كشف زلزال سوريا وتركيا عن مدى الاستعصاء والشرخ الواسع في عملية الاستجابة الطارئة للشمال السوري، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين من الزلزال الذي وقع في 6 فبراير/شباط الحاليّ، مسجلًا في يومه الحادي عشر أكثر من 171 ألف نازح وما يعادل 7.122 عائلة موزعة على 172 مركز إيواء منتشر في إدلب وريف حلب، وفق فريق منسقو استجابة سوريا.
منذ اليوم الأول لحدوث الزلزال ناشد الدفاع المدني السوري المجتمع الدولي لإرسال مساعدات عاجلة ومعدات وآليات ثقيلة تساهم في تسريع عمليات الإنقاذ، إلا أنه ومع عدم الاكتراث للمطالب والنداءات الإنسانية لتوجيه الدعم اللازم لعمليات البحث والإنقاذ وعمليات الإسناد من جهة، وعرقلة إدخال المساعدات طيلة الأيام الأربع الأولى من جهة أخرى، تضاءلت فرص العثور على ناجين، ما شكل صدمة كبيرة للمجتمع المحلي المنكوب، فضلاً عن حالة استياء واسعة تجاه الأمم المتحدة التي تقاعست عن إدخال المساعدات لحين موافقة نظام الأسد على إدخالها من خلال معبرين حدوديين شمال سوريا (الراعي وباب السلامة) رغم عدم سيطرته عليهما.
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويترش، قد أعلن أن بشار الأسد وافق على فتح نقطتين حدوديتين من تركيا إلى شمال غرب سوريا، وأن المعابر في باب السلامة والراعي ستبقى مفتوحة لمده ثلاثة أشهر أمام المساعدات الإنسانية.
من جهته قال منسق الإغاثة الطارئة التابعة للأمم المتحدة الثلاثاء 14 فبراير/شباط الحاليّ، عبر تغريدة له، إن 11 شاحنة تحمل مساعدات دخلت الشمال الغربي عبر باب السلامة و26 شاحنة عبر معبر باب الهوى.
ويأتي فتح معبري باب السلامة والراعي بعد إغلاقهما منذ عام 2020 عندما استخدمت روسيا والصين حق النقض الفيتو ضد تجديد التصريح لباب السلامة، تاركين باب الهوى باعتباره المعبر الوحيد الموافق عليه أمميًا لنقل المساعدات إلى الشمال السوري.
كارثة الزلزال.. بازار سياسي
لجأ نظام الأسد إلى تكتيك سياسي استباقي، بغرض كسب التعاطف الدولي وتصدير فكرة أن العقوبات على نظامه تحد من قدرته على الاستجابة الطارئة للتعامل مع الزلزال، هادفًا من ذلك إلى كسر العزلة السياسية والدبلوماسية ولو بالوقت الحاليّ فقط.
يرى وائل علوان، الباحث في مركز جسور للدراسات الإستراتيجية (مقره تركيا)، في حديثه لـ”نون بوست” أن كارثة الزلزال السورية كانت أكبر من أن يقف المجتمع الدولي دون إجراءات استثنائية، وهذا ما اتضح عبر اعترافات الأمم المتحدة بالتقصير والتخاذل.
مشيرًا إلى أن روسيا عندما علمت بوجود حراك دولي وأن مجلس الأمن لا بد أنه سيتخذ إجراءات استثنائية أوعزت مباشرة لنظام الأسد بأن يستبق الأمر ويقدم تنازلًا سياسيًا لصالحه، لأن المفاوضات داخل مجلس الأمن قد تتجه إلى قرار لا ترغب به روسيا والنظام.
وأوضح علوان أن النظام وروسيا حاولا التصرف وتجنب الإحراج بعيدًا عن وصول النقاشات للجمعية العامة، وهو ما أظهر النظام إعلاميًا على أنه ذو سيادة وأكثر مرونة مع المجتمع الدولي، وتحصيل ثناء مجلس الأمن، كما استطاع بمساعدة روسيا ضبط آلية دخول المساعدات عبر معبري الراعي وباب السلامة، مبتعدًا بذلك عن القبول بأي شرط أوسع لا يلبي أهدافه.
مساعدات أممية خجولة
لا يبدو أن المساعدات الأممية التي بدأت بالدخول بعد أربعة أيام من وقوع الزلزال (دعم بقيمة 50 مليون دولار منذ بدء تدخلها)، ستلبي احتياجات المناطق المنكوبة شمال غرب سوريا، فما زالت تلك المساعدات ضمن الحدود الدنيا، حيث سجلت المساعدات الأممية 25% من إجمالي المساعدات، فيما سجلت المساعدات الأخرى من المنظمات المحلية والتركية ما نسبته 75%، كما بلغ عدد الشاحنات الداخلة للشمال الغربي السوري خلال أسبوع واحد 114 شاحنة، منها 93% عبر معبر باب الهوى فقط رغم افتتاح معبرين إضافيين هما: باب السلامة الذي لوحظ دخول قافلة واحدة منه، ومعبر الراعي الذي لم يدخل عبره حتى الآن أي مساعدات، علمًا بأن المنطقة التي يغطيها معبر الراعي تضم أكثر من 600 ألف مدني، تضرر أكثر من ثلثهم من الزلزال الأخير، بالمقابل فإن نظام الأسد حصل على 98% من المساعدات الخاصة بمنكوبي الزلزال، رغم أن نسبة المتضررين في مناطقه لا تتجاوز 12% مقابل 88% في مناطق شمال غرب سوريا.
يقرّ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث، بخذلان الناس شمال غرب سوريا وأنهم محقون في الشعور بالتخلي عنهم، مضيفًا في تغريدة له على تويتر الأحد “أبحث عن المساعدة الدولية التي لم تصل، واجبي هو تصحيح الفشل بأسرع وقت ممكن. هذا هو تركيزي الآن”.
بالمقابل قالت منظمة الصحة العالمية، الأربعاء 15 فبراير/شباط الحاليّ، إنها قلقة بشكل خاص بشأن وضع السكان في منطقة شمال غرب سوريا التي تعاني شحًا في تدفق المساعدات منذ الزلزال الذي وقع الأسبوع الماضي.
النظام مستقبلاً سيتابع عملية الاستغلال السياسي مع ما يقابله من التواطؤ الدولي الحاصل ليطلب من الأمم المتحدة إعادة الإعمار
كما صرح مايك راين، المدير التنفيذي لبرنامج المنظمة للطوارئ الصحية في إفادة صحفية في جنيف، إنه من الواضح أن المنطقة التي تثير أعلى مستويات القلق حاليًّا هي شمال غرب سوريا، جاء تصريح راين بالتزامن مع إصدار مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” تقريرًا يتناول التطورات في شمال غرب سوريا ومنطقة رأس العين وتل أبيض، عقب كارثة الزلزال.
يصف المعتصم الكيلاني، المتخصص في القانون الجنائي الدولي والباحث القانوني في المركز الأمريكي لدراسات الشرق الأوسط، استجابة الأمم المتحدة لحالة الطوارئ في شمال غرب سوريا تجاه كارثة الزلزال بالمخجلة جدًا والمعيبة، داعيًا للوقوف على هذا التقصير وفتح باب المساءلة، لأن التقصير أدى لبطء عمليات الإنقاذ وبالتالي زيادة عدد الضحايا.
وأشار الكيلاني في حديثه لنون بوست، أنه كان بإمكان الأمم المتحدة احتواء كارثة الزلزال وتخطي الإجراء المتعلق بموافقة النظام أو طلب اجتماع طارئ للجمعية العمومية للأمم المتحدة، وأن تطلب التصويت على “الاتحاد من أجل السلام”، وهي آلية يتم اللجوء إليها في حالة الكوارث أو في حالة استحالة تمرير القرارات في مجلس الأمن بسبب استخدام بعض الدول لحق النقض الفيتو، خاصة أن العقوبات على سوريا كقانون قيصر لا تشمل المساعدات الإنسانية، فضلًا عن أن المساعدات دائمًا ما تدخل عبر معابر غير خاضعة لحكومة دمشق، دون قيد بعد سماح مجلس الأمن لها.
ورأى أن العمل البيروقراطي بات ملاصقًا لطبيعة وآليات عمل الأمم المتحدة الخاضعة بدورها لتأثير الدول الفاعلة كروسيا، التي أرادت تعطيل فتح المعابر وإعطاء الفرصة لنظام الأسد لاتخاذ دور جديد والاستفادة من أول يوم من الكارثة عبر التحرك لإظهاره على أنه لاعب أساسي، قادر على التحكم بملف المساعدات والمعابر.
ولا يستبعد الكيلاني أن يتابع النظام مستقبلًا عملية الاستغلال السياسي مع ما يقابله من التواطؤ الدولي الحاصل ليطلب من الأمم المتحدة إعادة الإعمار لأجزاء واسعة من الجغرافيا السورية التي دمرتها آلته العسكرية بحجة تدميرها جراء الزلزال.
لا مبادرات منفردة
كان بإمكان الأمم المتحدة أن تلجأ إلى الجمعية العمومية بالاستناد إلى القرار 182/46 لعام 1992 الذي ينص على توجيه مساعدات طارئة في أوقات الكوارث والأزمات والنزاعات بما يتماشى مع مبادئ الإنسانية والموضوعية والحيادية عبر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية “الأوتشا”، إلا أنه من الواضح أن المنظمة الأممية ترى في نظام الأسد السلطة الشرعية التي يجب أن تحصل على موافقتها لإدخال المساعدات حتى للمناطق التي يحاصرها ويشن عليها ضربات جوية ومدفعية طوال الوقت.
فقد أعفت وزارة الخزانة الأمريكية، النظام من العقوبات المفروضة بموجب قانون “قيصر” لمدة ستة أشهر، إضافة لمنحها ترخيصًا عامًا يسمح بجميع المعاملات المتعلقة بالإغاثة من الزلزال، التي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات الخاصة بسوريا.
كما أكدت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في دمشق، الخميس 9 فبراير/شباط، على حسابها بتويتر، أن واشنطن تسمح بالأنشطة الداعمة للمساعدات الإنسانية بما فيها المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، وأنها ملتزمة بتوفير المساعدات الإنسانية الفورية والمنقذة للحياة بهدف مساعدة المجتمعات المتضررة على التعافي من الكارثة.
توضيح: لا تستهدف برامج عقوباتنا المساعدات الإنسانية، وتسمح بالأنشطة الداعمة للمساعدات الإنسانية، بما في ذلك في المناطق التي يسيطر عليها النظام. الولايات المتحدة ملتزمة بتوفير المساعدات الإنسانية الفورية والمنقذة للحياة لمساعدة كافة المجتمعات المتضررة على التعافي من هذه الكارثة. pic.twitter.com/BEE41Vtb4i
— U.S. Embassy Syria (@USEmbassySyria) February 9, 2023
يرى الباحث علوان أن سياسة الولايات المتحدة وغيرها من الدول كانت واضحة منذ بداية الثورة السورية، فهي تنسجم مع مصالحها، ومصالحها هي أن تخلق ظروفًا من توازن الضعف بين كل المناطق وكل الفاعلين المحليين، فكل الأطراف المحلية تشهد ضعفًا وتقهقرًا شديدًا، حسب قوله، كما أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تنزع فتيل المشكلات، فهي تريد أن تبقي كل المناطق خاضعة بشكل من أشكال الضغط بما في ذلك النظام الأكثر تأثرًا، لذلك لم تتدخل بشكل حاسم تجاه أزمة الزلزال الإنسانية، بل أبقت الكرة في ملعب الأمم المتحدة.
ولفت علوان أن الموقف الأمريكي واضح في أنه يضيق الخناق على النظام وفق إستراتيجية لم يحد عنها، فهو لا يسمح بمقتله ولا مقتل أي طرف من أطراف النزاع السوري ولا أن ينتصر أيضًا طرف على حساب طرف.
مضيفًا “الولايات المتحدة وغيرها من الدول لا تتدخل بشكل مباشر بمسألة المساعدات، فكل ما يتم تقديمه يكون عبر الأمم المتحدة ومن خلال قنواتها وآلياتها وقراراتها حتى لا تتحمل المسؤولية في أي تطور سياسي محتمل”.
ويظهر لنا من خلال التطورات الميدانية لكارثة الزلزال وكيفية تعامل المجتمع الدولي مع احتياجات المدنيين شمال غرب سوريا أنه ساهم بشكل كبير في تعطيل وصول المساعدات خاصة في الأيام الأولى التي كانت من الممكن أن تحدث فارقًا في إنقاذ حياة المئات، وأن ملف المساعدات الإنسانية انتقل إلى مرحلة تسييس واستغلال سياسي مرهون بالتفاهمات الدولية، مع ما تحمله المنظومة الأممية الراعية لهذا الملف ككل من شللية وبيروقراطية في آليات عملها وقراراتها أمام الحاجات الماسة الإنسانية للاستجابات الطارئة.