بعد ارتفاع عدد ضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب شمال سوريا، ليل الإثنين 6 فبراير/شباط الحاليّ، لأكثر من 1000 شخص، بدأ السكان يدفنون أحباءهم في مقابر جديدة بعد أن تضاءلت مساحة المقابر الرسمية، إثر عمليات الحفر المتتالية عقب فجر يوم الكارثة، فيما يتوقع أن يرتفع عدد الضحايا أكثر، لا سيما أن من بين الـ12400 جريح، إصابات خطرة.
ومع تزايد أعداد الوفيات في الساعات التي تلت الزلزال، غابت إمكانية دفن الضحايا بالطريقة التي اعتادها السوريون، فدفن معظم ضحايا الزلزال بالهيئة التي تم إخراجهم بها من تحت الأنقاض، دون غسيل ولا كفن ولا حتى وداع.
يقول محمد، شاب نازح لمدينة سلقين شمال إدلب: “كانت تأتي سيارة الموتى صباح الكارثة لتفرغ جثامين الضحايا في أرضٍ زراعية خصبة، وعلى الجانب الآخر تتعالى صيحات وصرخات ذوي المتوفين، كما تعمل آليتان حفر للدفاع المدني السوري دون توقف، فالمدافن كانت في أراضٍ لذوي الضحايا بمحيط المدينة خصّصت في وقتها كمقابر جديدة لضحايا الزلزال، بهدف السرعة وكثرة أعداد الضحايا ومتابعة العمل دون عائق”.
يقول الشاب الناجي من بين الركام أحمد طلحة الذي يقطن مدينة جنديرس شمال حلب والمهجر من بلدة عينجارة: “انهار منزلنا بالكامل، ولم يتبق منه شيء، ويستعصي على المرء الدخول إليه الآن”، موضحًا “سقط البناء على رؤوس عائلتي المؤلفة من 7 أشخاص: ماتت زوجتي وزوجة ابني وأبنائي الثلاث، ونجا الباقون محمد (12 عامًا) وسمية (17 عامًا)”.
مضيفًا “لعدم قدرتي على دفنهم بالطريقة الاعتيادية، دفنت عائلتي بالهيئة التي تمّ إخراجهم بها من تحت الأنقاض، دون غسيل ولا كفن ولا حتى وداع، لم أفعل لهم أي شيء، لقد غطيتهم فقط بغطاء (بطانية) ودفنتهم في قبر واحد”.
أكفان الموتى
في مدينة الأتارب غرب حلب، شهدت صلاة الظهر يوم الثلاثاء 7 فبراير/شباط، صلاة على أكبر عددٍ من الضحايا الذين قضوا جراء الزلزال.
يقول المواطن عبد الرزاق بكور، أحد أهالي المدينة: “اصطف معظم أهالي المدينة بعد صلاة الظهر حتى إنهم ملأوا المسجد وقطعوا الطريق خارج مسجد أبو بكر الصديق المجاور للمقبرة الجنوبية للمدينة، ودخل شبان يحملون أكفانًا وألواحًا خشبية وعليها جثث 21 شخصًا، ورصت بجانب بعضها البعض على الأرض مقابل الإمام”.
“بدأ الإمام بتأدية صلاة الجنازة، وبدأ المصلون يرفعون أيديهم إلى السماء، داعيين الله أن يتغمد الموتى فسيح جنانه، ووسط هذا المشهد المهيب، نساء خلفنا يبكين من شدة الألم، وبعد الصلاة، هرع الرجال بدورهم لحمل النعوش والتوجه إلى المقبرة لأجل الدفن، في عمليات مستمرة منذ الفاجعة التي حلت بالمنطقة”.
يصرخ الرجال بصوت واحد “الله أكبر” وهم يمشون وراء توابيت خشبية مغلقة وأخرى مكشوفة والبعض الآخر ملفوفًا في بطانيات
وبعد هذا المشهد الهيب، التقينا الشيخ محمد حنتش وهو إمام مسجد أبو بكر الذي تضرر جزء من منزله دون أن يُصاب هو وعائلته بأي ضرر، لأساله: “من أين جلبت هذه الأكفان والألواح الخشبية؟”، فأجاب قائلًا: “جاء لنا أهل الخير وقدموا ألواحًا خشبية كثيرة غير مجهزة للموتى”.
كما سألت الشيخ أيضًا عن صحة دفن الضحايا وخاصة الأقرباء في حفرة واحدة، فطلب مني عدم القلق، وأكد ما يلي: “لقد حدث ذلك في تاريخ الإسلام بالماضي، خصوصًا في زمن الحرب، لا شيء ينفذ خارج الثوابت والشرع”، وتابع “لأجل هذا، فلتطمئن قلوب أسر الضحايا، لأنه لن يتم دفن ذويهم بطريقة غير شرعية بأي شكل من الأشكال، وعلى شاهد كل قبر، تكتب أسماء المتوفين ومعلومات قليلة عنهم”.
في اليوم العاشر من الزلزال المدمر، وصل عدد الضحايا في شمال سوريا إلى 2274، فيما بلغت حصيلة الإصابات 12.400 شخص، في وقت لا يزال آلاف المصابين في مشافي المنطقة بعضهم في حالات حرجة.
وفي جنازة بالقرب من جنديرس شمال حلب، يصرخ الرجال بصوت واحد “الله أكبر” وهم يمشون وراء توابيت خشبية مغلقة وأخرى مكشوفة والبعض الآخر ملفوفًا في بطانيات، إلى مقبرة قرب أنقاض تجمع سكني سقط إثر الزلزال.
وقال أحد ذوي الضحايا في جنديرس، الشاب إسماعيل عربية المهجر من بلدة كفرناها: “لقد دفنت ابن عمي بعد أن عثرنا عليه بعد ثلاثة أيام تحت ركام المنزل، حيث وضعته فرق الإنقاذ داخل بطانية من منزله، وحملته رفقة أخي على دراجتي النارية إلى منزل أهله في عفرين شمال حلب لندفنه بعد أن غسلنا جثمانه وصلينا عليه”.
وكون مدينة جنديرس غرب عفرين كانت أكثر مدن شمال سوريا تأثرًا بالزلزال، كانت الجثث تتراكم أمام المشفى لأن المشفى لم يعد يتسع للجرحى والأموات، فكانوا يتركون الموتى ليدخلوا الأحياء المصابين، ويضعون القتلى أمام المشفى حيث يأتي الأهالي للتعرف على أقاربهم ليستلموهم من حرس المشفى بعد إبراز وثائق شخصية تؤكد صلة القرابة مع المتوفين، ومع عدم كفاية المقابر كان الأهالي يلجأون إلى حفر المقابر الجماعية أو أخذ الجثامين لخارج المدينة لدفنها.
وبعد مرور أكثر من 10 أيام على وقوع الزلزال، لا يزال أهالي الشمال السوري وبعض من فرق الإنقاذ في الدفاع المدني يتشبثون بالعثور على ضحايا جدد وسط حطام المنازل التي أصبحت مقابر للآلاف، آملين أن يشتموا رائحة جثة بعد أن تم فقدان الأمل بالعثور على ناجين.
وفي تعليقٍ لمدير المكتب الإعلامي لقطاع حلب وريفها في الدفاع المدني إبراهيم حجو عن كيفية دفن الضحايا ومصادر الأكفان، قال: “لقد عملت فرقنا في أنحاء ريف حلب على دفن الضحايا، فمنذ لحظة انتشال الجثة يتم نقلها عبر سيارات مخصصة للدفاع المدني ووضعها في أكياس بلاستيكية بيضاء اللون مخصصة لنقل الجثث، إلى ذوي الضحايا ليتم توديع الضحايا في منازل ذويهم ونقلهم إلى المقابر ليدفنوا على الفور”.
وأضاف “مع وقوع الكارثة وإخطار فرقنا بوجود كم كبير من الضحايا، توجهت بعض آلياتنا إلى المقابر وحفرت عشرات القبور في المدن التي تضررت لتسهيل عملية دفن الضحايا”، منوهًا أن جميع الضحايا يتم دفنهم بعد طلب إذن أهالي الضحية.
جثامين السوريين المرحلين من تركيا
منذ 11 فبراير/شباط الحاليّ، بدأت مركبات إسعافية تحمل جثامين مئات السوريين، ممن ماتوا في زلزال 6 فبراير/شباط، من تركيا إلى شمال غرب سوريا، من خلال معبر باب الهوى الحدودي.
يقول المتحدث الإعلامي باسم معبر باب الهوى مازن علوش: “جثامين ما لا يقل عن 1000 ضحية عبرت من خلال باب الهوى، ليتم دفنهم في سوريا، أكثر من نصفهم تم نقلهم إلى ذويهم في مناطق النظام السوري والإدارة الذاتية، والجزء الآخر تم إخطار أقربائهم باستلام جثامينهم من مشفى باب الهوى الحدودي مع تركيا”.
يقول يوسف الصالح من بلدة كفر ناصح غرب حلب: “توفيت زوجتي في اليوم الأول من الزلزال في كهرمان مرعش، واصطحبتها رفقة أولادي الثلاث الذي خرجوا برفقتي من تحت الركام سالمين، إلى سوريا ودفنتها في القرية”.
آثار المقابر البدائية والدفن دون تدابير
يقول الطبيب الشرعي حسن عبد الرحمن: “في مجتمعنا معتقدات شائعة بكثرة تفيد بأن الجثث تشكِّل خطرًا على الصحة العامة، فمثلًا بعد وقوع زلزال يعتقد البعض أن خطر انتشار الأوبئة يزيد إذا لم تدفن الجثث أو تحرق بسرعة، وهناك من يظن أن وجود هذه الجثث يؤدي إلى تفشي أمراض معدية، وشاهدنا في سياقات أخرى من يزعم أن انبعاث الروائح الكريهة من الجثث ينقل الأمراض عبر الهواء، لكن ما برهنه العلم وممارساتنا الخاصة في الطب الشرعي هو أن هذه المزاعم غير صحيحة، فالجثث بحد ذاتها لا تؤدي إلى تفشي الأمراض”.
واسترسل قائلًا: “لذلك، هذه المزاعم بخصوص العلاقة بين الجثث والأوبئة خطيرة، تعزز الفوضى واليأس وانعدام الأمن، وتقود الأشخاص المسؤولين عن اتخاذ القرارات إلى ارتكاب أخطاء جسيمة لا يمكن تدارك عواقبها كحرق الجثث مثلًا”.
وأضاف “مثل هذه التدابير تزيد من صعوبة إعادة بناء الأحداث والعودة إلى الحياة الطبيعية، وتؤثر سلبًا على ذاكرة الناجين وأسرهم، ما يعيق أداء مراسم الدفن والشعائر الثقافية والاجتماعية لإحياء ذكرى الموتى وصولًا إلى تقبل وفاة أحد الأحباء”.
استمر الجدل بشأن ما اعتبر إخفاقًا دوليًا في إيصال المساعدات إلى المتضررين من الزلزال شمال غرب سوريا، رغم مرور أيام عديدة على الزلزال
أما بخصوص الجثث المصابة بأمراض معدية كالإيبولا والكوليرا، ردّ مجيبًا “أغلب الكائنات العضوية المسببة للعدوى لا تعيش أكثر من يومين في جسم الميت، والاستثناء الوحيد في هذا السياق هو فيروس نقص المناعة المكتسب، فالفيروس في هذه الحالة يظل حيًا داخل الجسم بعد الوفاة بستة أيام، في حالات مثل الإيبولا والكوليرا يُحتمل أن توجد بين الجثامين، لكنها تظل احتمالات هامشية، ويظل الناس العاديون بمنأى عن الإصابة ما لم يلمسوا الجثث”.
تجاوزت حصيلة قتلى الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا 41 ألفًا، إثر انتشال المزيد من الجثث من تحت أنقاض المباني المدمرة في البلدين، مع تضاؤل الآمال في العثور على ناجين بعد مرور 10 أيام على الكارثة.
ويحصي البلدان حجم الخسائر المادية والبشرية التي خلفها هذا الزلزال المدمر الذي وقع فجر 6 فبراير/شباط الحاليّ، وتجاوز عدد قتلاه في تركيا 35 ألفًا و418 شخصًا، في حين وصل عدد القتلى في سوريا إلى 5801، والمصابين إلى 7396.
وما زالت عمليات البحث والإنقاذ مستمرة في عدد من المناطق بتركيا، بينما تم الإعلان عن انتهائها في أماكن بسوريا.
وخلال الأيام الماضية، استمر الجدل بشأن ما اعتبر إخفاقًا دوليًا في إيصال المساعدات إلى المتضررين من الزلزال شمال غرب سوريا، رغم مرور أيام عديدة على الزلزال.