تعدّ تركيا في العموم أحد رواد العمل الإنساني على المستوى الدولي، وفي عام 2018 صُنّفت كأكبر دولة مانحة في العالم بحسب تقرير المساعدات الإنسانية العالمية، بإجمالي مساعدات بلغ 8.3 مليارات دولار، لتتربّع على عرش الكرم العالمي حين خصّصت 0.79% من دخلها القومي للمساعدات الإنسانية في العام نفسه.
وتحتضن تركيا عشرات الجمعيات والتنظيمات الخيرية التي أهّلتها لتلك المكانة، حتى تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى أداة تركيا الدبلوماسية الناجعة، التي حقّقت من خلالها العديد من الأهداف السياسية والثقافية والاقتصادية، وكان لها صداها في الانتفاضة الدولية التي تشهدها هذه الأيام.
وتتصدّر تلك الجمعيات 4 رئيسية، الأكثر حضورًا في المشهد، داخل تركيا وخارجها، وهي إدارة الكوارث والطوارئ “آفاد”، والهلال الأحمر، ووقف الديانة التركية، ووكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا”، والتي تمتلكُ مئات الفروع في عشرات الدول في مختلف أنحاء العالم.
وظهر دور تلك الكيانات جليًّا خلال الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا فجر 6 فبراير/ شباط الجاري، وأسفر حتى 15 من الشهر عن وفاة 41 ألف شخص، فكانوا أصحاب السبق في إعادة البسمة لعشرات الأسر التي خرج أبناؤها ناجين من تحت الأنقاض، بجانب تقديم يد العون والمساعدة لعشرات الآلاف من المنكوبين.
“آفاد”.. خبرة عالمية في إدارة الكوارث
كانت هيئة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” المنظمة الأولى التي تحركت ميدانيًّا بعد دقائق معدودة من وقوع الزلزال، فهي المخوّلة بالتعامل مع الوضع أثناء الكوارث والأزمات التي تصيب تركيا، وتعاظمَ دورها أكثر مع تمدُّد حزام الزلازل ونشاطه المتصاعد داخل الأراضي التركية، حتى احتلت المرتبة الثالثة في العالم من حيث خسائر الزلازل والثامنة من حيث عدد المتضررين.
وتعود نشأة “آفاد” إلى عام 2009، حين تأسّست كمركز لإدارة وتنسيق جهود التصدي لعواقب الكوارث التي تتعرّض لها الدولة، وأحد مخرجات التحول التركي في التعامل مع الأزمات الطبيعية منذ زلزال 1999 الذي أودى بحياة أكثر من 17 ألف شخص، فيما تقوم بدور حلقة الوصل بين الحكومة والمنظمات المدنية غير الرسمية للتنسيق فيما بينها في جهود الإنقاذ والإغاثة.
في البداية كانت المنظمة تتبع رئيس الوزراء بشكل شخصي، غير أنه وبعد الانتقال إلى نظام الرئاسة التنفيذية عام 2018 باتت تتبع وزارة الداخلية، ويناط بها كذلك تنسيق جهود جمع الأموال والتبرعات أوقات الكوارث، ومساعدة المنكوبين وتقديم يد العون والمساعدة بشتى السبل.
تمتلك إدارة الكوارث والطوارئ قرابة 7323 فردًا في 81 مقاطعة تركية
وفي عام 2012 رفعت الهيئة شعارًا رئيسيًّا لها، تحت عنوان “ماذا يجب علينا أن نفعل قبل حدوث الزلزال”، والذي كان بمثابة خطة منهجية لمواجهة الكوارث قبل وقوعها، وذلك استنادًا إلى عدة محاور: منع الكوارث وتقليل الأضرار المتعلقة به، التخطيط والتنسيق والاستجابة ما بعد الكوارث، تعزيز التعاون بين مختلف الوكالات الحكومية، تقديم الدعم للمنكوبين جرّاء الكوارث.
وتمدّدَ نفوذ الهيئة ونشاطها خارج الأراضي التركية، فخلال السنوات العشر الأخيرة وصلت المساعدات الإنسانية التي قدّمتها إلى 58 دولة في 5 قارّات، كما لبّت نداءات استغاثة من 10 دول مختلفة تعرّضت لكوارث، وشاركت في أعمال الإنقاذ جرّاء السيول التي اجتاحت العراق وإيران وموزمبيق، واستجابت لاستغاثة ألبانيا حين ضربتها حزمة زلازل متلاحقة، وكانت لها جهود كبيرة في اليمن وسوريا وميانمار، وبلغت المساعدات التي قدّمتها لتلك البلدان حوالي 86.2 مليون دولار.
وتمتلك إدارة الكوارث والطوارئ قرابة 7323 فردًا في 81 مقاطعة تركية وفق تقرير وزارة الداخلية عام 2022، فيما تجاوز عدد متطوعي الإدارة حاجز الـ 600 ألف متطوّع بعدما كان 51 ألفًا عام 2019، أما ميزانيتها السنوية للعام 2023 فتبلغ 429 مليون دولار، أما عدد الكوارث التي تصدّت لها خلال العام الماضي فقط فبلغ 5300 كارثة.
الهلال الأحمر.. رائد الدعم الصحّي والنفسي
تصدّر الهلال الأحمر التركي، إحدى أقدم الهيئات الصحية في المنطقة، قائمة الجهات التي قدّمت خدمات الإسعافات الأولية، الصحية والنفسية، لضحايا الزلزال، وذلك من خلال فريق دعم مكوّن من 53 شخصًا ويضمّ عدة تخصصات، من أطباء نفسيين واختصاصيين في علم النفس الإكلينيكي، واختصاصيين في الإرشاد النفسي، واختصاصيين اجتماعيين ومتطوعين؛ حيث يلتقون بالمنكوبين في محاولة لتخفيف الصدمة وإخراجهم منها في أسرع وقت.
وفتحت الهيئة باب التطوع لمن يريد المشاركة، وبالفعل تلقت دعوات من آلاف الشباب يطلبون المساهمة في جهود الإغاثة، فيما وجّهت إدارة الهلال الأحمر الراغبين في التبرع لشراء الألعاب ومواد التلوين وقصص التسلية، لمساعدة الأطفال تحديدًا على التعافي المبكر من الصدمة التي تعرّضوا لها.
وتأسّس هذا الكيان في 11 يونيو/ حزيران 1868، تحت مسمّى “الجمعية العثمانية لمساعدة الجنود الجرحى والمرضى”، وكان الهدف الأساسي له تقديم الإسعافات الأولية للجنود في ساحات المعركة، وقد مرَّ بعدة مراحل وصولًا إلى صورته الحالية.
البداية كانت تحت عنوان “جمعية الهلال الأحمر العثمانية” عام 1877، ثم “جمعية الهلال الأحمر التركية” عام 1923، ثم تتريك اسم الهلال الأحمر ليتحول من Hilaliahmer إلى Kızılay في عام 1935، ليصل في النهاية عام 1947 إلى مسمّاه الحالي “منظمة الهلال الأحمر”.
تشير الإحصاءات إلى تقديم الهلال الأحمر التركي خلال عام 2022 مساعدات إنسانية ومستلزمات معيشية لأكثر من 7 ملايين شخص في 71 دولة حول العالم.
ووضعت المنظمة 6 مبادئ أساسية تحدد هويتها وطبيعة عملها، هي حماية الإنسان ورعاية صحّته واحترام كرامته، عدم التفريق على أساس العرق أو المعتقد الديني أو الطبقة الاجتماعية أو الفكر السياسي، إعطاء الأولوية للاحتياجات الأكثر حساسية وإلحاحًا، الحيادية وعدم الانحياز، عدم الدخول في أي صراعات سياسية أو عرقية أو دينية، الاستقلالية والتطوع، وتعمل كمساعد للسلطات التركية في مجال النشاط الإنساني.
وتقدّم العديد من الخدمات والمهام، منها أولًا: الاستجابة العاجلة للطوارئ الكارثية، وتقديم الخدمات اللوجستية الفورية؛ ثانيًا: المشروع الوطني التركي لنقل الدم، وإنشاء مراكز نقل الدم داخل وخارج تركيا (تمتلك المنظمة 18 مركزًا خارج تركيا و67 داخل البلاد)؛ ثالثًا: الخدمات الاجتماعية، ومنها حملات جمع الزكاة وتوزيعها على الفقراء، والإشراف على توزيع الأضاحي للمحتاجين، ولدى الهلال الأحمر 13 مطبخًا إغاثيًّا خارج تركيا و3 دور لرعاية الأيتام ودارًا لرعاية المسنين وكبار السن، بجانب 8 مساكن طلابية مجانًا، و5 مراكز لتوزيع الملابس.
وبجانب الخدمات الصحية التي تقدّمها، لديها عشرات المشافي المتكاملة في إسطنبول وقونيا وقيصري، فضلًا عن المراكز الصحية الفرعية في بقية الولايات، تقدّم المنظمة العديد من البرامج التدريبية التي تهدف من خلالها إلى نشر الوعي بالإسعافات الأولية والتعامل مع الكوارث، وقد وصل عدد المستفيدين من تلك البرامج 100 ألف متدرّب في 32 مركزًا تدريبيًّا مخصّصًا لبرامج التدريب على الإسعافات الأولية في تركيا.
وتشير الإحصاءات إلى تقديم الهلال الأحمر التركي خلال عام 2022 مساعدات إنسانية ومستلزمات معيشية لأكثر من 7 ملايين شخص في 71 دولة حول العالم، عبر 17 بعثة تعمل بشكل دائم في الخارج، ومن أبرز تلك المساعدات فتح محلات تجارية لأسر في أفغانستان، وتقديم دورات تعليمية للسجينات في مقديشو، وخدمات طبية لنحو 200 مريض يوميًّا في بنغلاديش.
وقف الديانة.. إغاثة المنكوبين
يعدّ وقف الديانة التركي عصب دعم المعونات التي يحتاجها المنكوبون أوقات الكوارث، حيث يسخّر كل إمكاناته، المادية والبشرية، لخدمة المتضررين، وهو ما ظهر بشكل واضح في زلزال كهرمان مرعش، حيث انتشر متطوعو الوقف في الولايات العشر التي ضربها الزلزال.
وفي تصريحات صحفية له، أكّد المدير العام للوقف، إذعاني طوران، أنه منذ الساعات الأولى لوقوع الزلزال كان الانتقال إلى المناطق المنكوبة، حيث انتقل المدير والرئيس الثاني للهيئة، ومعاون المدير ومدير مديرية الخدمات الخيرية والاجتماعية، وأكثر من 30 موظفًا من المركز العام متخصّصين في أعمال الكوارث، إلى مناطق الكارثة لتقديم المساعدات بشكل عاجل.
ولفت إلى أن فروع الوقف داخل تركيا، والبالغ عددها 1003 فروع، جيّشت كل إمكاناتها لإغاثة المتضررين، وأضاف: “تم إرسال شاحنة مطبخ متنقّل، وعربة تنسيق، وعربة كوارث، و4 عربات تموين، و3 عربات نقل إضافية، وعربة دعم خدمات، وكرفان متنقّل إلى مناطق الزلزال، إضافة إلى أن الكثير من عربات التموين والدعم قد انتقلت إلى مناطق الزلزال من فروعنا المختلفة”.
يقدم وقف الديانة التركي مساعداته الخيرية في 149 دولة حول العالم
وكان للوقف، الذي تأسّس منتصف مارس/ آذار 1975، السبق في توفير الاحتياجات الغذائية الأولية للمناطق المتضررة، خاصة أن المنظمة هي الأولى مدنيًّا في البلاد التي تحصل على شهادة “اعتماد التغذية” من هيئة الكوارث، حيث قدّم موظفو الوقف الطعام الساخن ومختلف المأكولات للمتضررين على مدار الساعة، بجانب فرق البحث والإنقاذ التي لم تفارق المناطق في ظل تلك الظروف الصعبة.
وفي سياق التخفيف عن المنكوبين ومساعدتهم، أعلن الوقف على لسان رئيس مجلس الأمناء، علي أرباش، فتح جميع المساجد التي لم تتضرر لاستقبال المواطنين وتقديم كل الخدمات الطبية والغذائية لهم، مع إعلان حالة الطوارئ القصوى داخل كل الفروع للقيام بمهامها على أكمل وجه على مدار اليوم بأكمله.
وتحت شعار “إلى أن يعمَّ الخير أرجاء العالم”، يقدم وقف الديانة التركي مساعداته الخيرية في 149 دولة حول العالم (300 مليون دولار لسوريا، 39 مليون دولار لأراكان، 37 مليون دولار لليمن، 5 ملايين دولار لأندونيسيا، 32 مليون دولار لفلسطين)، هذا بجانب ذبح الأضاحي بالوكالة في تركيا والمناطق المحتاجة، وتوزيع اللحوم للفقراء والمحتاجين، وحفر آبار المياه للمحتاجين، حيث قام بحفر 374 بئر ماء في 29 دولة، وقام بترميم 152 مسجدًا.
وتحول الوقف على مدار السنوات الماضية إلى الجسر الإنساني الأبرز داخل تركيا، والتي ينطلق منها إلى عشرات البلدان في مختلف أنحاء العالم لنشر رسالة الرحمة والسلام والتكافل والإغاثة، مقدّمًا واحدًا من أروع النماذج في العمل الإنساني المكتمل، الذي استطاع من خلاله إغاثة المشردين والمحتاجين وانتشالهم من براثن الموت فقرًا وجوعًا وبردًا.
“تيكا”.. نافورة المشاريع التي لا تتوقف
سارعت وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” (تابعة لوزارة الثقافة والسياحة التركية) إلى تقديم المساعدات العاجلة مع الساعات الأولى لوقوع الزلزال المدمّر، ففي أول تحرك لها جهّزت 11 شاحنة محملة بالمساعدات الغذائية والملابس لإغاثة المتضررين في ولايات قهرمان مرعش وملاطيا وهطاي وأدي يامان، بالمشاركة مع وزارة السياحة.
كما تبنّت الوكالة حملات توزيع المواد الغذائية والملابس والبطانيات والمدافئ وغيرها من المسلتزمات الضرورية على المتضررين، إضافة إلى الإشراف على توزيع الوجبات الساخنة التي تقوم بتجهيزها بمساعدة بعض الجهات الأخرى على سكان تلك الولايات.
ومنذ تأسيسها عام 1992، نفّذت “تيكا” أكثر من 30 ألف مشروع في 170 دولة، في مجالات الزراعة والصحة والتعليم والتدريب المهني وحفر الآبار وترميم الآثار التاريخية، كما رفعت عدد مكاتبها في مختلف دول العالم من 12 مكتبًا عام 2002 إلى 62 مكتبًا عام 2022.
ويأتي القطاع الصحي على رأس أولويات مشاريع الوكالة التركية، حيث تمَّ إجراء أكثر من 7616 عملية جراحية في قارة أفريقيا فقط خلال الأعوام الماضية، كما دشّنت عددًا من المشافي في بعض الدول، منها مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني بقطاع غزة الذي شُيّد على مساحة 35 ألف متر مربع، بسعة 180 سريرًا، ويعدّ اليوم أكبر مستشفى في فلسطين؛ كذلك مستشفى في قرغيزستان، يتسع لنحو 72 سريرًا لعلاج أمراض القلب والجهاز الهضمي؛ ودعم وتطوير إمكانات مستشفى باتومي للأمراض المعدية في جورجيا، وخلال فترة انتشار وباء كورونا الأخير قدّمت “تيكا” مستلزمات ومعدّات طبية لأكثر من 100 دولة.
وللتعليم مكانة كبيرة في قائمة أولويات الوكالة التركية، خاصة مشاريع التعليم المهني وتأسيس البنية التحتية، حيث نفّذت خلال العقود الثلاثة الماضية 5 آلاف مشروع تعليمي في العديد من الدول، منها على سبيل المثال مشروع الصيانة الشاملة لمدرسة البنات في مخيم الوحدات الأردني، التي يدرس فيها اللاجئون الفلسطينيون.
وبعيدًا عن الجدل الذي قد يثار بين الحين والآخر بشأن نشاط تلك المنظمات، إلا أنها تبقى رقمًا صعبًا على خارطة المساعدات الإنسانية في العالم، وأحد الروافد الأساسية لعون منكوبي الكوارث في شتى البلدان، بجانب أنها تحولت في السنوات الأخيرة إلى مصدر بهجة وسعادة وطمأنينة للملايين داخل تركيا، من المشردين واللاجئين وأبناء الوطن غير القادرين.