كشف الصحفيان، سام داغر وفيونا ماكدونالد، في تقرير نشرته وكالة “بلومبيرغ” في 17 فبراير/شباط الحاليّ عن تكثيف حكومة الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو محادثاتها مع السعودية خلال الآونة الأخيرة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل توطيد العلاقات العسكرية والاستخباراتية في ضوء تنامي المخاوف إزاء إيران.
التقرير الذي جاء تحت عنوان “إسرائيل تكثف محادثاتها مع السعودية بشأن العلاقات لمحاربة إيران” يشير إلى أن رأب الصدع التاريخي بين حليف الولايات المتحدة الرئيسي “إسرائيل”، والمملكة العربية السعودية، أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، من شأنه أن يمثل إعادة ترتيب مهمة للسياسات الإقليمية.
إلا أن ضبط العلاقات بين البلدين بشكل كامل قد يصطدم بمطلب الرياض المعلن قبل ذلك والخاص بإنشاء دولة فلسطينية، وهو الأمر المستبعد في الوقت الراهن – بحبس بلومبيرغ – في ظل الصدامات المتكررة بين الفلسطينيين والاحتلال بعد عودة اليميني المتطرف، نتنياهو، إلى السلطة مجددًا.
وتسابق واشنطن الزمن لتطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، لما تمثله تلك الخطوة من دعم لمصالحها في الشرق الأوسط، بجانب المكاسب السياسية الأخرى المتوقع أن تحصدها أي إدارة تستطيع إنجاز تلك المهمة التي فشلت في تحقيقها الإدارات السابقة، إلا أن التطورات التي شهدتها الساحة الدولية والتغيرات الجذرية في مواقف المملكة وسياستها الخارجية ربما تكون بيئة مناسبة لهذه الخطوة التي كانت قبل سنوات قليلة من المحرمات المستبعدة.
Israel’s new government has stepped up US-backed talks with Saudi Arabia on developing closer military and intelligence ties, sources say https://t.co/GErrmsV2dJ
— Bloomberg (@business) February 17, 2023
محاولات رأب الصدع
الوكالة الأمريكية في تقريرها نقلت عن 6 مصادر طلبوا عدم ذكر أسمائهم لسرية الأمر أن مسؤولي البلدين عقدوا اجتماعات تمهيدية قبيل لقاء مجموعة عمل الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي حول الدفاع والأمن في الرياض، وأنه من المتوقع التوصل إلى خطوات إيجابية وتفاعل أكبر بين الطرفين نهاية الأسبوع الحاليّ في ميونيخ على هامش مؤتمر الأمن المنعقد حاليًّا.
وفي تصريح لها من الرياض في 13 من الشهر الحاليّ قالت نائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، دانا ستراول: “نؤمن بأن انضمام مناطق أخرى وجلوسها على الطاولة نفسها مع “إسرائيل” يصب في صالح الاستقرار والسلام بالمنطقة”، منوهة أن رأب الصدع التاريخي بين البلدين سيحدث تحولًا كبيرًا في الأوراق السياسية في الشرق الأوسط.
المحادثات بين الجانبين ليست جديدة كما أنها لم تكن بالمفاجئة وفق ما ذهب إليه الأكاديمي إيهود يعاري، زميل معهد Washington Institute البحثي، الذي أشار إلى أن مسؤولي السعودية و”إسرائيل”: “يجرون المحادثات طوال الوقت، وربما تسارعت وتيرة المحادثات بعض الشيء، لكنني لن أبالغ في تقدير أهميتها، ويمتلك الجانبان خطوط تواصل مريحة إلى حدٍّ ما على صعيد الاستخبارات والدفاع الجوي”.
تراجع خطاب الكراهية السعودي إزاء السامية كان من بين المؤشرات القوية على تغير فكر ومنهجية المملكة في نظرتها لدولة الاحتلال
وتشير المصادر إلى أن تجاوب الرياض مع تلك المطالب له ثمن تود المملكة دفعه قبل المضي قدمًا في هذا المسار الوعر، وعلى رأسه تجديد التزام واشنطن بالمساعدة في مواجهة إيران على نطاقٍ واسع، والعمل على تقزيم نفوذها الإقليمي ومنعها بشتى السبل من امتلاك السلاح النووي.
وردًا على ما وصفته وسائل إعلام غربية، بالضمانات الأمريكية للسعودية من أجل تحفيزها على قرار التطبيع، قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية: “نتعاون مع شركائنا السعوديين لتعزيز الأولويات المشتركة، في علاقةٍ ترتقي بمنطقة الشرق الأوسط لتصبح أكثر استقرارًا وازدهارًا وتكاملًا”.
مؤشرات تلوح في الأفق
تستند الأصوات التي تتوقع خطوات تقدمية في مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي إلى حزمة من المؤشرات التي شهدتها ساحة العلاقات البينية مؤخرًا وأثارت التكهنات بشأن خطوة كهذه رغم صعوباتها، لعل آخرها المقابلة التي أجراها نتنياهو مع قناة العربية السعودية في ديسمبر/كانون الأول 2022 ووصف خلالها تطبيع العلاقات بين البلدين بأنه سيكون “قفزةً نوعيةً ستغير منطقتنا بطرق لا يمكن تصورها”.
تراجع خطاب الكراهية السعودي إزاء السامية كان من بين المؤشرات القوية على تغير فكر ومنهجية المملكة في نظرتها لدولة الاحتلال، وهو ما أشارت إليه المبعوثة الخاصة إلى واشنطن لمكافحة معاداة السامية ديبورا ليبستادت في خطاب ألقته بعد زيارة المملكة منتصف العام الماضي حين قالت: “لعقود عديدة، كانت السعودية مُصدِّرًا كبيرًا لكراهية اليهود (..) لكن ما وجدته هو شيء مختلف تمامًا، شيء تغير هناك بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية”.
هذا التراجع لم يكن في الخطاب الإعلامي فقط، بل اخترق المناهج الدراسية كذلك التي كانت دومًا تشدد على خطورة الصهيونية ومعاداتها للإسلام وفضل جهاد اليهود والمحتلين والزود عن المقدسات الإسلامية، لتخلو الكتب اليوم من أي من تلك المرتكزات السابقة، فلا يكاد يذكر اليهود بأي أوصاف مشينة ولم تتطرق الكتب للجهاد بمعانيه الشاملة، وذلك في إطار الحملة التي قادها ولي العهد محمد بن سلمان لتطوير التعليم بزعم مكافحة التطرف في المناهج الدراسية.
وقد أثار هذا التوجه تقدير وإعجاب الخارجية الأمريكية التي قالت في تقريرها الأخير عن حقوق الإنسان في السعودية إن خطاب الأئمة المناهض لـ”إسرائيل” نادر بشكل عام، ووزارة الشؤون الإسلامية شجعت على “رفض التعصّب الأعمى”.
تتلاقى مصالح السعودية و”إسرائيل” والولايات المتحدة في تقزيم النفوذ الإيراني وتقليم أظافر طهران التوسعية، ومن ثم تعزف كل من واشنطن وتل أبيب على هذا الوتر جيدًا، يقينًا بحجم ما يمثله من قلق وترقب لدى الجانب السعودي
وفي مارس/آذار 2022، قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خلال مقابلة مع مجلة “أتلانتيك” الأمريكية، إن المملكة تنظر إلى إسرائيل كـ”حليف محتمل” في العديد من المصالح المشتركة، ومن قبلها لم تبد الرياض أي امتعاض إزاء اتفاق أبراهام الموقع بين البحرين والإمارات مع “إسرائيل” منتصف سبتمبر/أيلول 2020 في حين وافقت على السماح لكل الرحلات الجوية المتجهة إلى الإمارات والمغادرة منها بعبور أجوائها، بما في ذلك الطائرات الإسرائيلية.
وشهدت العلاقات بين البلدين تقاربًا واتصالات عدة خلال الآونة الاخيرة وصلت إلى دعم التوجهات العقدية والأيديولجية أحيانًا، كما هو حال الداعية السعودي محمد العيسى، رئيس رابطة العالم الإسلامي، الذي شارك في الاحتفالات بمرور 75 عامًا على تحرير معسكر أوشفيتز في بولندا في يناير/كانون الثاني 2020، وهي الزيارة التي لاقت إشادة كبيرة من الإعلام الإسرائيلي.
مستشار الأمن القومي الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي يناقشان آليات التطبيع السعودي المحتمل مع إسرائيل#التطبيع_خيانة https://t.co/wqQmu0ZXHJ
— د. عبدالله العودة (@aalodah) January 19, 2023
إيران.. كلمة السر في التقارب
يبقى مواجهة النفوذ الإيراني هو الجسر الأكثر حضورًا لإنجاز أي تقدم في هذا الملف، فالمخاوف المتصاعدة – الواقعي منها والمبالغ فيه – من تنامي التمدد الإيراني في المنطقة لا سيما بعد الهرولة نحو امتلاك السلاح النووي الذي بلا شك سيغير قواعد اللعبة بالكلية، كانت وستظل المبرر الأقوى لأنصار التطبيع من هنا وهناك.
وتتلاقى مصالح السعودية و”إسرائيل” والولايات المتحدة في تقزيم النفوذ الإيراني وتقليم أظافر طهران التوسعية، ومن ثم تعزف كل من واشنطن وتل أبيب على هذا الوتر جيدًا، يقينًا بحجم ما يمثله من قلق وترقب لدى الجانب السعودي الذي لا يدخر جهدًا من أجل وأد أحلام الإيرانيين التوسعية.
ودومًا ما تلقى تصريحات الحكومة الإسرائيلية والأمريكية بشأن ضرورة استهداف إيران بشتى السبل قبولًا لدى الرياض التي تشكل في الغالب خريطة تحالفاتها الخارجية وفق مواقف الدول من الملف الإيراني بصفة عامة، لذا تمثل تلك التصريحات والمواقف أرضية خصبة لتلاقي البلدان الثلاث على مسرح واحد رغم الخلافات الجوهرية.
وهنا تساؤل يفرض نفسه: هل يمكن لتلك المسألة – مواجهة النفوذ الإيراني – أن تكون الوقود الكافي لتشغيل قطار التطبيع السعودي الإسرائيلي بشكل كامل بحيث يستطيع قطع الكثير من المحطات دون توقف؟ ويحاول مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة Center for Strategic and International Studies البحثية، جون بي ألترمان، الإجابة عن هذا السؤال بالإشارة ابتداءً إلى وجود “حالة توافق جوهرية بين الإسرائيليين والسعوديين، وبقية حكومات الخليج العربية حول تصوراتهم للتهديدات المتعلقة بإيران”.
مستدركًا أنها لن تكون كافية بمفردها كأساس لتطبيع العلاقات، موضحًا خلال تصريحاته لـ”بلومبيرغ” أن “ابن سلمان ربما يُلوح بالتطبيع كوسيلةٍ لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، بينما يستفيض نتنياهو في الحديث عنه لتشتيت الانتباه عن المشكلات التي يواجهها في بلاده”، مختتمًا حديثه بتساؤل وإجابة: “هل سيتجاوز الأمر مرحلة أصدقاء المصلحة؟ ليسوا مضطرين لفعل ذلك في القريب العاجل”.
? | سمو #وزير_الخارجية @FaisalbinFarhan: التطبيع والاستقرار الحقيقي لن يأتي إلا بإعطاء الفلسطينيين الأمل من خلال منحهم الكرامة وهذا يتطلب منحهم دولة #المملكة_في_دافوس ?? pic.twitter.com/hQl2Cqr24o
— وزارة الخارجية ?? (@KSAMOFA) January 19, 2023
التطبيع الأمني.. الخطوة الأقرب
المعطيات الراهنة تشير إلى أن هناك رغبة سعودية وإسرائيلية بتطبيع العلاقات بشكل رسمي، فكل المؤشرات تذهب في هذا الاتجاه، والأجواء ربما تكون مثالية لهذا الغرض، غير أن حزمة من التحديات والعراقيل تعيق المملكة عن اتخاذ تلك الخطوة تتعلق بمرتكزاتها الوطنية والتخوف من الغضب الشعبي العربي والإسلامي لا سيما أن الرياض طالما دندنت على أوتار دعم الفلسطينيين وتجريم التطبيع، فيما كانت أدعية النصرة على الإسرائيليين ودعم المقاومة الفلسطينية تزلزل جنبات مساجد المملكة بما فيها الحرمين الشريفين.
ورغم أن العلاقات بين البلدين تتجاوز في حجم التنسيق والتناغم والتعاون أكثر مما هي عليه مع بعض البلدان المطبعة رسميًا مع تل أبيب، فإن اتخاذ قرار كهذا خطوة محفوفة بالمخاطر، وهو ما دفع الرياض للتريث قبل الإقدام عليها، مع الوضع في الاعتبار تمسك المملكة بشرطها الأساسي في هذا الملف وهو إقامة دولة فلسطينية والتمسك بخيار حل الدولتين كأحد ثوابت السياسة الخارجية السعودية.
الحديث عن تطبيع محتمل بين السعودية و”إسرائيل” لم يعد بالحديث المثير للدهشة أو الذي يفتح معه باب التكهنات والتأويلات ويحدث انقسامًا في الآراء، مع أو ضد، إذ بات واضحًا أن المصطلح في معناه الدلالي والتفسيري متحقق على المسارات كافة
وفي الوقت الذي تشير فيه التكهنات إلى تطبيع محتمل بين البلدين، أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في 20 يناير/كانون الثاني 2023 أن “التطبيع والاستقرار الحقيقي لن يأتي إلا بإعطاء الفلسطينيين الأمل من خلال منحهم الكرامة وهذا يتطلب منحهم دولة”، حسبما نشرت وزارة خارجية المملكة على حسابها على تويتر.
ومن ثم وأمام صعوبة اتخاذ قرار التطبيع في ضوء تمسك الرياض بهذا الشرط المستبعد بالفعل من الجانب الإسرائيلي، تبقى الحلول الرمادية هي الأقرب، وعلى رأسها التطبيع الأمني، حيث التنسيق الكامل بين البلدين في الملفات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، في ضوء تنامي نفوذ العدو المشترك للبلدين، وهو ما يجري منذ سنوات بالفعل، الأمر الذي قد يعبد الطريق مستقبلًا نحو خطوة أكثر تقدمًا في مسار التطبيع.
في ضوء ما سبق، فإن الحديث عن تطبيع محتمل بين السعودية و”إسرائيل” لم يعد بالحديث المثير للدهشة أو الذي يفتح معه باب التكهنات والتأويلات ويحدث انقسامًا في الآراء، مع أو ضد، إذ بات واضحًا أن المصطلح في معناه الدلالي والتفسيري متحقق على المسارات كافة، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، لكنه في انتظار تطبيقه اللفظي، وتلك مسألة وقت في ظل المنطاد الذي يركبه ولي العهد السعودي ويقفز به فوق كل المرتكزات والثوابت الوطنية والتاريخية للمملكة.