يضغط اللاعبون الكبار على الساحة الليبية نحو تنظيم الاستحقاق الانتخابي هذا العام، فيفاجئ رئيس البرلمان، عقيلة صالح، الفرقاء بإقرار تعديل دستوري جديد، ليُبرك المشهد السياسي، فيردّ عليه المبعوث الأممي باتيلي بضرورة توضيح المواقف.
محاولة معتادة للتملُّص من مستحقات المرحلة، قد تخدم أجندة البرلمان ومجلس الدولة للتمديد لنفسيهما والإطاحة بمشروع الانتخابات برمّته، فهل يلجأ المبعوث الأممي إلى إشهار خطة تتجاوزهما، وتحرق أوراق العبث اللامتناهي في إقرار دستور انتخابي؟
مراوغة جديدة
كعادته في المراوغات السياسية، يبدو قرار رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، بتعديل الدستور المؤقت للمرة الثالثة عشرة، محاولة لرمي الكرة في ملعب المجلس الأعلى للدولة، وربما تحميله مسؤولية فشل أي خيار، في الوقت الذي تضغط فيه القوى المتدخلة في الشأن الليبي لتنظيم انتخابات عامة هذه السنة.
تلاعُب عقيلة بالبرلمان وإدارته لتفاصيل المشهد النيابي، يؤكد اعتماده السياسة القديمة نفسها في محاولة لإيهام الناس بالرغبة في تغيير المشهد السياسي لتلبية الدعوات لانتخابات جديدة.
أسلوب آخر يرمي عقيلة من خلاله للسعي نحو تفصيل قوانين انتخابية على مقاس حليفه حفتر، بعد الجلسة التي لم تنقلها الشاشات كما كان مفترضًا.
لذلك سارع عقيلة عبر كتلته إلى لملمة جلسة إقرار التعديل الدستوري، حيث لم تكد تفصل بين طرح التعديل وإقراره دون نصاب سوى ساعات معدودة.
تعديل دستوري في غرفة مظلمة دون وجود أي تفاصيل ولا مصداقية حول علمية التصويت وعدد الحضور، يؤكد عقيلة صالح من جديد أن مجلس النواب ملك شخصي له وأنه لا يضع أي اعتبار للشفافية واحترم الشعب الذي كان يتنظر الجلسة على الهواء ليرى كيفية التصويت والحضور . نفق آخر وليس الآخير طبعا pic.twitter.com/5BrlYCols9
— موسى تيهوساي Mussa Tehusai (@ALTEHOSAI122) February 7, 2023
تتم هذه التجاوزات بزعم تلافي أي مخاطر محدقة بالفراغ الدستوري، والحال أن البرلمان هو المسؤول الأول عن توفير هذه الفراغات، بل وراء إيجادها لغايات الهدف منها هو الابتزاز السياسي للمجلس الاستشاري بقيادة خالد المشري.
وتتخذ مظاهر الابتزاز تلك عدة أشكال، تارة في شكل توافقات جرت في طبرق والرجمة، وتارة أخرى عبر اختراقات أو تفاهمات تحت الطاولة، من ذلك تصريح عقيلة عن إعطائه مجلس الدولة نسخة من القانون المعدّل، بعد التفاهم على معظم نقاط القاعدة الدستورية، وتأجيل النظر في القضايا الحاسمة.
رغم ذلك، تسود أجواء من الحيطة والحذر خشية تعمُّد عقيلة سياسة المخاتلة مجددًا، وذلك قبيل انعقاد جلسة مجلس الأمن آخر شهر فبراير/ شباط الجاري، ليسحب البساط من تحت المبعوث الأممي باتيلي، الذي من الممكن أن يعلن مبادرة تتجاوز عقيلة صالح خلال الإحاطة المقبلة.
تبادُل أدوار
في المقابل، يبدو رئيس المجلس الأعلى للدولة موافقًا على التعديل الدستوري في لعبة تبادل أدوار تساير البرلمان، بهدف إطالة أمد الحقبة الانتقالية ومواصلة الاستفادة من الامتيازات السياسية، بقدر يديم بقاءهم في السلطة لأطول حدّ ممكن.
من جهة ثانية، ستسعى السلطات المصرية إلى عرقلة كل الجهود التي لا تضمن تمرير أي قاعدة دستورية تستبعد ترشح خليفة حفتر للاستحقاق الرئاسي الليبي، نظرًا إلى عدة عوامل بعد خيباته في الاستيلاء على السلطة عبر العمل العسكري.
#بنغازي
اجتماع رباعي بين #عقيلة و #المنفي و #مجرم_الحرب_حفتر و #عباس_كامل في بنينا
حضور المخابرات المصرية لإعطائهم الأوامر ولأنها هي الراعي الرسمي لتفاقم الازمة في ليبيا pic.twitter.com/Wt2RWjVowl
— Mohamed Ben Ameer (@Mohamed_7302) February 14, 2023
وتنسَّق كل المساعي المصرية على أعلى المستويات، من جهاز الاستخبارات ورجله الأول عباس كامل، الذي يفضّل حفتر كرجل قوي، وظلَّ ينظر إليه بصفته قادرًا على رد مخاطر موجات الربيع العربي الزاحفة من المنطقة الغربية، بعد تهجّمه مرارًا على الحكومة المعترَف بها أمميًّا في طرابلس.
وتسعى القاهرة أيضًا إلى التأثير على القرار الدستوري الليبي من خلال اختيارها مقرًّا لجلسات المسار الدستوري ضمن حوار جنيف الأممي، لقيادة حملات دعم قوية لعقيلة الذي ينفّذ سياسات حفتر، لضمان عدم إقصائه من شروط الترشُّح للانتخابات المقبلة.
لذلك ظلَّ شرطا ازدواجية الجنسية وترشح العسكريين من الثوابت بالمعسكر الشرقي الذي يطيح بأي حوار، وهو السبب الرئيسي في تأجيل الانتخابات بعد موعدها في ديسمبر/ كانون الأول قبل عامَين.
تأبيد الوضع الانتقالي
تنمّ سياسات عقيلة صالح المتكررة انتهاجه سبيل التأجيل في ما يخصّ الاستحقاق الانتخابي، لمنح شرعية جديدة للمجلس النيابي مستوفي الشرعية، وبالتالي استعادة التموقع السياسي.
وهو تمشٍّ ليس بالجديد، بعد أن بارك تجميد حفتر للإعلان الدستوري بأكمله خلال انقلابه عام 2014، فضلًا عن رفضه عرض نسخة الدستور الحاضرة منذ عام 2017 على الاستفتاء الشعبي.
شعارنا في ذكرى ثورة 17فبراير المباركة هو الإستفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية?? pic.twitter.com/Ciig6a4K6u
— Haman king.✌️.?? (@king_haman81) January 30, 2023
نفس مشروع الشد إلى الوراء سيمضي فيه عقيلة لتعطيل المشروع الانتخابي، من أجل محاولة حقن الناس بجرعات جديدة من التثبيط لقتل أي رغبة في التغيير، وهو المطلب الرئيسي للقطع مع الرموز القديمة التي كانت أحد أحلام الثورة.
لذا لن ينفك في الالتفاف على العملية الانتخابية عبر خلق مسار جديد، وهو الترويج لحكومة وحدة انتقالية جديدة بزعم قيادة مرحلة تمهيدية تفضي إلى انتخاب جسم جديد.
لكن هذا الاختيار سيفتح باب الجحيم على مصراعَيه، لكون حكومة الوحدة الحالية ممثلة في رئيسها الدبيبة لن ترضى بذلك، وستصرُّ بكل الأثمان، ولو تطلّب مواجهة عسكرية، على البقاء بالمشهد إلى حين تسليم السلطة لحكومة منتخَبة.
ذلك يجعلنا نذكّر برفض الدبيبة استقبال حكومة باشاغا، أو رفض تعديلها حتى، فضلًا عن رفض قيام أي بديل رغم ما أُشيع عن إمكانية قيام توليفة حكومية مع أبناء حفتر لتثبيت الهدنة العسكرية، عبر تعديل حكومي تباركه الإمارات ومصر في إطار توحيد العمل العسكري على الأرض، لإخراج المرتزقة والأجانب.
انتخابات مهدَّدة
في ظلّ غياب توافقات سياسية على مرحلة معيّنة أو على قاعدة متينة للانتخابات، تظل الأخيرة مهدَّدة بعدم إجرائها من جديد.
ذلك يستوجب على النخب التي ناصرت الثورة عند انطلاقتها أن تشخّص المرض لعلاجه، مصداقًا لقول المفكر الليبي الراحل الصادق النهيوم، إن “الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة، تموت نتيجة تناول الدواء الخاطئ”.
#يسقط_مجلسي_الدولة_والنواب
هذه الأجسام الفاقدة للشرعية لا يحق لها إجراء أي #تعديل_دستوري أو تغيير #المناصب_السيادية
كل من يناقش ما يصدر عنهما يعترف بشرعيتهما ومن يصر على انهم يملكون الحل يريد استمرار الوضع على ما هو عليه
يجب العمل على تجاوزهما والتوجه نحو #انتخابات_برلمانية_فقط
— Fairouz Naas فيروز النعاس (@FairouzNaas) February 8, 2023
هذه العتمة لن يحلّها إلا تفاهم بين مجلسَي النواب والدولة، باعتماد قوانين انتخابية لها حظوة وتتمتع بثقة الجميع، ما يزيد في شفافية النتائج، خاصة أن أي طرف قادر على تهديد سير العملية الانتخابية في الشرق أو الجنوب أو الغرب، إذا لم تتوفر الإرادة والتوافقات اللازمة.
ذلك حتمًا سيؤدي إلى سيناريو ثانٍ، وهو انتقال عبد الله باتيلي إلى المرحلة الثانية، بإعلان خطته بشأن تنظيم انتخابات وتحديد ملامح الفترة المقبلة، بعيدًا عن رأي مجلسَي النواب والدولة بعد استنفاذ حلولهما، وهو ما جعله يطالب صراحة عقيلة والمشري بموقف واضح.
فأي قوانين انتخابية تمنح حق ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية ستُفشل الاستحقاق الانتخابي، لرفض قطاع واسع فكرة حكم العسكريين للبلاد، فضلًا عن تلطُّخ مسيرة حفتر كونه أسير حرب سابق، ولديه ملفات جنائية واتهامات بارتكاب جرائم حرب.
هذه الاتهامات تشمل سيف الإسلام نجل القذافي، الذي أطاح ترشحه بالموعد الانتخابي الأخير أيضًا، ولا تزال المحكمة الجنائية الدولية تطالب بالقبض عليه في علاقة بجرائم ضد الإنسانية.
سيستمر الغموض سيد الموقف حتى يُبدي المجلس الأعلى للدولة موقفه بشكل واضح من التعديل الدستوري الجديد، قبل تبيُّن حقيقة تغيير شروط الترشح للانتخابات من عدمه.
ومجرد ترشُّح هؤلاء يعدّ وفق الكثيرين نسفًا للعملية الانتخابية، وإعادة لتجربة فاشلة، خاصة أنهما لا يعترفان بها ويعتبران الانتخابات مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة.
وتذهب التوقعات نحو المضيّ في منع سيف الإسلام من الترشح لأي منصب سياسي، وهو ما سرّبته مؤخرًا جهات بريطانية، تلقّفه المجلس العسكري بالزنتان والعاصمة اللذان نظّما ملتقى للثوار طالبوا خلاله بالوحدة في وجه ترشح سيف الإسلام.
وبناءً على ذلك قد تكون الصفقة بين المجلس النيابي والاستشاري جاهزة للبقاء في السلطة، بما يضمن ترشح حفتر وإقصاء سيف الإسلام، على أن يتمَّ فرز جسم تشريعي جديد لسنّ دستور دائم ويمنع عودة الاستبداد، دون الحاجة إلى عودة الصراع العسكري بالنظر إلى تكافُؤ القوى على الأرض.
وبشكل عام، سيستمر الغموض سيد الموقف حتى يُبدي المجلس الأعلى للدولة موقفه بشكل واضح من التعديل الدستوري الجديد، قبل تبيُّن حقيقة تغيير شروط الترشح للانتخابات من عدمه، ما يعني التوجه نحو شراكات سياسية جديدة، تنتج عنها مرحلة جديدة تقطع مع الانتقالية وشبه دائمة، قبل إعلان انتخابات تحظى بالنزاهة والشفافية.
وذلك حلم الثورة الذي يجب الاصطبار عليه، فكيف سيكون حال ليبيا اليوم (وبقية بلدان الثورات) لو استمرَّ قطار الإصلاح الذي بدأ مع الاستقلال؟