يقول الإمام الشافعي في إحدى مناقبه: “جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ، وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي، وَمَا شُكْرِي لهَا حمْدًا، وَلَكِن عرفتُ بها عدوّي من صديقي”، وتؤصل المآثر التراثية إلى أن معادن الناس الحقيقية تتجلى أوقات الأزمات، أما التاريخ فيزخر بعشرات التجارب التي تؤكد على أن الأمم الأبية هي التي تحول المحن إلى منح، تستخرج من قيعانها اللآلئ والدرر مهما كانت مظلمة مؤلمة.
يقدم الأتراك والسوريون اليوم واحدة من أنصع ملاحم الإنسانية والتوحد، لوحة خطها الشعب بأنامله فرسم البسمة على شفاه الملايين من المشردين وأسر المنكوبين إثر الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا فجر 6 فبراير/شباط الحاليّ، وأودى بحياة أكثر من 41 ألف شخص (35418 في تركيا و5801 في سوريا).
“تركيا قلب واحد”.. حملة رسمية شعبية، شاركت فيها كل طوائف الشعب المختلفة، مشاهير وأفراد وجهات حكومية وخاصة، شاركت في عملية بثها على الهواء مباشرة، مساء الأربعاء 15 فبراير/شباط 2023، 213 محطة تليفزيونية و562 إذاعة داخل وخارج تركيا، واستطاعت في غضون 7 ساعات فقط جمع 115 مليارًا و146 مليونًا و528 ألف ليرة تركية (نحو 6.1 مليار دولار) في مشهد أثار إعجاب الجميع، في الداخل والخارج، لما يحمله من رمزيات ودلالات تعكس وحدة الشعب وتكاتفهم لحظة المحنة، يتشارك في ذلك أبناء تركيا وسوريا معًا.
اللي بيحصل في الحملة دي شيء مذهل
بث تلفزيوني مشترك
عشرات الفنانين والمشاهير مع بعض
مذيعين من كل القنوات
رئيس الدولة بيشارك برسالة قوية
شعب عظيم بيتبرع ب ١٠٠ مليار ليرة في ساعات
الأزمة كبيرة في تركيا وسوريا والكارثة محتاجة حملات عظيمة بالحجم ده#تركيا_قلب_واحد
#TürkiyeTekYürek pic.twitter.com/5pED3WKlqx
— Osama Gaweesh (@osgaweesh) February 15, 2023
أكبر حملة تبرعات في تاريخ تركيا
اعتاد الشعب التركي بصفة عامة إظهار التكاتف والدعم في الكوارث والمصائب التي يتعرض لها، ولعله تشرب من دبلوماسية الأزمات التي تجيدها أنقرة بشكل لافت للنظر خلال السنوات الأخيرة، غير أن المشهد الحاليّ ربما يكون استثنائيًا في أكثر من مسار، الأول: حجم التغطية الإعلامية ومستوى المشاركين، الثاني: سرعة الاستجابة والتفاعل غير المسبوق، الثالث: النتائج الأولى والمردود الإيجابي حيث جمع قرابة مليار دولار كل ساعة، وهو رقم لم تعهده تركيا ولا غيرها من قبل في مثل تلك الأزمات.
انطلقت الحملة ابتداءً من أجل جمع التبرعات عبر البث المباشر لصالح هيئة إدارة الكوارث والطوارئ التركية (AFAD) والهلال الأحمر التركي (Kızılay)، للمساعدة في جهود إعادة الإعمار وإغاثة منكوبي الزلزال، وشاركت معظم المحطات التليفزيونية والإذاعية في تركيا وأذربيجان وقبرص التركية في هذا المارثون عبر البث المباشر ومن أبرزها محطات TRT1 وATV وFOX وKanal D وKanal 7 وShow TV وStar TV وTV8.
كان هذا المشهد الموحد للإعلام التركي الليلة الماضية في حملة #تركيا_قلب_واحد لجمع التبرعات لصالح منكوبي الزلزال.
TÜRKİYE TEK YÜREK❤️?? pic.twitter.com/HnQ7HRf4gr
— الرادع التركي ?? (@RD_turk) February 16, 2023
وشارك في تقديم تلك الحملة التي كست تغطيتها شاشات التلفاز في جميع منازل الأتراك في الداخل والخارج، مشاهير الفن والرياضة في البلاد وعلى رأسهم نهاد خطيب أوغلو وبيلين شيفت وتشاغلا شيكل وتومر دوغرو ونازلي تشيليك وأجون إليجالي ودنيز بيرام أوغلو، بالإضافة إلى ديديم أرسلان يلماز وأكين كينوزو وغيرهم الكثير.
الحملة وصفتها وسائل الإعلام التركية بأنها الأكبر في تاريخ البلاد، حيث لاقت استجابات سريعة وغير متوقعة من الجميع، خاصة أنها فتحت الباب أمام شتى أطياف الشعب بانتماءاتها العقدية والسياسية والقومية للمشاركة في تلك الهبة الوطنية الإنسانية، بداية من التبرع بخمسين ليرة تركية عبر رسائل قصيرة وصولًا إلى الملايين والمليارات عبر التبرعات المباشرة من ساسة ورجال أعمال وكيانات ومنظمات حكومية وخاصة بجانب آخرين خارج البلاد.
التبرعات هنا لم تقتصر على الأتراك فقط، بل شارك فيها سوريون كذلك حيث تبرع رجل الأعمال السوري علاء الدين ماسة بمليون ليرة تركية (53 ألف دولار) لصالح المتضررين من كارثة الزلازل، فيما أعلن رئيس وزراء ألبانيا، إيدي راما، وعبر اتصال هاتفي أجراه مع الحملة، عن دعم الحملة بمليون يورو، مضيفًا “أعلم أن هذا المبلغ ليس كبيرًا، وأن هناك حاجة إلى مبالغ أكبر، لكن هذا المتاح بأيدينا في الوقت الراهن، وأعتقد أن الأهم هو فعل المتاح”.
وفي مداخلة هاتفية له مع منظمي الحملة قال الرئيس رجب طيب أردوغان: “شعبنا سيظهر كرمه مجددًا بتحطيم رقم قياسي في التبرع للمتضررين من الزلزال”، لافتًا إلى أن كل المبالغ التي سيتم جمعها خلال الحملة ستُنفق من أجل منكوبي الزلزال، منوهًا أن “كل مؤسسات الدولة وطواقمها وجميع أبناء الشعب التركي سيقفون صفًا واحدًا لدعم المتضررين”.
وأمام تلك الملحمة الإنسانية الوطنية التي قدمها الأتراك، وجهت إدارة الطوارئ والكوارث التركية “آفاد” المنظم الرئيسي للحملة، شكرها للمشاركين والمتبرعين، مشددة على “الدولة والشعب أظهرا مثالًا يحتذى في التضامن والوحدة”، وأضافت “سنتجاوز هذه الأيام العصيبة بالوحدة والتضامن والتعاضد، وسنداوي جراحنا معًا، ولمسنا مثالًا رائعًا على هذه الوحدة في تلك الحملة، نود أن نشكر شعبنا ومؤسساتنا على الاهتمام الذي أظهروه لحملتنا الإغاثية”.
الرئيس #أردوغان متحدّثاً إلى حملة #تركيا_قلب_واحد.. pic.twitter.com/omwnuT4AyK
— أحمد بن راشد بن سعيّد (@LoveLiberty_2) February 16, 2023
أكبر حملة إعادة إعمار كذلك
الرئيس التركي خلال المداخلة قال إن بلاده تستهدف تشييد مبان آمنة بديلة عن البنايات المنكوبة خلال عام، وأضاف: “اعتبارًا من بداية مارس/آذار المقبل، سنضع حجر الأساس لـ30 ألف وحدة سكنية، وبذلك سنكون قد بدأنا إعادة إعمار المناطق المهدمة”، وكان وزير البيئة والتطور العمراني التركي، مراد قوروم، قد أشار في تصريحات سابقة إلى أن عدد البنايات المتضررة من الزلزال، انهارت أو تصدعت، وصلت 41 ألفًا و791 بناءً في الولايات التركية الـ10 المتأثرة بالزلزال.
تشير التقديرات إلى أن حملة إعادة إعمار العقارات المتضررة ستكون هي الأكبر كذلك في تاريخ الدولة التركية، فبحسب وزير التطور العمراني تم فحص مليون و586 ألف و901 منزلًا وأماكن عمل في 10 محافظات، وقُرر هدم جميع البنايات المتضررة (41 ألفًا 791 بناية) أي ما يقارب 190 ألفًا و172 مسكنًا، مشيرًا أنه بنهاية الشهر الحاليّ ستبدأ حملة إعادة الإعمار في الولايات العشرة بالتزامن.
وتسابق منظمات الإغاثة التركية الزمن لتخفيف معاناة المنكوبين، حيث كشف نائب الرئيس التركي فؤاد أُقطاي أن عدد المقيمين في مراكز الإيواء المؤقتة التي تم إنشائها في المناطق الأشد تضررًا بلغ نحو مليون و50 ألف مواطن من متضرري الزلازل، هذا بخلاف مدن الحاويات التي أقيمت وبلغ عددها نحو 1626 مدينة في منطقي إصلاحية ونورداجي وفق ما أشار قوروم.
وتحاول الحكومة تلبية الاحتياجات الأساسية للمتضررين بداية قبل الشروع في حملة إعادة الإعمار بشكل كامل، حيث عملت على إصلاح الأضرار التي لحقت بالمرافق العامة كالكهرباء والغاز والمياه بمعظم المناطق المنكوبة، وإعادتها للاستخدام مرة أخرى بعد تلفها خلال الأسبوع الأول من الزلزال، فيما سخرت كل الإمكانات لتقديم الخدمات العاجلة الضرورية للإيواء المؤقت حتى الانتهاء من أعمال الترميم والبناء.
رجل الأعمال السوري علاء الدين مساح يتبرع بمليون ليرة تركية لصالح متضرري الزلزال عبر حملة #تركيا_قلب_واحد pic.twitter.com/pe5biimuzP
— محمد الخطيب (@mhaktr) February 16, 2023
تضامن عالمي
سيمفونية تضامنية تعزفها العشرات من بلدان العالم دعمًا للشعبين التركي والسوري في مصابهم الجلل، حيث جيشت العديد من دول جسور إمداد ومساعدات لا تتوقف، لدعم جهود الإغاثة والإنقاذ، وتقديم يد العون للمتضررين من الزلزال الذين يتجاوز عددهم الملايين وفق التقديرات الأولية.
وكان للبلدان العربية والإسلامية السبق في هذا المزاد الإنساني الهائل، فبجانب المساعدات الرسمية التي تقدمها الحكومات كان لحملات التبرعات الشعبية حضور قوي، إذ جمعت الحملات التي أطلقتها دول الخليج الستة أكثر من 390 مليون دولار في غضون 9 أيام، فيما جمعت حملة “ساهم” السعودية وحدها نحو 98 مليون دولار، من أكثر من مليون ونصف المليون متبرع.
عندما يحسّ المواطن بأنّ هناك وطنٌ يرعاه فإنّه يفتديه عند الشدائد بكلّ ما يستطيع.
بالأمس نجحت #تركيا ?? في 6 ساعات بجمع أكثر من 115 مليار ليرة (#6_مليار_دولار ?) لصالح المتضرّرين من #الزلزال عبر 213 محطة فضائيّة + 562 إذاعة تركيّة وذلك تحت شعار: #تركيا_قلب_واحد #TuerkiyeTekYuerek
— حاتم الحويني | Hatem Al-Howainy (@Hatem_alhowainy) February 16, 2023
ومن روسيا إلى إندونيسيا وماليزيا وأذربيجان حيث عشرات الحملات لجمع التبرعات لمنكوبي الزلزال، فيما تبرع مواطن باكستاني مقيم في الولايات المتحدة وحده بمبلغ 30 مليون دولار حسبما أعلن رئيس الوزراء شهباز شريف، الذي قال: “هذه الأعمال الخيرية تمكن البشرية من الانتصار على الصعاب، التي يبدو حلها مستعصيًا”.
وفي سياق التسابق نحو المشاركة في الحملة، وعد وزراء الطاقة في نحو 40 دولة هم أعضاء الوكالة الدولية للطاقة بدعم إنعاش المناطق التي تضررت من الزلزال، وذلك حسب البيان الصادر عن اجتماع الوكالة عبر تقنية الفيديو كونفرانس أمس الأربعاء 15 من فبراير/شباط الحاليّ.
تؤكد حملة التبرعات التاريخية على وحدة الهم التركي وتكاتف الشارع بشتى انتماءته أوقات الصعاب والأزمات، وهو ما تؤكده التجارب السابقة حين كان الشعب بشتى أطيافه صفًا واحدًا وقت التهديدات والتحديات كما حدث في محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف 2016.