندوق النقد الدولي إلى “إصلاحات هيكلية داخلية عميقة”، ويجب أن يقوم بها بسرعة، وإلا فإن الأمر مسألة وقت فقط حتى يقود دولة أخرى إلى الإفلاس مشيرًا بأصابع الإتهام إلى زعماء البلاد، وكأنه لم يضطلع بما حدث.
المصدر: فورين بوليسي