أعلنت وزارة الدفاع العراقية، الخميس المنصرم، تفاصيل الهجوم الذي أودى بحياة آمر فوج ومقاتلين اثنين، وإصابة ملازم و4 مقاتلين، فيما تم قتل عناصر مسلحة من تنظيم “داعش” في منطقة الطارمية شمال العاصمة بغداد، بناءً على ورود معلومات استخبارية تفيد بنية عدد من عناصر التنظيم استهداف زائري مرقد الإمام موسى بن جعفر (أحد الأئمة الشيعة الإثني عشر)، وتعكير أجواء الزيارة، التي تصادف نهاية كل شهر رجب سنويًا.
إن الاستقرار الأمني الهش الذي عاشه العراق خلال الفترة الماضية وتراجع هجمات تنظيم “داعش” بصورة نسبية، ورغم الهجمات التي يقوم بها على أطراف المدن والبلدات في كركوك ونينوى وصلاح الدين، فإنه لم يتم تسجيل أي هجوم مسلح شنه التنظيم على مقتربات العاصمة بغداد، ومن ثم فإن الهجوم الأخير الذي شنه التنظيم في قضاء الطارمية، الذي يأتي بالتوافق مع ظرف سياسي معقد تعيشه الفصائل المسلحة في العراق، يشير بما لا يقبل الشك بأن هناك العديد من التساؤلات التي تطرح عن هذا الهجوم والخلفيات التي تحيط به.
تمثل الطارمية إحدى العقد الأمنية التي لم تنجح حتى الآن الفصائل المسلحة في حلها
مما لا شك فيه تعرض قضاء الطارمية للعديد من الضغوط الأمنية خلال الفترة الماضية، التي تأتي عادةً بعد كل عملية مسلحة يشنها عناصر التنظيم، ورغم تلويح قادة الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، بأن الحل الوحيد لمعالجة الخروقات الأمنية التي يعيشها القضاء، يتمثل بتكرار سيناريو “جرف الصخر” مرة أخرى، ما يوضح أن هناك جهدًا فصائليًا واضحًا لخلق بيئة جديدة للنفوذ في مناطق شمال بغداد، لما تحتويه من مزارع شاسعة وأراضٍ يمكن توظيفها في بناء معسكرات ومقرات لتخزين السلاح، والأهم من كل ذلك خلق مصدة جغرافية بين بغداد وصلاح الدين، بالشكل الذي يعيد تشكيل الواقع الجغرافي بما يخدم الفصائل المسلحة وإستراتيجية النفوذ التي تعمل عليها.
وفي هذا الإطار، عد الأمين العام لكتائب “سيد الشهداء”، أبو الولاء الولائي، البلدة “موبوءة بالإرهاب”، وقال في تغريدة له: “ما زالت قواتنا الأمنية البطلة تزف قرابين الفداء لأجل عراق آمن مستقر، يمارس فيه الشعب طقوسه الدينية بأمن وسلام، وما انفك العدو يتربص الدوائر لتعكير صفو تلك الشعائر، لا سيما في الطارمية الموبوءة بالإرهاب، التي لطالما حذرنا من هشاشة الوضع الأمني فيها”.
أما القيادي في حركة حقوق النيابية التابعة لكتائب حزب الله العراقي حسين مؤنس، فقد طالب بتكرار نموذج جرف الصخر، والاستفادة من تجارب الحشد الشعبي فيها.
داعش بندقية للإيجار
لا يخفى على أحد أن السلوكيات التي مارسها تنظيم “داعش”، إذ ظهرت سيطرته على ثلث مساحات العراق، ومن ثم هزيمته عسكريًا، وفرت للفصائل المسلحة فرصة ملء فراغ التنظيم سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، والأهم من كل ذلك جغرافيًا، وبالشكل الذي جعلها الوريث الوحيد للامتيازات التي كان يحصل عليها التنظيم، إلى جانب ما تقدم، مثلت إستراتيجية الفصائل المسلحة في خلق نماذج جغرافية خالصة بها، هدفًا واضحًا للفصائل في مرحلة ما بعد هزيمة “داعش”، وتحديدًا في جرف الصخر وسنجار وسهل نينوى وديالى وبلد وغيرها.
تمثل الطارمية إحدى العقد الأمنية التي لم تنجح حتى الآن الفصائل المسلحة في حلها، فعلى الرغم من أنها تشهد نشاطًا واضحًا ومتقطعًا للتنظيم، بسبب الطبيعة الجغرافية لقضاء الطارمية، فهي تحتوي على مسطحات مائية وبساتين كثيفة وأحراش، ويحاول التنظيم استغلال هذه الطبيعة لتنفيذ عملياته، إلاّ أنه على ما يبدو هناك ضغط سياسي واضح لإبقاء الوضع الأمني فيها غير مستقر، وعدم فسح المجال للدولة للقيام بمعالجات أمنية، توائم بين الجهد المجتمعي والأمن الوطني.
فما زالت الطارمية تمثل منطقة فراغ بين مناطق سامراء والدجيل وبلد ويثرب التي تسيطر عليها الفصائل، ومناطق شمال بغداد، وعدم السيطرة عليها أو حتى امتلاك النفوذ فيها، سيجعل الفصائل المسلحة تعاني من عقدة أمنية لا تخدم إستراتيجية النفوذ التي تحاول ترسيخها في الطارمية، لما تحتويه من منافع اقتصادية وزراعية.
معالجات أمنية
بعيدًا عن سيناريوهات إعادة نموذج جرف الصخر، تتطلب الضرورة الأمنية أن يذهب صانع القرار السياسي باتجاه تفعيل إستراتيجيات الردع، بدءًا في إعادة النظر بالإشراف والمتابعة والرقابة للمؤسستين الأمنية والعسكرية، وإحداث التغيير الجذري والشامل في منظومة القيادة والسيطرة، فضلًا عن تعزيز القدرات القتالية للمقاتلين بالجهد التقني القادر على الرصد والإنذار المبكر للقطاعات، فالمناطق الرخوة أمنيًا المحيطة ببغداد تشكل حزامًا جغرافيًا معقدًا على المستوى العسكري، يمتد لمسافة لا تقل عن 500 كيلومتر تصل إلى مشارف العاصمة بغداد، وهذه ممكن أن تُشكل روافد لحركة وتنقل التنظيم بعيدًا عن الرصد والاستمكان.
إن التحديات الأمنية التي يشهدها العراق اليوم، توحي بما لا يقبل الشك بأنه على موعد مع العديد من الهزات الأمنية في المرحلة المقبلة، فإصرار الفصائل المسلحة على ممارسة سياسة الاستئثار بالوضع السياسي، خصوصًا بعد نجاح الإطار التنسيقي بتشكيل الحكومة، وما يمكن أن ينتج عن هذه السياسة من تداعيات أمنية واجتماعية، قد توفر للتنظيم هامش للحركة في المناطق الرخوة أمنيًا، كما أن عجز الدولة عن كبح جماح هذه الفصائل، وإبعادها عن المشهد الأمني في هذه المناطق، وتحديدًا الطارمية، قد يحولها بالنهاية إلى بؤرة أمنية معقدة، وتكون مدخلًا لمزيد من الفوضى في العراق.
المعالجات الأمنية الحكومية قد تسهل على سكان الطارمية من جهة، والأجهزة الأمنية العراقية من جهة أخرى، قطع أشواط متقدمة في معالجة الجيوب التي يستغلها التنظيم لشن الهجمات
كل هذه المخاوف تفرض على حكومة محمد شياع السوداني، إعادة وضع رؤية أمنية جديدة للتعامل مع خطر تنظيم “داعش” في هذه المناطق، عبر إنتاج حلول أمنية واستخبارية فاعلة، تستهدف المجتمع المحلي قبل أن تستهدف التنظيم، وأن يكون الملف الأمني حصرًا بيد الدولة.
وفي هذا الإطار، أكد ضابط في شرطة الطارمية أن “الوضع مرتبك والأهالي يعيشون في رعب، لا سيما مع تصاعد حملات التحريض ضدهم”، مبينًا أن “الهجوم الذي وقع اليوم هو خرق أمني لا يمكن أن يتحمله الأهالي، ولا يمكن أن يُتهم الأهالي بتنفيذه، خصوصًا أنهم متعاونون بشكل كبير مع القوات الأمنية”.
إن المعالجات الأمنية الحكومية قد تسهل على سكان الطارمية من جهة، والأجهزة الأمنية العراقية من جهة أخرى، قطع أشواط متقدمة في معالجة الجيوب التي يستغلها التنظيم لشن الهجمات، كما أنها يمكن أن تشكل فرصة لكبح جماح الفصائل المسلحة في عدم توظيف هذه الهجمات لخدمة خطابها وسياساتها، وهو ما يفرض بدوره مزيدًا من الضغط على حكومة السوداني في ممارسة دور أكبر لحفظ الأمن والسلم المجتمعي في الطارمية، وغيرها من المناطق التي تشهد خروقات أمنية متكررة.