جرت في النصف الأول من شهر فبراير/ شباط 2023 بتونس حملة اعتقالات في صفوف القيادات السياسية التونسية المعارضة، وشملت شخصيات من مشارب سياسية مختلفة، حتى ظننا أن المعارضة اتفقت على أجندة سياسية موحّدة أو متقاربة، وأنها باتفاقها أخيرًا أرعبت النظام/ المنقلب فشرع في حملة الاعتقالات.
لكن بعد التأنّي تبيّن أن هذا الظن من بعض الإثم، فالمعارضة التونسية لم تتفق ولا نراها تفعل في مدى منظور، ولذلك نعنون الورقة بأن المعارضة تمدّ في أنفاس الانقلاب، بقطع النظر عن فشله الاقتصادي والاجتماعي الذي يمكن لو اتحد معارضوه على هذا الأساس لأنهوا وجوده بمظاهرة واحدة.
لماذا لا يتفقون على مشروع سياسي ولو بالحد الأدنى؟ سنتحسّس الإجابة وربما نجد وراءها في هذه اللحظة طبيعة الطبقة السياسية التونسية برمّتها.
المعارضة لم تتطور بعد الانقلاب
كنا نعرف ومنذ العام ثمانين أن المعارضة التونسية منقسمة على نفسها، وأن مكوناتها لم تتفق يومًا على قواعد العمل السياسي المشترك، وأن الحزازات الأيديولوجية قد قامت عائقًا أمام كل وحدة باستثناء فترة شهرَي الثورة (في الظاهر على الأقل)، قبل أن تستيقظ شياطينها الهامدة وتعود إلى الانتحار على أعتاب السلطة وتحت أقدام منظومة الحكم المتخفية، أو التي لبست السفساري كما اشتهر عن رموز النظام، الذين تخفّوا في لباس نساء خشية المطاردة الشعبية.
أوسع الفجوات السياسة كانت ولا تزال بين اليسار بكل مسمّياته والإسلاميين، فهما عدوّان لدودان وخلافهما مكّن دومًا المنظومة، ويمكننا توفير أدلة كثيرة على أن المنظومة منذ عهد بورقيبة كانت تنفخ على هذه النار فتذكيها وتشوي عليها الشعب التونسي، ويرقص التيار القومي على هذه النار محاولًا مقاسمة اليسار وجبته من لحم الإسلاميين، مغضيًا عمّا بين الاسلام والعروبة من أواصر صالحة للبناء والتجميع.
هذا الخلاف العميق هو الذي أفشل الثورة ومهّد لعودة المنظومة، وكانت قمة تأثيره في اعتصام الرحيل الذي أنهى عمليًّا نتائج انتخابات 2011 ومهّد للحظة الانقلاب، وما كان للانقلاب أن يكون وأن يثبت لولا السند اليساري والقومي له، خاصة بتوظيف النقابة المملوكة حصريًّا لليسار يفعل بها ما يشاء.
اليوم يقف الجميع أمام الانقلاب معارضين بمقادير مختلفة من الجدّية، ويشهدون عبثه بالحريات، وهم يرونه يجرُّ الجميع إلى لعبته بوسائل الدولة دون رادع أو خشية من المعارضة المقسّمة.
لم تقرأ المعارضة الانقلاب إلا كفرصة سعيدة لتمزيق مكوناتها والشماتة ببعضها، حتى لما بدأت حملة الاعتقالات غير القانونية فإن منشورات اليسار لا تتعاطف إلا مع من هو قريب منها أيديولوجيًّا، فتظهر متعتها بمن مسّه الضرّ من الإسلاميين.
وتقع منشورات الإسلاميين في ردة الفعل فتنشر الشماتة، ولا نظن الانقلاب وأنصاره إلا يشربون أنخاب معارك المعارضة مطمئنّين على مكاسبهم من ورائها. لم تتعلم المعارضات الأيديولوجية شيئًا من الانقلاب.
مشهد المعارضة الآن
موقفان بارزان وثالث يرقص بين الحبلَين. الموقف الأول هو موقف أحزاب تصف نفسها بالحداثية والحداثة، هو اسم التقية لليسار الحركي واليسار الفرنكفوني، ويدور حوله ليبراليون متشبّعون بثقافة فرنسية يتجسّدون الآن في الأحزاب الأربعة (التيار والقطب والتكتل والعمال)، وقد انسحب منه الجمهوري عصام الشابي، ونأى بنفسه عن مواصلة حرب الاستئصال.
وهؤلاء كانوا مع الانقلاب وهلّلوا له، ثم تراجعوا بدرجات، فمنهم من لا يزال يصرّ على أنه حركة تصحيحية مشروعة، بل كانت ضرورية ثم حادت عن مسارها، ويمكن البناء على دستورها الذي صاغه فرد واحد على هواه.
ومحور تحرُّكهم هو أن يكون هناك ما بعد الانقلاب لكن دون النهضة أو من يقترب منها، ويردد هؤلاء كل السفاهات التي قيلت عن الثورة وعن مرحلة حكم دستور 2014، مصرّين على نعته بالعشرية السوداء دون أدنى مراجعة للموقف.
الموقف الثاني يدور حول النهضة صاحبة الجمهور المنظَّم والنشط، مع وجوه سياسية تجمّعت تحت يافطة جبهة الخلاص، بعد أن استولت على الأصل المؤسَّس من قبل مواطنين ضد الانقلاب (وهم أول صوت معارض واضح وصريح)، حيث لا تزال هناك علاقة بين الأصل والفرع ومجمل الموقف إيجابي تجاه الثورة ويؤسّس على دستور 2014.
الموقف الرجراج بين الموقفَين هو موقف قوم كثير مشتّتين، وبعضهم داخل جبهة الخلاص نفسها يريد استعمال جمهور النهضة في الشارع، دون منحها مكانة لائقة بحجم جمهورها، بدعوى أن النهضة هي المسؤول الأول والوحيد عن العشرية السوداء.
هذا الموقف يتغنّج للرباعي الاستئصالي أو يخجل منه كلّما لطف الحديث عن احتمالات التنسيق مع النهضة، ولا يستنكف عن وصف من يتحالف مع النهضة بالرجعي أو بالظلامي والداعشي، خاصة ائتلاف الكرامة، والجملة التي لا ينطقها هذا الموقف هي أن جمهور النهضة صالح للمظاهرات لكنه غير صالح للحكم والأمنية الضمنية (ليتهم يسقطون الانقلاب ويختفون لنحكم دونهم).
والخلاف كما نرى عميق وعاجز أو رافض (وهو الأسلم) للتنازل والتقارب والتنسيق، ولو من أجل قضايا أساسية مثل الحريات، فالمسكوت عنه أن كل مشاركة للنهضة تشرّع وجودها وتعطيها مكاسب في وقت لاحق، وهذا خط أحمر (يكفي تخيُّل عودة الصندوق الانتخابي)، وأمام هذا الخلاف يمدّ الانقلاب رجله في الحريات ويعتقل بطرق استعراضية لا تخلو من تحدٍّ وشماتة وزهو بالسلطة.
الكلمة السواء المستحيلة
هذه فقرة يائسة للأسف، لم نفلح في توقُّع الخير من معارضي الانقلاب، وقد سمعنا كلامًا مفاده على النهضة أن تساعد في إسقاط الانقلاب، وأن تعلن عدم رغبتها في السلطة بعده (هكذا)، والأغرب أننا سمعنا من النهضة استعدادات لأمر مماثل باسم تقريب وجهات النظر، وإعطاء الأولوية لاستعادة الديمقراطية والحريات دونها، لكن ذلك لم يتحول إلى خطاب علني ورسمي من الجانبَين (ولو أنه يفتقد لأي مبرر أخلاقي وسياسي).
يكشف هذا مستويات انهيار الثقة بين الفرقاء، فحتى انسحاب النهضة التكتيكي وتقديمها لتنازل (ربما يوصف بالتاريخي) لا يرفع مستويات الثقة، فمن يطلب منها التنازل (أو يلمّح خجلًا للأمر) لا يقدّم لها (وكيف يمكنه ذلك؟) أية ضمانات ديمقراطية لعدم هرسلتها وإضعافها أو إضعاف ما تبقّى منها، فهي لم تخرج سليمة من المرحلة.
في اللحظة التي يعبث الانقلاب بالحريات، نشاهد فُرْقة المعارضة ونصل إلى استنتاجات مؤذية، البلد ينهار اقتصاديًّا ويتردّى سياسيًّا، والمسؤولية في ذلك لم تعُد فقط مسؤولية الانقلاب، إنها أيضًا مسؤولية معارضيه المشغولين بصراعات بينية عمرها أكثر من نصف قرن، والمحاسبة التي لا نشك في حدوثها يومًا (ولو تأخّرت) ستشمل الجميع من انقلب ومن عارض دون شعور بالمسؤولية التاريخية.
لقد فشلت الطبقة السياسية في معارضة الانقلاب رغم أنها تربّت في معارضة كل سلطة قامت في البلد. أما الالتقاء على مصلحة البلد فلا يزال بعيدًا.