كانت أضرار الزلزال الذي ضرب مدن الشمال السوري قاسيةً جدًا، خاصة أن هذه المنطقة تعيش ويلات الحرب التي يشنها بشار الأسد على الشعب السوري منذ 12 عامًا، وقد تجاوز عدد قتلى الزلزال في الشمال 4000 قتيل وآلاف الإصابات فضلًا عن خراب آلاف البيوت، فيما يعاني اليوم الآلاف من الناس “نوبات هلع واضطرابات نفسية” نتيجة الرعب الذي أحدثه الزلزال في النفوس.
تقول آلاء المحمد متطوعة في إحدى الفرق شمال سوريا: “الحالة النفسية سيئة جدًا خاصة للنساء والأطفال في المناطق التي ضربها الزلزال”، وتضيف آلاء في حديثها لـ”نون بوست”: “الاضطرابات النفسية التي أصابت الناس لا يمكن علاجها بسهولة أبدًا، هذا الأمر بحاجة إلى توسيع عمل المنظمات الطبية والإنسانية وإدراج حملات الدعم النفسي كشكل أساسي من أشكال الدعم المقدّم وعدم اقتصار هذا الدعم على الطعام والشراب والمسكن”.
صلاح السماعيل أب لأربعة أطفال يسكن في مدينة سلقين التي عانت من دمار كبير نتيجة الزلزال وتوفي فيها أكثر من 500 شخص تحت ركام المنازل، يقول إن بنته هاجر البالغة من العمر 7 سنوات، عانت من صعوبات في النوم في الأيام الأولى بعد الزلزال، مضيفًا “من أجل ذلك تركنا بيتنا وجلسنا في خيمة وأقنعناها أن الجلوس في الخيمة لن يؤثر عليها حال تكرر الزلزال لأن الخيمة من قماش ولا يمكن أن تسبب ضررًا”.
ذهب صلاح إلى الطبيب من أجل أن يجد حلًا لخوف أولاده في الليل، قائلًا في حديثه لـ”نون بوست”: “يستيقظ الأولاد نتيجة الكوابيس التي تلاحقهم، بعض هذه الكوابيس عبارة عن تجدد الزلزال وبعضها الآخر أن البيت يتدمر”، ويضيف “أعرف طبيب عظمية في حارتنا، ما من طيبي في أي اختصاص غيره هنا، ذهبت إليه لكي يعطيني علاجًا مهدئًا أو منومًا من أجل هؤلاء الأطفال، لكنه قال لي عليك أن تذهب إلى عيادات الدعم النفسي والأطباء النفسيين من أجل الإسراع بعلاج هذه الحالات”، مشيرًا إلى أنه لم يكن يعلم بوجود أطباء نفسيين في المنطقة.
التقى صلاح في عيادة الدعم النفسي بالمتطوعة آلاء التي بدورها استشارت أطباء في أوروبا من أجل هذه الحالة وأشاروا عليها ماذا تفعل مع الأطفال ودور الوالدين، عند حديثنا مع آلاء روت لنا الكثير من قصص الناس المصابة بالحالات النفسية التي يجب علاجها وأوصلتنا بدورها بالسيد صلاح.
وقالت آلاء، إن أطفال الرجل الأربعة مصابون بحالات هلع وهو بات يعاني نفسيًا من حالاتهم، لم يتأثر بالزلزال لكن نفسيته محطمة بما حصل لأولاده، فقد نسي الزلزال وما خلفه وبات يسرح بحالة صغاره.
الحالة النفسية المتدهورة أصلًا
خلال الأعوام الماضية، أصبح مئات آلاف السوريين يعانون من أزمات نفسية نتيجة لما رأوه وعاينوه من حرب نظام الأسد عليهم، خاصة القصف بالبراميل والطيران الحربي، وكانت الفئات الأكثر تأثرًا بذلك هم النساء والأطفال، لكن كثيرًا من العوائل لم يكونوا على دراية بما يحصل لأطفالهم وماذا عليهم أن يفعلوا من أجلهم، خاصة أن هذه الثقافة لم تكن تنتشر بالقدر المطلوب في سوريا قبل الثورة.
في تقرير سابق قالت منظمة “أنقذوا الطفولة” البريطانية في تقرير إن الأطفال السوريين النازحين يشعرون بالقلق والإرهاق والخوف من العودة إلى ديارهم، وفي تقارير لها تشير المنظمة إلى أن عدد الأطفال المُصابين بالصدمات النفسية يرتفع لدرجة أنه من الممكن أن تتسبب بضرر دائم مدى الحياة”.
وقالت المنظمة: “الأطفال خاصة في مناطق الشمال السوري يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة”، وأشارت إلى أنه تشيع بينهم ظواهر فقدان القدرة على النطق والعدوانية والخوف من الأصوات المرتفعة.
زاد الزلزال الأخير من وطأة الحالة النفسية على الأطفال السوريين بالخصوص والناس بشكل عام، وفي هذا السياق يقول ثائر شامية أحد العاملين في عيادة للدعم النفسي لـ”نون بوست”: “أتى الزلزال ليكرس الحالة النفسية السيئة للقاطنين في الشمال السوري خاصة الأطفال، ويزيد من وطأتها على الناس”، مضيفًا “الحالة النفسية في الأصل متدهورة فكيف بنا وقد ضربنا الزلزال الآن”، يكمل شامية قوله: “بصراحة أنا أحتاج إلى من يعالجني الآن فكيف بي وأنا أقدم الدعم النفسي للأطفال”.
آلية الدعم النفسي
تتوزع العديد من المنظمات الطبية في الشمال السوري، وتقدم خدمات الدعم النفسي والاجتماعي للمناطق التي تستطيع الوصول إليها، ومن هذه المنظمات منظمة “إحياء الأمل” المختصة في مجال الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي في المنطقة، وعملت هذه المنظمة في ظروف الحرب خلال السنوات الماضية وتقدم خدماتها لآلاف السوريين من خلال فرقها المنتشرة.
السيد صلاح الدين لكه المختص بمجال الصحة النفسية في منظمة إحياء الأمل أوضح لـ”نون بوست” آلية الاستجابة للصحة النفسية والدعم الاجتماعي في الشمال السوري، ويقسم السيد لكه آلية الاستجابة إلى أقسام متعددة ويربطها باحتياجات المتضررين الغذائية والصحية والإيواء والمياة النظيفة وغيرها، مشيرًا إلى أن الصحة النفسية تعد جزءًا من الصحة العامة، موضحًا أن آلية عملهم تعتمد على آليات عمل الأمم المتحدة التي أقرتها في تسعينيات القرن الماضي الخاصة بتوفير الخدمات خلال الأزمات ومنها الزلازل.
وتقسم الاستجابة إلى أربعة أقسام أساسية وفقًا لصلاح الدين، وتبدأ بتوفير الخدمات الأساسية ويكون المستهدف هنا كل المتضررين من الكارثة.
ثانيًا يتم العمل على برامج وأنشطة الدعم الأسري والاجتماعي التي تهدف إلى إعادة بناء وتعزيز الدعم المجتمعي، وتتضمن أنشطة للأطفال لتلبية احتياجاتهم الإنمائية والاجتماعية والتخفيف عنهم مثل مساحات اللعب الآمنة، إضافة إلى البرامج الموجهة لإعادة لم شمل الأسر والمجتمعات، وتقويتها وجلسات نشر المعلومات والتوعية، ويقوم على هذا الأمر عاملون إنسانيون مؤهلون ومدربون يطلق عليهم “ميسرو الأنشطة”، ووفقًا لما قاله فإن نسبة المحتاجين لهذه الخدمات من مجموع السكان المتضررين تبلغ من 30 إلى 50% من مجموع المتضررين.
في المرحلة الثالثة، يتم تقديم برامج وأنشطة الدعم النفسي الاجتماعي المركزة غير المتخصصة، وذلك من خلال توفير المشورة الفردية ودعم أساليب التكيف وتحديد المشكلات والعمل على دعم أساليب التعامل معها.
الأنشطة والبرامج تكون عبارة عن مجموعات إدارة الضغوط للسيدات بالإضافة إلى مجموعات دعم المراهقين، عدا عن الاستماع للرجال والشباب وتتضمن أيضًا العون النفسي الأولي، ويقدم الخدمات في هذه المرحلة عاملون إنسانيون مؤهلون ومدربون على مثل هذا النوع من الكوارث، وتقدر نسبة المحتاجين للخدمات في هذا المستوى من 15 إلى 20% من المتضررين.
بالانتقال إلى المستوى الرابع، فهو الأشد تأثرًا حيث تقدم خدمات صحة نفسية عيادية متخصصة، ويقدم الدعم للأفراد الذين كان وقع الكارثة عليهم شديدًا وتأثروا بشكل أكبر من غيرهم، ويقدم الخدمات عادة في هذا المستوى الأطباء النفسيون والمعالجون، وقد يلزم وصف الطبيب النفسي لأدوية، ويقدر عدد المحتاجين لهذه الخدمات بنحو 5% من المتضررين.
وعلى الرغم من أن الزلزال عطّل وقوض بعض سبل العيش في الشمال السوري، فإن صلاح الدين لكه يتحدث عن خبرة كبيرة مكتسبة في مجال الدعم النفسي والمجتمعي في هذه المنطقة خاصة بعد الكوارث التي شهدها الشمال السوري خلال السنوات الماضية، وأكد قائلًا: “خلال الأسبوعين المنصرمين بعد الزلزال، استجابة المجتمع السوري كانت بغاية التنظيم والأسبقية والمبادرة”.
فرق
وفي سياق العمل المنظماتي والمؤسساتي في مجال الصحة النفسية في الشمال السوري يتكلم لكه عن آلية عمل مؤسستهم، فبالتنسيق مع مجموعة التقنية للصحة النفسية لشمال غرب سوريا تم “توجيه الجهود للاطمئنان على العاملين والمتطوعين في المنظمة والبالغ عددهم نحو 200 موظف ومتطوع، مقيمين في كل من تركيا وشمال غرب سوريا”.
ويضيف “شارك موظفو المنظمة بفاعلية في اجتماعات الأجسام الإنسانية التنسيقية التي تعنى بتنظيم الاستجابة وتكامل الجهود وجرى بحث مقترحات الاستجابة، ومعلومات عن أساليب التكيف الإيجابية والعناية بالأطفال والأهالي”.
أطلق العاملون في المجال النفسي فرق جوالة لزيارة الأسر النازحة والمتضررة في مناطق بمحافظتي إدلب وريف حلب، كما نشطت فرق المنظمة المختلفة (حماية الطفل وفرق الحماية من العنف وفرق الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي) لتوفير العون النفسي الأولي والعمل على توثيق حالات الأطفال المنفصلين عن ذويهم، وتوفير الدعم للأمهات بخصوص سبل التعامل مع الضغوط وسبل توفير الدعم للأطفال والأسرة.
خصصت الكثير من المنظمات العاملة في الصحة النفسية خلال الأسبوع الأول أرقامًا هاتفية، وغرفًا على منصة “زووم” لتوفير خدمة الاستشارات النفسية عبر الهاتف، حيث يعمل مختصون نفسيون على توفير الدعم للأهالي والعاملين في الاستجابة بمناطق شمال غرب سوريا، ومن هذه المؤسسات:
– منظمة إحياء الأمل.
– الجمعية السورية لاتحاد المنظمات الإغاثية.
– الجمعية السورية الألمانية DSV.
– منظمة عطاء.
– أطباء العالم.
– الجمعية السورية للصحة النفسية “سمح”.
– الرابطة السورية للداعمين النفسيين.
– فريق مختص من المجموعة التقنية للصحة النفسية لشمال غرب سوريا.
– منظمات: هيا ورحمة وحراس.
عوائق
رغم هذه الاستجابة الطارئة التي حصلت من هذه المنظمات، فإن عوائق كثيرة تواجه الفرق والعاملين في مجال الصحة النفسية في الكوارث والأزمات بالشمال السوري، وهنا تقول المتطوعة آلاء المحمد إن أحد أكبر العوائق التي تواجه فرق الدعم النفسي تتمثل بـ”عدم اكتراث بعض العوائل للحالة النفسية لأطفالهم، وهذا الأمر راجع لعدم وجود هذه الثقافة في المجتمع”، وتضيف المحمد “بعض الآباء والأمهات يقولون إن الأطفال والعوائل بحاجة إلى إغاثة مالية وغذائية أما الألم النفسي، فينحل مع الوقت”.
صلاح الدين لكه يلخص العوائق من وجهة نظره بعدة نقاط وهي:
1- الفريق الذي يقدم الاستجابة والخدمات هو من المجتمع المتضرر نفسه.
2- تخوف الموظفين على أنفسهم وعلى أسرهم، وعلى قدرتهم على توفير احتياجاتهم واحتياجات أسرهم، خصوصًا أنهم أنفسهم وأسرهم تضرروا من الزلزال.
3- تضرر البنى التحتية في شمال غرب سوريا، ما أوجد مخيمات مؤقتة جديدة واكتظاظ سكاني في مخيمات قائمة.
4- اختفاء بعض المواد الأساسية من الأسواق وتأخر وصولها، خصوصًا أدوية الصحة النفسية.
بالمحصلة، لا يمكن إغفال الحالة النفسية لضحايا الكوارث والحروب، وكذلك لا يمكن إهمال تقديم العون والمساعدة للفرق والمؤسسات التي تعمل على تقديم العون المجتمعي والنفسي، فمثلما أن التدفئة والإغاثة وتأمين المأوى مهم للعوائل يأتي الدعم النفسي ليحل في قائمة الأولويات التي يجب تقديمها مبكرًا خاصة للأطفال، لأن الآثار قد لا تظهر بعد حدوث الكوارث فورًا إنما يتأخر ظهورها وفي حال عدم تقديم الدعم النفسي يمكن أن يتطور الأمر لما هو أخطر.