كانوا نيامًا في مأمن على أسرتهم، وفي أحضان والديهم ينهلون منهم الحب والسكينة والطمأنينة، حين فاجأهم الزلزال المدمر، الأرض تهتز من تحت أقدامهم النحيلة، وجدران البيت الذي طالما آواهم تتهاوى عليهم، ليجد الجميع نفسه تحت الركام، ما بين صريع ومصاب وناج.
صمت وصراخ، ذهول وارتعاش، أنين وبكاء.. مشاهد مبكية تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي لضحايا الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 فبراير/شباط الحاليّ، مخلفًا وراءه أزيد من 41 ألف قتيل في تركيا وسوريا، كثير منهم أطفال ويافعين.
ليست هناك تقديرات موثقة عن عدد الأطفال الضحايا حتى الساعة، غير أن منظمة “اليونيسيف” تشير إلى أن الآلاف لقوا حتفهم تحت الأنقاض، وفق المؤشرات الأولية، محذرة في الوقت ذاته من أن أكثر من 7 ملايين طفل (4.6 مليون طفل في الولايات العشرة التي ضربها الزلزال في تركيا و2.5 مليون طفل في شمال سوريا) بحاجة إلى دعم إنساني عاجل.
إذا كان وقع الزلزال على الكبار كارثي فإن الأمر مع الأطفال أكثر مأساوية، فمن المؤكد أن يكون لتلك المأساة تأثيرها المدمر على عقلية الطفل ونفسيته، في ظل المشاهد المرعبة التي عايشها تحت الركام وبين أشلاء وجثث الأهل، ما يتطلب التحرك العاجل لإعادة التوازن النفسي والعقلي لهؤلاء الأطفال قبل أن يتحولوا إلى قنابل موقوتة، تهدد حياتهم وحياة مجتمعاتهم مستقبلًا.
أحمد، خسر والده وأخوته الثلاث وبقي وحيداً.
بيسان، خسرت والديها وأخواتها الستة، تعاني من كسر في الفخذ والعنق.
سندس، خسرت والديها وأختها التوأم، وبقيت وحيدة عند عمتها.
شام، خرجت بعد 40 ساعة من تحت الأنقاض، لكنها خسرت والدتها وأختها.
بعد قصصهم، لا كلام ولا تعبير لدينا..#سوريا pic.twitter.com/cbG6ln4a1h
— Molham Team | فريق ملهم التطوعي (@molhamteam) February 10, 2023
مشاهد مبكية
لحظات مرعبة لا يتمالك فيها المتابع نفسه وهو يترقب لحظات خروج أطفال ناجين من تحت الركام بعد أكثر من خمسة أيام أو أسبوع، القليل يخرج حيًا حتى إن شوهت الجروح ملامح وجهه البريء، أما الغالبية فتسبقهم أرواحهم للجنة بعدما فارقت أجسادهم النحيلة التي لم تتحمل هول المشهد.
نظرات الرعب التي تخيم على أعين الأطفال الناجين، والصمت المدوي الذي يفرض نفسه، والرجفة التي تتملك أجسادهم، تكشف بشكل لا يحتاج إلى توضيح تفاصيل المعاناة وحجم الإحساس ومأساوية الصورة برمتها، حتى إن قوبلت بصيحات فرحة وابتهاج من المسعفين وفرق الإنقاذ الذين يرون في ذلك معجزة إلهية.
ها هي الطبيبة التركية نورسا كسكين، طبيبة الأطفال ونائب مدير مستشفى مدينة أضنة (جنوب تركيا)، التي فقدت أهلها في الزلزال لكنها لم تتوان عن أداء واجبها نحو الأطفال والصغار، فتوجهت على الفور للمستشفى للقيام بدورها الإنساني، تقول في حديثها لـ”بي بي سي” إن هناك أكثر من 260 طفلًا في ذلك المستشفى فقط مجهولو الهوية، فقدوا أهليهم وأقاربهم في الكارثة.
أب كان يواسي أبناءه تحت الركام… الطفلة تقول: “أبوي كان يجبلنا الهوا”… خرجت حية مع أخيها.#زلزال_شرق_المتوسط #زلزال #زلزال_ترکیا_وسوريا #زلزال_سوريا_تركيا #زلزال_تركيا_سوريا #TurkeySyriaEarthquake #earthquakeinturkey pic.twitter.com/gvq9MngSSw
— رؤى لدراسات الحرب (@Roaastudies) February 9, 2023
وتمسك كسكين بيد طفلة تعاني من كسور متعددة وكدمات شديدة في الوجه قائلة: “نعرف أين عُثر عليها، وكيف وصلت إلى هنا. لكننا نحاول العثور على عنوان، ولا يزال البحث مستمرًا”، وتؤكد أن هناك مئات الحالات الأخرى لأطفال مجهولي الهوية، مات آباؤهم أو يتعذر العثور على ذويهم، وعن تواصل الأطباء مع تلك الحالات الصعبة وإذا ما كان هناك تجاوب منهم يقول الدكتور إلكنور بانليسور، بقسم جراحة الأطفال بالمستشفى: “لا، إنهم يتواصلون فقط بالعين والإيماءات”.
وها هو “موسى” الطفل السوري الذي لم يتجاوز عمره الأعوام العشر يروى قصة نجاته ومشاهد الرعب التي عايشها تحت الأنقاض، بينما ترسم الجروح على وجهه أقبح لوحة في تاريخ الإنسانية، فيقول إن أمه أيقظته حين شعرت بالهزة الأرضية، ولمّا قام كان سقف غرفته قد تهاوى، “أهلي ما أصابهم شيء بس أخوي بسام الصغير مات”.
التحرك العاجل.. ضرورة إنسانية
تطالب منظمة اليونيسيف بالتحرك العاجل لإنقاذ الأطفال في جنوب تركيا وشمال سوريا قبل تفاقم الوضع، نظرًا لخصوصية الحالة وحساسيتها واحتمالية أن تتجاوز الخطوط الحمراء خلال الأيام المقبلة بعد القيام بأعمال إزالة الأنقاض بشكل كامل عقب فقدان الأمل في العثور على ناجين، بجانب أوضاع الطقس السيئ الذي ربما يزيد المعاناة.
المديرة التنفيذية لليونيسيف، كاثرين راسل، تقول إن الأطفال والأسر في تركيا وسوريا “يواجهون مشقات لا يمكن تصورها بسبب الزلزال، وعليه يجب أن نبذل كل ما في وسعنا لضمان حصول جميع الناجين من هذه الكارثة على الدعم المنقذ للأرواح، بما في ذلك المياه المأمونة، وخدمات الصرف الصحي، والتغذية والإمدادات الطبية الحاسمة الأهمية، وتقديم الدعم للصحة العقلية للأطفال، وليس خلال الفترة الحاليّة فقط وإنما على المدى البعيد أيضًا”.
ومن خلال وجودها المستمر منذ البداية تشير المنظمة إلى أن مئات الآلاف من الأسر السورية والتركية باتوا اليوم في أوضاع بائسة، حيث خسروا منازلهم ويعيشون اليوم في مراكز إيواء مؤقتة، بجانب ظروف البرد الشديد وتساقط الأمطار التي تعمق من المأساة المتعمقة بطبيعة الحال بسبب ندرة المرافق وانقطاع الخدمات الحياتية لا سيما في الشمال السوري.
على الجانب التركي فرغم مأساوية المشهد بصفة عامة ووضعية الأطفال على وجه الخصوص، فإن الأمر ربما يتم تداركه خلال الآونة المقبلة، إذ إن معظم الأسر الموجودة في الجنوب لديهم رجال يعملون في مدن لم تتعرض لمخاطر الزلزال كإسطنبول وأنقرة، هذا بخلاف أفراد من العائلات الجنوبية قد تزوجوا بأفراد من عائلات أخرى في المدن الشمالية، ما يعني في النهاية احتمالية العثور على أقارب للأطفال الناجين من الزلزال الذين يعانون اليوم من جروح وإصابات داخل المستشفيات، حتى أولئك الموسمين بـ”مجهول الاسم”، وذلك بحسب تصريحات صحفية لمصدر في وزارة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية.
أما في سوريا فالوضع مختلف شكلًا ومضمونًا، فالحرب الدائرة منذ 12 عامًا بين نظام الأسد وميليشياته من جانب والمعارضة السورية من جانب آخر خلفت وراءها 1.2 مليون طفل يتيم، الأمر اليوم ربما يتجاوز المتوقع بعد زلزال الشمال الذي يعاني بطبيعة الحال من أوضاع معيشية متدنية فيما يتعلق بالبيئات الملائمة لنشأة الأطفال ونموهم السوي، وهو ما دفع المنظمات الأممية للتحذير من أن حياة 2.5 مليون طفل سوري في مناطق الشمال في خطر.
وفي تقرير حديث للمجلس العربي (تأسس كمنظمة دولية في فبراير/شباط 2022 في سويسرا ويرأسه المنصف المرزوقي، ويعتبر امتدادًا لتجربة “المجلس العربي للدفاع عن الثورات الديمقراطية” الذي تم الإعلان عن تأسيسه في يوليو/تموز 2014 بتونس) كشف أن 18% من الأطفال السوريين ممن هم في سن الدراسة لا يذهبون إلى المدرسة، وأن النزاع في البلاد أدى إلى تعطل أكثر من 1600 مدرسة، بعضها تحول إلى مراكز تحقيق واعتقال، وأخرى إلى ثكنات عسكرية، ما يجعل البيئات التعليمية لا سيما في الشمال غير آمنة وهو ما يهدد مستقبل أجيال بأكملها في تلك المناطق.
المأساة هنا لا تقف عند حاجز من توفوا من الأطفال تحت أنقاض الزلزال، لكن ربما يزداد تفاقمها مع الناجين منهم، وهو ما حذرت منه المحللة الروسية من أصول سورية، لانا بادفان، بقولها: “هذه الكارثة الطبيعية ستؤدي إلى انهيار نفسي وعقلي للعديد من الأطفال الذين فقدوا أحباءهم، فقد سمعنا صراخهم وهم يرقدون بين الركام في منازلهم المهدّمة، وهو أمر لا يمكنهم تجاوز آثاره بسهولة”، منوهة إلى حاجة أطفال سوريا اليوم وقبل الغد، وأكثر من أي وقت مضى، إلى الرعاية النفسية المتطورة لمساعدتهم على تجاوز تلك المحنة.
#زلزال_تركيا_سوريا
هنا تقف وتعجز جميع الكلمات عن هذا المنظر الذي تقشعرُ له الابدان ونقف عاجزين تماماً
فقط تبقى قدرة الله فوق كل جميع اسباب الحياة#طفل_يخرج_من_تحت الانقاض وهو مغطى بالكامل بالتراب لعشرات الساعات
من أعطاه الاكسجين ومن الذي اطعمهُ ومن الذي أدفئه إنه #الله جل جلاله pic.twitter.com/ge9effxksv
— عبدالله المّرَوح (@ABDOULLAH2MRWIH) February 11, 2023
الدعم النفسي.. الخطوة الأهم
لا توجد كلمات تصف هول المشهد وحجم معاناة الأطفال تحت الركام طيلة تلك الساعات، فكيف لصغار في عمر الزهور أن يتعرضوا لمثل هذا الاختبار القاسي الذي قد لا يتحمله اليافعون، الأمر الذي ينذر بأزمات نفسية طاحنة قد يتعرض لها هؤلاء، أزمات ربما تعصف بحاضرهم وتهدد مستقبلهم إن لم يتم التعامل معها بآليات ومنهجيات مغايرة تمامًا لما هو معتاد.
خبيرة الدعم النفسي للكوارث والأزمات والحاصلة على دكتوراة في الدعم النفسي بالسيكودراما، وفاء أبو موسى، تصف الدعم النفسي للأطفال الناجين في تلك الحالة بـ”المضاد الحيوي” اللازم لتجاوز الأزمة وحالة الفقد، والممر الأول نحو عودة الصغار إلى حياتهم الاعتيادية.
وفي حوار أجرته معها “الجزيرة نت” قسمت أبو موسى الدعم النفسي إلى نوعين: الأول: ذلك المقدم من المسعفين وفرق الإنقاذ لحظة خروج الطفل من تحت الركام، حيث ضرورة وضعه في مكان آمن وطمأنته قدر الإمكان وبأقصى سرعة، وهذا الأمر قد يستغرق من 3 أيام إلى أسبوعين، وتسمى تلك المرحلة بـ”مرحلة ممارسة الحزن” حيث يكون الطفل ميالًا فيها للبكاء والحزن على من فقدهم من الأهل والأصدقاء.
متداول | لحظة انتشال فريق البحث والإنقاذ الباكستاني طفلا على قيد الحياة من تحت الأنقاض#زلزال_سوريا_وتركيا #زلزال_تركيا_سوريا pic.twitter.com/IpJOD0MurB
— قناة درر الفضائية (@DorarTVChannel) February 12, 2023
أما النوع الثاني من الدعم فهو الذي يقدمه المتخصصون من خبراء الصحة والطب النفسي، ويقدم للطفل بعد أسبوعين أو عشرة أيام حسب كل حالة على حدة، وهنا يتم مساعدة الناجين على التعبير عن الصدمة والاستماع الجيد لهم وتهيئتهم بشكل جيد لاستقبال الحياة مجددًا، بعدما يكون قد تخلص إلى حد كبير من هول الصدمة.
وتحذر الطبيبة المتخصصة في الدعم النفسي للكوارث والأزمات من وضع الأطفال اليتامى والفاقدين لذويهم في دور الأيتام، خاصة في المراحل الأولى، فالأولى تهيئة بيئات آمنة تمامًا بعيدًا عن أي استفزازات أو اعتداءات أو أي نوع من أنواع العنف الممارس، وأضافت “يجب وضع هؤلاء الأطفال مع عائلات من أقاربهم أو أي عائلة أخرى مهيأة لمساعدتهم، ومن المهم في هذه المرحلة أن يشعر الطفل بالوجود العائلي بعد فقده أهله”.
بثباتٍ وصبر يوجه هذا الشاب استغاثته من تحت الانقاض ??
اللهم إنا نسألك أن تلطف بحالهم وترحم ضعفهم..
#زلزال_تركيا_سوريا#سوريا_تستغيث pic.twitter.com/YC0qiQDmyO
— آمال رائد ?? ✪ (@Amaalraeed) February 7, 2023
وهنا مسؤولية تشاركية من الجميع، ما بقي من الأهل والجيران والمعارف وأجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، للتكاتف من أجل مساعدة الأطفال الناجين في الخروج من تلك الحالة بأقصى سرعة ممكنة، حفاظًا على حياتهم من الانزلاق في مستنقعات الاضطرابات النفسية التي قد تحول حياتهم إلى جحيم في المستقبل، وتفقدهم القدرة على تقديم أي شيء لمجتمعاتهم وتحولهم إلى عالة على المجتمع.
ما حدث يجب أن يكون ناقوس خطر وجرس إنذار للجميع، فكما يطالب المجتمع الدولي باستثناء الأزمات الإنسانية من معارك النزاع السياسي بين الدول والأنظمة، لا بد من أن يكون للأطفال وضعية استثنائية بعيدًا عن التجاذبات التي كما أفقدتهم طفولتهم وبراءتهم لسنوات ها هي تهددهم بفقدان حياتهم بشكل كامل.
القبيح في الصورة أن تلك المشاهد بكل ما تحمله من مآسٍ تحرك الأحجار وتزلزل القلوب الصلبة، لم تحرك ضمائر الباحثين عن مكاسب سياسية من وراء ما حدث، المتاجرة بمعاناة الأطفال وحياتهم وفقدان الحد الأدنى من الشعور الإنساني حولهم إلى ضباع تتراقص على أشلاء الصغار، في واقعة لن ينساها التاريخ الذي سيظل يلاحقهم بالعار مهما كانت عوامل التعرية الزمنية.