وسط ركام آلاف المباني بولاية قهرمان مرعش التركية، التي ضرّها زلزال بقوة 7.8 على مقياس ريختر، يقف مبنى تابع لجمعية المهندسين المدنيين شامخًا، كشاهد عيان على نتائج التزام الإنشاءات بمواصفات أكواد البناء، وفقًا لرئيس غرفة المهندسين الكهربائيين، ماهر أولوتاش.
لا يستغرب مختصون نجاة عدة مبانٍ من كوارث الزلازل، رغم أنها موجودة في نوعية “التربة” نفسها، وبذات الارتفاعات، وتاريخ البناء، بينما تتعرض مبانٍ مجاورة للدمار، رغم تساويها في قوة الزلازل، فهل يكمن السر في هندسة المبنى (داخليًا وخارجيًّا)؟
لم يكن هذا هو السؤال الوحيد، بعدما كثرت علامات الاستفهام مذ وقوع زلزالَي جنوب تركيا بقوة 7.8 و7.6 درجات على مقياس ريختر، متبوعَين بأكثر من 4300 هزة ارتدادية، بحسب هيئة إدارة الكوارث والإغاثة التركية، التي تواصل رصد حصيلة الضحايا حتى الآن.
التساؤلات الحرجة (سياسيًّا وفنيًّا) ترتبط بارتفاع عدد القتلى إلى 36 ألفًا و187 شخصًا، مقابل أكثر من 108 آلاف مصاب، وفقًا لعمليات البحث والإنقاذ، التي سيعقبها، قريبًا، توجيه الجهود لعمليات الإجلاء، ومتابعة أوضاع الناجين من كارثة الزلزال.
التساؤلات تحاول الوقوف على أسباب ارتفاع عدد الضحايا، ولماذا تصدّرت العقارات مشهد الأزمة، هل لأن القطاع العقاري التركي قاطرة النمو الاقتصادي، وما علاقة مواصفات المباني (كود الزلازل) بما حدث، وما مستوى التجاوزات، ومن المسؤول عنها؟
ماذا عن مسؤولية الحكومة (الوزارات والمؤسسات المعنية)، وما دور رؤساء الولايات والبلديات والمدن الجنوبية، خاصة المحسوب منهم على المعارضة (في ضوء صلاحياتهم واختصاصاتهم المباشرة في المتابعة) وهو ملف لم يتطرق إليه أحد منذ وقوع الكارثة؟
ثم لماذا باتت شركات العقارات في دائرة الاتهام، وما مصير المتورّط منها في البناء بمناطق معرّضة للزلازل، دون تطبيق المعايير اللازمة (قياسات التربة، معالجتها، تصميمات المباني، والمواد الخام المناسبة للإنشاءات)، وعدم مراعاة طبيعة المباني المضادة للزلازل؟
وكيف تحركت الحكومة (قبل وبعد الكارثة)، وهل هناك تعويضات للمتضررين، من له الحق في صرفها، وماذا عن الجهة المعنية بالصرف، وإلى أي مدى سيكون مستقبل سوق العقارات التركي بعد الزلزال، بما يمثّله للاقتصاد المحلي؟
تسهيلات وضمانات حكومية
تتعامل الحكومة التركية، خلال الـ 20 عامًا الماضية، مع القطاع العقاري باعتباره قاطرة النمو الاقتصادي، إذ يحظى سوق العقارات باهتمام محلي وإقليمي، من واقع العديد من التسهيلات المقدمة والضمانات الحكومية التي تصبّ في مصلحة القطاع.
خلال تلك الفترة، ركّزت الجهود الحكومية على جذب الاستثمارات الأجنبية (خاصة العربية) مدعومة بمحفّزات كثيرة (منح الإقامة العقارية والجنسية التركية لاحقًا، التوثيق العقاري الذي يحدد قيمة المباني، ومتابعة سير المشاريع العقارية والاستثمارية).
بلغة الأرقام، تنشط في قطاع العقارات التركي ما يقارب 130 ألف شركة، وزاد عدد الشركات العاملة في القطاع بنسبة 43% خلال الـ 10 سنوات الأخيرة، وتشكّل استثمارات البناء نحو 50% من استثمارات رأس المال الثابت، وفقًا لجمعية مصنّعي لوازم البناء التركية.
حزب الشعب الجمهوري يحكم 3 ولايات ضمن الأكثر تضررًا من الكارثة (هاتاي، أضنة وأنطاليا)
لكن رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كليجدار أوغلو، قال بعد كارثة الزلزال إن “قرارات الموافقة على الأبنية التي لا تلبّي معايير السلامة، منذ يونيو/ حزيران 2018، خاصة في ولايتَي قهرمان مرعش وهاتاي، تسبّبت في تحويل البيوت إلى مقابر”، في إشارة إلى ضحايا الزلزال.
المثير أنه، ووفقًا لمراجعة “نون بوست” لخريطة المناطق المتضررة، تبيّن أن حزب الشعب الجمهوري يحكم 3 ولايات ضمن الأكثر تضررًا من الكارثة (هاتاي، أضنة وأنطاليا)، بينما يحكم حزب الشعوب ولاية ديار بكر، فيما تحكم الحركة القومية ولاية عثمانية.
في المقابل، يحكم حزب العدالة والتنمية ولايات قهرمان مرعش، شانلي أورفا، غازي عنتاب، ملاطية، أديامان وكيليس، بحكم نتائج الانتخابات البلدية التركية مطلع أبريل/ نيسان 2019، التي أسفرت عن فوز حزب العدالة والتنمية (الحاكم) بحوالي 56% تقريبًا من البلديات التركية.
خلال الانتخابات البلدية، يتم اختيار رؤساء 81 ولاية، و30 رئيس بلدية كبرى، و1351 منطقة، و1251 عضو مجلس ولاية، و20 ألفًا و500 عضو مجلس بلدية، ومناصب محلية كأمناء الأحياء ومجالس كبار السن، الذين يشرفون على أعمال الحكومة في عموم البلاد.
وبمراجعة قوائم الفائزين في الانتخابات البلدية السابقة، عام 2014، يتبيّن فوز شخصيات كردية (تمثل حزب السلام والديمقراطية ومؤتمر المجتمع الديمقراطي) بعدد من المدن المهمة (ماردين، باتمان، تبليس، آمد، هكاري، سرت، ديرسم، وان، شرناخ، آغدير وآغري).
حكومات ما قبل “العدالة”
تداعيات كارثة الزلزال جعلت البعض لا يتوقف أمام تصريح مهم لوزير العمران والبيئة والتغير المناخي، مراد قوروم، تكشف عن شراكة حكومات ورؤساء بلديات سابقين في المسؤولية عن الكارثة، بعدما أكّد أن “معظم الأبنية المنهارة بُنيت بين عامَي 1999 و2000”.
أوضح الوزير التركي أنه “بعد عملية تقييم أولية لما يقارب 200 ألف مبنى، يتعيّن هدم أكثر من 50 ألف مبنى بشكل فوري، لتضررها من الزلزال”، فيما تشير تقديرات اتحاد الشركات والأعمال التركي إلى أن “الزلزال دمّر مباني سكنية بحوالي 70.8 مليار دولار”.
وبحكم الصلاحيات، فالمسؤول الأول عن متابعة مخالفات البناء هو البلديات الفرعية، كونها الجهة التي تصدر تراخيص البناء، وهو الإذن المكتوب الذي يصدره الجهاز البلدي وفق أحكام نظام إجراءات التراخيص البلدية ولائحته التنفيذية.
البلديات معنية بمتابعة تطبيق الكود ومراقبته، ومتابعة أعمال التفتيش والاختبارات اللازمة أثناء تنفيذ أعمال البناء
وممّا يفاقم مسؤولية البلديات الفرعية، أنها الجهة المعنية أيضًا بإصدار شهادات الإشغال، ويشمل ذلك كل إذن بإشغال المبنى بعد التأكُّد من مطابقة المبنى لكود البناء، الذي هو جزء من صلاحيات البلديات المعنية بالبناء والترميم والهدم والتعديل.
كما أن البلديات معنية بمتابعة تطبيق الكود ومراقبته، ومتابعة أعمال التفتيش والاختبارات اللازمة أثناء تنفيذ أعمال البناء، والموافقة على إيصال الخدمات العامة الدائمة والمؤقتة، وحفظ سجلّات البناء والمراقبة والتفتيش والضبط والعقوبات.
والبلديات معنية أيضًا ببناء قاعدة بيانات بالمكاتب الهندسية والمؤسسات والشركات المرخّصة بمزاولة أعمال البناء والجهات المعتمدة لتدقيق المخططات والتفتيش على المباني، والأهم تعيين جهات التفتيش وفق اختصاصها في الكود.
الحكومة تسابق الزمن
وزير العمران والبيئة والتغير المناخي، مراد قوروم، أكّد (من ولاية غازي عنتاب) أن “تركيا تستعدّ لإطلاق أكبر حملة إسكان في تاريخها في 10 ولايات تضررت من الزلازل.. سنقوم بسرعة بهدم البنايات التي تحتاج للهدم، ونبني منازل آمنة”.
يتزامن هذا الإعلان مع مبادرة السلطات المختصة، عقب زلزال قهرمان مرعش، بفتح تحقيقات عاجلة في ملف العقارات المخالفة لكود البناء والزلازل، واحتجاز عشرات المطوّرين العقاريين (وفقًا لنائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي).
التحقيقات تشمل المطورين الذين انهارت مشاريعهم العقارية، خاصة أن شريحة منهم روّجت خلال تسويق المشاريع السكنية والتجارية أنها “مقاومة للزلازل”، فيما تعهّدت الرئاسة التركية بإجراء تحقيق موسّع، يشمل كل من تقاطع مع ملف مخلفات البناء.
255 من المقاولين يخضعون للتحقيق بشأن مخالفات البناء في المناطق المنكوبة جرّاء الزلزال المزدوج
الجهات المعنية بالتحقيق في ملف مخالفات كود البناء، تشمل الجهات الحكومية وفقًا لاختصاصها بمراقبة تطبيق الكود، بداية من وزارة الإسكان والداخلية (ممثلة في المديرية العامة للدفاع المدني) والطاقة، والجهات المعنية بالرقابة على المواصفات والجودة.
وتفاقمت أعداد الضحايا خلال زلزال قهرمان مرعش وتوابعه المدمرة، التي تسبّبت في انهيار وتضرُّر أكثر من 24 مليون مبنى في الولايات المتضررة (قهرمان مرعش، هاتاي، غازي عنتاب، عثمانية، ملاطية، أضنة، ديار بكر، شانلي أورفا، أديامان وكيليس).
شدد نائب الرئيس التركي، فؤاد أقطاي، على أن الحكومة والجهات القضائية في “وزارة العدل أنشأت مكاتب تحقيق في جرائم الزلزال بالأقاليم المتضررة للتحري بشأن حالات الوفيات والإصابات.. ستتابع ملف مخالفات وعيوب المباني إلى أن تنتهي العملية القضائية اللازمة”.
ملاحقة كل المخالفين
أمرت وزارة العدل التركية وكلاء النائب العام في الولايات العشر، المتضررة من كارثة المباني المهدمة خلال الزلزال، بفتح تحقيقات في هذه الجرائم، وملاحقة المسؤولين عن إقامة أبنية مخالفة للمواصفات ما تسبّب في انهيارها.
وقال وزير العدل التركي، بكر بوزداغ، إن “255 من المقاولين يخضعون للتحقيق بشأن مخالفات البناء في المناطق المنكوبة جرّاء الزلزال المزدوج، الذي أسفر عن مقتل 36 ألفًا و187، وإصابة أكثر من 108 آلاف، فضلًا عن تدمير عشرات الآلاف من المباني”.
وأوضح (في مؤتمر صحفي بمدينة ديار بكر) أن “التحقيقات في المباني المنهارة تشمل الموظفين الذين وافقوا على التراخيص، وإذا تبيّن وجود إهمال أو خلل في إنشاء المباني المنهارة فستتمّ معاقبة كل المخالفين، وأن السلطات ستقوم بواجباتها لمحاسبة المقصّرين”.
ونبّه وزير العدل إلى أن “إجراءات المنع من السفر مجرد بداية في مواجهة المسؤولين عن مخالفات البناء، خاصة في ديار بكر، إلى جانب إجراءات قانونية أخرى”، ويأتي هذا فيما اكتشف محقّقون عيوبًا مادية خطيرة في الإنشاءات بولاية شانلي أورفا تتعلق بـ”مواد البناء”.
بدوره، قال وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، إن “نحو نصف المباني بولاية هاتاي جنوب البلاد إمّا انهارت وإمّا لحقت بها أضرار جسيمة وإمّا تحتاج للهدم بسرعة، كما أن 50% من مباني ولاية أنطاليا سيتمّ إزالتها لعدم صلاحيتها.. قادرون على إعادة الإعمار خلال عام”.
قرارات رسمية.. ولكن
رسميًّا، تطبّق الحكومة التركية (كالعديد من دول العالم الواقعة في نطاق الأحزمة الزلزالية) كود البناء الخاص بالزلزال (مواصفات) بعد تحديثه منذ عام 2018، حرصًا (كما هو معلن) على الأبنية المقاومة للزلازل، والحد من المخاطر.
وكود البناء يتضمّن اشتراطات إدارية، ومتطلبات معمارية إنشائية وكهربائية وميكانيكية وصحية مقاومة الزلازل، كما ترشيد الطاقة والمياه، والحماية من الحريق، والمواصفات القياسية المرجعية، واشتراطات المباني السكنية، وكل ما تصدره الجهات المعنية.
الكود يهدف إلى الحد الأدنى من المتطلبات والاشتراطات المحقّقة للسلامة والصحة العامة، عبر متانة واستقرار وثبات المباني والمنشآت، ومراعاة الوصول الشامل وتوفير البيئة الصحية والإضاءة والتهوية الكافية، وترشيد المياه والطاقة وحماية الأرواح والممتلكات من أخطار الزلازل وغيرها.
يستهدف كود البناء الخاص بالزلزال التزام الإنشاءات بتحمُّل الهزات والارتجاجات عند وقوع الزلازل بنسبة مئوية على مقياس ريختر
وكود الزلازل، الذي يعدّ امتدادًا للمعايير والتشريعات المعتمَدة منذ زلزال مرمرة (تسبّب في مقتل أكثر من 17 ألف قتيل شخص عام 1999)، كان يفترَض التزام المطورين العقاريين وشركات المقاولات به، خاصة في بعض الولايات الواقعة في نطاق الزلازل.
والأبنية المقاومة للزلازل تحكمها منظومة شاملة، تراعي في الإنشاءات الأبحاث والدراسات المسبقة للتربة المخصّصة للبناء، والمواد المستخدَمة في تأسيس الإنشاءات، ومكونات المبنى، لا سيما وضع عوازل التمدد والهبوط، والفواصل الزلزالية في الطوابق العليا.
كما تراعي الأبنية المقاومة للزلازل الأحمال والأوزان الذاتية التي ستحملها الطوابق بدقة متناهية، والأبواب والنوافذ، مع الالتزام بمعايير حماية الجدران من التصدُّع أو التهدُّم، وكل ما يلزم لسلامة المباني النسبية من الكوارث الطبيعية.
ويستهدف كود البناء الخاص بالزلزال التزام الإنشاءات بتحمُّل الهزات والارتجاجات عند وقوع الزلازل بنسبة مئوية على مقياس ريختر، عبر قوة مفاصل البناء وقدرتها على امتصاص الضغط الزلزالي، وتخفيف أضرار الصدمات الزلزالية.
الاهتمام الشامل بالمباني
لا يتوقف الاهتمام بكود البناء على السكني فقط، بل يشمل ذلك جميع المباني، عبر المسح الهندسي المتخصّص لمعرفة أكثر الأماكن عرضة للهزات الأرضية، من أجل تعزيزها بالتدعيمات أو تصميمها بطريقة مرنة، تحميها نسبيًّا من الهزات الأرضية المتوسطة.
وهناك عدة معايير ضرورية تحتاجها المباني المضادة للزلازل (بحسب Csengineermag)، تشمل الأساس المرن عبر إقامة المباني على أسناد تثبيت مفصولة عن الأرضية.. أنظمة تخميد لتعزيز الأبنية المرتفعة لحمايتها عند الاهتزاز عبر القوة العكسية للحركة الزلزالية.
ولا بدَّ أن يراعى في المباني المقاومة للزلازل تصريف المياه، الذي يفاقم حجم الدمار عند وقوع الزلزال، وتقوية المباني بما يسمح بتوزيع عملية الاهتزاز، واستخدام مواد مرنة لامتصاص الصدمة والحد من حجم الدمار.
تركّز الإنشاءات المقاومة للزلازل على اختيار النظام الإنشائي المناسب، مثل التصميم الرأسي للمبنى حتى يقاوم الأحمال الميتة، كالخراسانات والأعمدة والأرضيات والحوائط، والأحمال الحية، كالأثاث والمفروشات والمستخدمين للمبنى.
قواعد يجرى تحديثها
بادرت تركيا، منذ مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، بمراجعة قواعد واشتراطات البناء، وتواصلت عملية تحديث الاشتراطات أكثر من 10 مرات، آخرها تحديث عام 2018 الذي ركّز على عدة معايير للسلامة.
تهتم هذه المعايير بالتربة والتراخيص الشاملة، وتحظى المناطق الحيوية في تركيا، تحديدًا، كإسطنبول (المسؤولة عن 27% من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا، وتساهم ضرائبها بنسبة 40% من ميزانية الدولة) باهتمام كبير فيما يتعلق باشتراطات البناء.
وبموجب مشروع إسطنبول للحدّ من مخاطر الزلازل والتجهيز لحالات الطوارئ (ISMEP) المطبَّق منذ عام 2006، يجري فحص المباني العامة ورفع كفاءتها، وتأهيل المواطنين لحالة الطوارئ، وكيفية الاستجابة.
كما يشمل المشروع كيفية تطبيق كود الزلزال على المباني الخاصة والعامة، عبر تقييم عمليات تصاريح البناء وعمليات التفتيش، وقد طبّقت تركيا معايير بناء جديدة، تنبع من اللوائح الخاصة بها من تجارب الزلازل المدمرة عالميًّا.
مقاولون يفضّلون التلاعب
وبحكم التحقيقات الجارية، حاليًّا، مع المخالفين في تركيا، فقد تبيّن أنه جرى التساهل في تطبيق اشتراطات البناء (المواصفات أو الأكواد التي يتم تحديثها باستمرار) من قبل شريحة من شركات البناء والمقاولين، الذين يعملون في قطاع التشييد والبناء.
تشمل المخالفات تجاوز المعايير الفنية المتعلقة بالإنشاءات، ومتطلبات معالجة التربة والالتزام بجودة الخامات، حتى تقاوم أنواع الزلازل (الأفقية، العمودية، الارتجاجية والدورانية)، لكن مهما كانت المعايير الإنشائية فهي لا تصمد أمام الزلازل شديدة القوة.
وإلى جانب تجاوزات تطبيق تشريعات البناء، تظهر مشكلة الإعفاءات القانونية للأبنية المخالفة، التي يجري تمديدها منذ ستينيات القرن الماضي، عبر إصدار عفو عام بشكل دوري للمباني التي تمَّ تشييدها من دون شهادات السلامة المطلوبة حتى عام 2018.
ويرى رئيس اتحاد غرف المهندسين الأتراك، بيلين بينار جيريتلي أوغلو، ضرورة وقف قرارات العفو المذكورة، خاصة أن عشرات الآلاف من المباني في الولايات المتضررة بالجنوب حصلت على قرارات عفو (الترخيص بأثر رجعي للمباني غير القانونية مقابل رسوم).
الخطوة التالية
وفقًا للتصريحات الوزارية التركية، هناك نوعان من التعامل مع ملف المباني في الولايات الجنوبية المتضررة، الأول علاج وإصلاح المباني، عبر إعادة تأمين المقاومة الأساسية اللازمة للعناصر الإنشائية للمبنى المتضرر، بعد الوقوف على طبيعة ودرجة الدمار.
تتم هذه الخطوة بعد تقييم أوّلي للمباني عبر فرق مختصة لتحديد الأضرار وإجراءات السلامة، بينما الخطوة الثانية تشمل التقوية والتدعيم (تعديل وتصحيح مقاومة وصلابة العناصر الإنشائية منفردة أو الجملة الإنشائية ككل، لتحسين أداء المبنى ضد الزلازل لاحقًا).
يأتي هذا فيما أعلنت هيئة إدارة الكوارث والإغاثة التركية “إنقاذ ونقل 216 ألفًا و347 من سكان المناطق المنكوبة إلى ولايات أخرى، وأنه تمَّ الانتهاء من نصب أكثر من 172 ألف خيمة لإيواء المتضررين في مختلف المناطق التي تعرّضت للزلازل”.
حدود التصدي للكارثة
يشير مختصون إلى أن “المباني المشيَّدة بشكل صحيح، يمكنها الصمود في مواجهة مستويات محددة من الاهتزاز الناتجة عن الزلازل، حتى إذا كانت متوسطة الشدة”، غير أن الرئيس التركي أكّد أن “الطاقة المنبعثة من الزلزال تعادل قنابل نووية، وفقًا لمختصين في شؤون الزلازل”.
وأوضح الرئيس رجب طيب أردوغان، في كلمة مسجّلة خلال القمة العالمية للحكومات بدبي، أن “كارثة الزلزال التركي شعر بها من يعيشون على مساحة 1000 كيلومتر.. تسبّب في دمار فعلي لمساحة تصل إلى 500 كيلومتر، إنها واحدة من أكبر كوارث الطبيعة عالميًّا”.
وقالت هيئة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد) إن “الزلزال الذي تعرّضت له تركيا يعدّ الأكبر في منطقة الأناضول منذ عام 2000″، وأكّد نائب رئيس الهيئة، أورهان تتار، أن “القشرة الأرضية تحركت بمقدار 7.3 أمتار إثر زلزال قهرمان مرعش”.
وكشف نائب رئيس الهيئة (في مؤتمر صحفي بأنقرة) أن “قشرة الأرض اهتزت بشدة لمدة دقيقتَين، خلال الزلزالَين اللذين يتراوح عمقهما بين 8.5 و10 كيلومترات تحت سطح الأرض، وأنهما ضربا مساحة واسعة من تركيا، تعدّ أكبر من مساحة عدة بلدان عالميًّا”.
التأمينات.. وقائمة مستحقيها
موقع تركيا الجغرافي يجعل بعض مناطقها عرضة للزلازل، كونها تقع بين الصفائح التكتونية والأوراسية، لذا تعمل الحكومة التركية على الحد من الخسائر عبر “تأمين الزلازل” المعمول به منذ زلزال مرمرة عام 1999، حيث تختلف قيمته باختلاف مساحة العقار وعمره.
والتأمين الإجباري ضد الزلازل (DASK) الذي أقرّته الحكومة منذ زلزال عام 1999، يغطي أضرار الأبنية بعد الزلازل (الحرائق، الانفجارات، الانهيارات، أساسات البناء والجدران وغيرها)، ويتم صرفه خلال 30 يومًا بعد الانتهاء من تقييم الأضرار.
يشمل التأمين المباني السكنية والمكاتب والمباني قيد الإنشاء، والعقارات المستقلة الخاضعة لقانون الملكية الطابقية، لكنه لا يشمل المباني المخالفة لمعايير البناء القانونية، والمباني المبنية دون تخطيط هندسي مُسبق، والمباني المستخدَمة للخدمة العامة، والمباني المهجورة.
ويخصَّص التأمين لتغطية تكاليف البناء المتضرر (جزئيًّا أو كليًّا) في الأبنية التي تدخل حيّز تأمين الزلازل في تركيا، بموجب القانون 6035 للتأمين ضدّ الكوارث الطبيعية، تحديدًا الأبنية السكنية التى لها وثيقة ملكية (بموجب دائرة الطابو) بناء على حجم المبنى وشكله.
قوة الزلزال.. والقصور
المؤكد أن قوة زلزال قهرمان مرعش وتوابعه زادتا من حجم الخسائر البشرية والمادية، لكن هذا لا يخفي وجود قصور نسبي من السلطات المحلية (البلديات التابعة للولايات التركية جنوب البلاد) في تطبيق كود البناء المقاوم للزلازل.
ويتوقع مراقبون أن يُلقي الزلزال المدمّر بتداعياته على سوق العقارات خلال الفترة المقبلة، خاصة عند اتخاذ قرارات شراء الوحدات، واحتمالات انخفاض أسعار البيع والإيجار والتمليك، على الأقل خلال الحركة النشطة للزلازل وتوابعه.
لذا، ستكون حماية البنايات من الزلازل من الملفات المهمة قبل إنشاء أي مشروع سكني في تركيا، كما أن المستثمرين قبل إقبالهم على شراء عقار في تركيا سيبحثون عن البنايات المضادة للزلازل.
وسيتم الحرص خلال الإنشاءات على شروط وضوابط الحماية من الزلازل، عبر طُرق الحماية من الزلازل في تركيا، بداية من تشديد التشريعات واللوائح والإجراءات الحكومية الموجّهة للبلديات، حتى تطبِّق بحزم كود الحماية من الزلازل، لكن لا بدَّ أن يكون التأمين إجباريًّا في عموم البلاد.
ووفق كارثة الزلزال التركي-السوري، بدأت العديد من دول الشرق الأوسط في مراجعة تقنيات وأكواد البناء للمباني والمنشآت بما يتماشى مع الهزات الأرضية المتكررة، تجنّبًا لكوارث مستقبلية.
وأوضحت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن أنظمة البناء المعتمدة في الإقليم، يجب أن تراعي المخاطر الكبرى التي قد تنجم عن الزلازل، عبر إعادة النظر في اشتراطات البناء مستقبلًا، لا سيما الارتفاعات والخامات والتصميمات المضادة للزلازل، للحدّ من الخسائر.
صراع مع الطبيعة
يرى مختصون أن انهيار وتضرر عدد كبير من المباني في الولايات المتضررة بالجنوب التركي، يعود إلى شدة ومدة الزلزال وعدد هزاته الارتدادية ودرجة قوته، ما يجعل من الصعب جدًّا مواجهته، حتى لو حدث في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
ويؤكدون أنه رغم تحديث تركيا كود البناء الخاص بها لمواجهة الزلازل والهزات الأرضية، فإن زلزالًا بهذه القوة كان يتطلب تكلفة مادية باهظة لمواجهته، وهو ما لا يمكن أن تتحمّله جميع المباني الحديثة، خاصة مع قوته وزيادة مدته وعدد هزاته الارتدادية.
ويختلف كود البناء وفقًا لمنطقة خطورة الشدة الزلزالية، التي يجرى تقسيمها إلى عدة نطاقات، حتى يكون تصميم المباني له تأثير واضح في أحماله ومواجهته للزلازل والهزات الأرضية، ومع ذلك كلما زادت شدة الزلزال ومدّته كلما كان من الصعب تحمُّل المنشآت لقوتها.
– وزير البيئة التركي يتحدث عن تقييم المنازل المهدمة –
وفي منتصف مارس/ آذار 2022، ضرب زلزال شمال شرقي اليابان بقوة 7.3 درجات على مقياس ريختر، أدّى إلى قطع الكهرباء عن مليونَي منزل (700 ألف منزل في طوكيو، و156 ألفًا شمال شرق اليابان)، بعد زلزال توهوكو عام 2011.
زلزال 2011 قتل 18 ألف شخص، كما دمّر محطة فوكوشيما النووية، وأدى إلى موجات تسونامي مدمّرة، رغم حرص اليابان على إنشاء مبانٍ مقاومة للزلازل بعد كارثة كانتو عام 1923، إذ تسبّب زلزال قوته 7.9 ريختر في تدمير طوكيو ويوكوهاما، ومقتل 140 ألف شخص.
ويبقى أن وقوع زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر في 6 فبراير/ شباط الجاري في ولاية قهرمان مرعش، وآخر بعده بساعات قوته 7.5 درجات في عدة ولايات بالجنوب التركي، فضلًا عن مئات التوابع (الهزات الارتدادية) اللاحقة، تؤسّس لواقع جديد في تركيا.