يعد الزلزال الذي ضرب منطقة الجنوب التركي وسوريا من أكبر التحديات التي تواجه السلطات في كلا البلدين، وفي حين أن الدولة التركية استنفرت كل جهودها لتخفيف آثار هذه الكارثة االمدمرة، لا يبدو أن الأمور تسير على هذا النحو في سوريا وخصوصًا في الشمال السوري المنكوب، فهذه المنطقة التي ضربها الزلزال تعاني منذ أكثر من عشر سنوات من تحديات جمّة على كل الأصعدة الإنسانية وباتت أسيرة للتفاهمات السياسية بين الفاعلين على الأرض.
أتى الزلزال على شمال السوري ليكرس الحالة السيئة والمتردية التي يعيشها السوريون هناك، فقوات نظام الأسد وروسيا لم تبق شيئًا في هذه المناطق إلا واستهدفته وقصفته، عدا عن أن الكثافة السكانية تتزايد، حيث يعيش ما لا يقل عن أربعة ملايين ونصف نسمة متوزعين على مناطق شمال غرب البلاد، وبالإضافة إلى سوء الوضع الصحي يجد السوريون اليوم أنفسهم في أزمة جديدة ألا وهي السكن عدا عن أزمات الغلاء والتشرد وسوء الاستجابة من المنظمات الدولية.
نسلط الضوء سريعًا على أبرز المشكلات التي ستواجه مناطق شمال غرب سوريا بعد الزلزال وكيف تحاول بعض الجهات ترميم ما أمكن من أجل تخفيف وطأة الكارثة على الناس.
الاستجابة الإنسانية
قبل أن يضر الزلزال مناطق الشمال السوري، لوحظ انخفاض معدلات الاستجابة الإنسانية من المنظمات الدولية لهذه المنطقة، ففي يوليو/تموز من عام 2022 انخفضت معدلات الاستجابة الإنسانية من المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة بنسبة 41%، وبنسبة 32.15% في المخيمات، وبات جليًا أن الضغوط الروسية على الدول والأمم المتحدة أتت أكلها، فقد رفضت موسكو تجديد قرار إيصال المساعدات الإنسانية إلا من معبر واحد وهو معبر باب الهوى ولمدة ستة أشهر فقط.
بعد كارثة الزلزال الكبير اتضح أن الشمال السوري يخنقه حصار دولي كبير، ففي الأيام الأربع التي تلت الزلزال لم تستطع الأمم المتحدة أو الدول إدخال مساعدات عاجلة إلى المناطق التي ضربها الزلزال، الأمر الذي ضاعف عدد الضحايا السوريين، فالدفاع المدني طالب بإدخال الآليات والرافعات التي من شأنها المساهمة في رفع الأنقاض عن الموجودين تحت الركام، والآليات التي بحوزة المنظمات لم تكن كافية.
لم تستجب الأمم المتحدة للنداء حتى الآن، لكنها أدخلت بعض الشحنات التي تضم المواد الإغاثية، وبالفعل أقرت الأمم المتحدة بفشلها في مساعدة آلاف المدنيين السوريين وعجزها عن إيصال المساعدات إلى المنكوبين في الشمال السوري، واعتبر مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ أن المنظمة خذلت السكان شمال غرب سوريا، كما اتهمت المعارضة السورية الأمم المتحدة بالتخاذل عن مساعدة المتضررين من الزلزال، مطالبة بإدخال مساعدات عاجلة إلى المنطقة.
بدوره كشف رئيس منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) رائد الصالح، عن تهديد وكالات الأمم المتحدة للمنظمات الإنسانية السورية بعد انزعاجها من الاتهامات بتقصيرها في الاستجابة للكارثة الإنسانية بعد الزلزال في سوريا، وقال الصالح: “وكالات الأمم المتحدة منزعجة من الاتهامات بتقصيرها في الاستجابة للكارثة الإنسانية بعد الزلزال في سوريا”، ولفت إلى أن الأمم المتحدة هددت المنظمات الإنسانية السورية وتطالبها بتحديد دورها.
هذه الأزمة تنبئ أن الأيام القادمة لا تحمل معها حلًا لأزمة إدخال المساعدات إلى الشمال، ما يحتّم على المعارضة السورية والمتصدرين للواجهة السياسية والمنظمات المدنية التوجه نحو الدول الكبرى التي تحمل على عاتقها دعم الشعب السوري بعينها لاستجلاب الدعم للشمال السوري حتى لا تتعمق الكارثة الواقعة بهذه المنطقة، ويجب تخفيف الاعتماد على تركيا وما تقدمه للشمال خاصة في هذه الأوقات، لأن الكارثة التي حلت بتركيا أكبر وأعمق ويبدو أن تركيا ستسخر كل جهودها من أجل إعادة الإعمار على أراضيها، فيما ستعمل المنظمات والمؤسسات التركية على مساعدة المنكوبين هناك.
القطاع الصحي
بالإضافة إلى مشكلة ضعف الاستجابة الإنسانية، تبرز أزمة القطاع الصحي في المنطقة، هذا القطاع الذي يعاني في الأساس من أزمات متلاحقة، فقد عانت المشافي والمراكز الطبية خلال الاستجابة لمصابي الزلزال من نقص المعدات والأدوية اللازمة، وعلى الرغم من ذلك، فإن القطاع الصحي عمل بالطاقة القصوى بأدنى الإمكانيات المتاحة، كما تعاني المنشآت الصحية من نقص كبير وحاد في الأدوية النوعية بمعظمها، خصوصًا أدوية التخدير ومستلزمات جلسات غسل الكلى.
يقول أطباء وعاملون بالقطاع الصحي في شمال سوريا إن الاحتياجات كبيرة في مناطق الزلزال، ويتهم المسؤولون الطبيون في مشافي الشمال المنظمات الكبرى بالتقصير بدعم المنشآت الصحية، وكان زهير القراط مدير صحة إدلب قد اجتمع بوكيل الأمين العام، وتركز حديث قراط حول تقصير الأمم المتحدة في الاستجابة الإنسانية بمنطقة شمال غرب سوريا.
وأوضح زهير القراط في حديث صحفي أن “المستشفيات بعد امتلائها بالمصابين، استنزفت القطاع الطبي بنسبة 100%، وفرغت جميع المستودعات التابعة للمديرية والمستشفيات خلال الـ24 ساعة الأولى”، مردفًا “لولا تبرعات المجتمع المحلي والمغتربين، وتدخّل المنظمات المحلية والجمعيات كان القطاع سيتوقّف بسبب نفاد الأدوية والمستلزمات”.
ودعت منظمة أطباء بلا حدود، الأحد، إلى زيادة المساعدات الإنسانية إلى شمال غرب سوريا “بشكل عاجل” بالتزامن مع وصول قافلة حمّلتها بخيم للنازحين والمشردين إلى المنطقة المنكوبة جراء الزلزال المدمر، وقالت المنظمة في بيان: “ندعو إلى زيادة الإمدادات الإنسانية بشكل عاجل، كونها حاليًّا لا تنسجم حتى مع حجم (ما كانت عليه) قبل وقوع الزلزال”، وأشارت إلى أنه “في الأيام العشر التي أعقبت الزلزال، كان عدد الشاحنات التي عبرت إلى شمال غرب سوريا أقل من معدلها الأسبوعي في العام 2022”.
إلى ذلك تعمل بعض المنظمات الطبية المختصة بالشأن السوري من أجل تعويض النقص الطبي الذي يضرب مشافي المنطقة، وقد أجرى أطباء من الجمعية الطبية السورية الأمريكية “سامز” جولات في مشافي الشمال السوري، وكانوا قد وصلوا بعد الزلزال إلى المناطق السورية التي تقع تحت سيطرة المعارضة، وقالت المنظمة: “قدمت مهمة سامز الطبية الأولى لمواجهة كارثة الزلزال بالداخل السوري 65 عملية جراحية صغرى وكبرى لناجين/ات من الزلزال في مشافي سامز التي استنفرت لمواجهة الكارثة، و76 استشارة طبية، كما قيم الأطباء الاستجابة الطبية على الأرض لتقديم الدعم اللازم لمواجهة الكارثة”.
إذن، يبدو أن القطاع الطبي في الشمال السوري يعتمد على دعم المنظمات السورية التي بدورها تعتمد على الأطباء السوريين الموجودين في المغترب بشكل أساسي، مثل منظمة “سيما” وهي الرابطة الطبية للمغتربين السوريين بالإضافة إلى “أوسوم” اتحاد المنظمات الطبية السورية، وعلى هذه المنظمات إجراء تقييم شامل وإعداد خطط لقادم الأيام.
سوء الإدارة
من الأزمات التي ظهرت بعد أزمة الزلزال غياب العمل الحكومي، حيث توجد في الشمال السوري حكومتان: حكومة مؤقتة تابعة للائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة وتوجد في مناطق السيطرة التركية، بالإضافة إلى حكومة الإنقاذ التي تتبع لهيئة تحرير الشام وتوجد في منطقة إدلب، وقد عجزت الحكومتان عن تقديم المرجو منهما وتقديم نموذج واضح للاستجابة للكارثة التي حلت.
قامت منظمات المجتمع المدني وعلى رأسها منظمة “الدفاع المدني” بكامل الواجبات التي كان من اللازم على الحكومات القيام بها، وأخذت المنظمات شكل الحكومة المصغرة، فبعض المنظمات استجابت للشأن الإغاثي وأخرى للطبي وبعضها الآخر استجاب للإيواء، فيما أطلقت بعض المنظمات كـ”فريق ملهم” استجابة عاجلة من أجل البدء بإعادة إعمار البيوت للناس التي تضررت من هذا الزلزال.
في هذا السياق تواصلنا بشأن الوضع في شمال سوريا بعد الزلزال مع الدكتور ياسر العيتي وهو الطبيب وباحث سوري، ليقول: “هذا الزالزال الهائل الذي لم تشهد المنطقة مثله منذ ألف عام حسب خبراء سيكون له تداعيات سياسية كبيرة، الانطباعان الأوليان اللذان تركهما هذا الزلزال عند كثير من السوريين: أولًا، تواطؤ الأمم المتحدة مع النظام في تسييس المساعدات من خلال انتظار موافقة النظام على إدخالها من المعابر التي لا يسيطر عليها أصلًا، وهي موافقة لم تكن ضرورية حسب خبراء في القانون الدولي، وثانيًا، أثبتت استجابة المجتمع السوري للزلزال أن هذا المجتمع برغم كل ما مر عليه من كوارث لا يزال مجتمعًا حيًا مقاومًا متكاتفًا وقادرًا على مواجهة التحديات بإمكاناته الذاتية لكن تنقصه القيادة السياسية التي تجمع بين الكفاءة واستقلال القرار”.
يضيف العيتي “في ظل غياب إدارة مركزية للشمال السوري لا يمكن حدوث أي استجابة فعالة لهذه الكارثة فضلًا عن وضع خطط تنموية لاحقة وتنفيذها، فكل السوريين في الشمال السوري يعرفون أن الحكومة المؤقتة مجرد اسم من دون مضمون وأن المناطق في الشمال تدار من الولاة والمنسقين الأتراك بشكل مباشر وهذا يسبب فوضى إدارية وتشتت في القرار. جاءت فاجعة الزلزال لتعكس هذا الواقع الإداري المشتت على شكل تأخر وعشوائية في الاستجابة للحاجات الملحة التي ولدها الزلزال”.
أما على صعيد الخلل الإداري والحكومي في الشمال يرى العيتي أن “الحكومة المؤقتة كما قلت موجودة شكليًا فقط، أما حكومة الإنقاذ فبلغني الكثير من الشكاوى من العاملين في الإغاثة عن تدخلها السلبي الذي أعاق عمل المنظمات الإغاثية من خلال ما يسمى (وزارة التنمية) الخاضعة كغيرها من الوزارات لهيئة تحرير الشام”.
ويؤكد العيتي قائلًا: “كان على الائتلاف والحكومة منذ الساعات الأولى للكارثة أن يعلنوا تشكيل خلية أزمة وأن يطالبوا بدخول آليات الإنقاذ إلى الشمال السوري ويحملوا كل الأطراف المسؤولة عن إدخال هذه الآليات مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية عن عدم دخول أي آلية حتى نهاية الأسبوع الأول من الزلزال”، مشيرًا إلى أنه “على الأقل كان على الحكومة والائتلاف أن يشكلا مركز معلومات مركزي يجمع الاحتياجات في مكان واحد ويوجه المنظمات الاغاثية بحيث يتم سد الفجوات الاغاثية في المناطق الأكثر حاجة، كل ذلك لم يحدث”.
يبدو أن كل هذه المشكلات ليست عصية على الحل، لكن مع غياب طرف سياسي سوري صادق مع قضية الشعب السوري لا يمكن حلها، وهو ما يؤكده الدكتور العيتي بقوله: “لكن يبقى التغيير مرهونًا بوجود طرف سياسي يمثل السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، طرف ذو شرعية داخلية وخارجية يطالب بهذه التغييرات ويتابع تنفيذها، لكن هذا الطرف غير موجود للأسف”.