اختتمت النسخة السادسة والثلاثين من قمة رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي التي عقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا خلال الفترة من 17 – 19 من فبراير/شباط الحالي، أعمالها، بحزمة من القرارات والمطالب التي تستهدف الارتقاء بالقارة السمراء وتخفيف منسوب التوتر المتصاعد بين ثناياها.
القمة الإفريقية التي شارك فيها 35 رئيس دولة و4 رؤساء حكومات وتولى رئاستها رئيس جزر القمر خلفًا لنظيره السنغالي الذي كان يرأس الدورة الأخيرة من الاتحاد الإفريقي، جاءت تحت شعار “تسريع تنفيذ منطقة التجارة الحرة الإفريقية القارية” وسط التحديات الاقتصادية بالغة الخطورة التي تواجه شعوب القارة وتعززت بالحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها ومن قبلها جائحة كورونا.
وعلى جدول الأعمال فرضت العديد من الملفات السياسية والاقتصادية نفسها، فيما تبنى المشاركون مبادرة “إسكات البنادق” التي تستهدف إنهاء النزاعات المسلحة داخل إفريقيا بحلول 2030 بعدما تحول الملف الأمني إلى “بعبع” القارة، وكابوسها الأكثر رعبًا والطاعون الذي يلتهم أمامه كل جهود ومساعي التنمية، في ظل تفشي الصراعات المسلحة كالوباء بين جنبات إفريقيا.
يذكر أن الاتحاد الإفريقي كان قد أقر مبادرة “إسكات البنادق” عام 2013 كأحد محاور الخطة العشرية لأجندة 2063، وتهدف إلى جعل إفريقيا آمنة بحلول 2020 عبر إنهاء جميع الحروب والنزاعات الأهلية، ووأد كل ممارسات العنف القائم بسبب العرق أو الجنس أو اللون، لكن التلعثم في تنفيذها دفع لتمديدها إلى 2023، وها هي تُمد إلى 2030.. فهل تستطيع القارة تنفيذها بشكل كامل في غضون سبع سنوات فقط؟
الديون والحرب الروسية على رأس القضايا
تضمن البيان الختامي للقمة قائمة من المشروعات والقرارات المرفوعة من المجلس الوزاري التمهيدي، الذي شمل قضايا سياسية واقتصادية وأمنية، على رأسها تسريع تفعيل منطقة التجارة الحرّة الإفريقية ودعم عمليات التحول الديمقراطي، ورفض الانقلابات العسكرية وعدم الاعتراف بالأنظمة القائمة عليها.
البيان دعا كذلك إلى “دعم توجه دولة فلسطين للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة والدعوة لدعمها دوليًا”، فيما طالب مفوّض السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي بانكول أديوي ما أسماهم “الجهات الراعية للمرتزقة والمقاتلين الأجانب” بسحبهم فورًا من إفريقيا.
وعن تداعيات الحرب الروسية على القارة قال رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا: “روسيا باتت تشكل تحديًا كبيرًا، ليس في أوكرانيا فحسب ولكن في مناطق أخرى في العالم بما في ذلك القارة الإفريقية”، مشددًا في تصريحات صحفية له لـ “الجزيرة” على هامش مشاركة بلاده كمراقب في القمة على ضرورة تعزيز الحضور الأوروبي في إفريقيا لمواجهة النفوذ الروسي.
واحتلت ديون القارة أهمية بالغة في مناقشات القمة، إذ كشف الوزير الأول الجزائري أيمن بن عبد الرحمن عن تكريس معظم الدول الإفريقية لجزء كبير من ميزانيتها لدفع الديون، مضيفًا في تصريحات له على هامش القمة، “أنه لا يمكن لكثير من الدول الإفريقية الصمود حتى نهاية العام الحالي بسبب أعباء هذه الديون” وفق قوله.
الأمن.. معضلة القارة الرئيسية
يمثل الأمن المعضلة الأساسية للقارة الإفريقية التي تقود خلفها كل المعضلات السياسية والاقتصادية الأخرى، وتنحصر التهديدات الأمنية التي تواجه القارة في مصدرين رئيسين، الأول هو الصراعات المسلحة بين الجماعات والتنظيمات على الموارد الطبيعية اللازمة لبقاء الأفراد والمجتمعات على قيد الحياة، والثاني متعلق بالتمرد على الأنظمة والحكومات بسبب الأوضاع المعيشية، فكلاهما يمثل نصيب الأسد في قائمة المهددات.
وتشير الأرقام والإحصائيات إلى وقوع 6859 عملية عنف مرتبطة بالجماعات المسلحة في القارة الإفريقية خلال 2022 بزيادة قدرها 22% عن عام 2019، فيما ارتفع عدد القتلى جراء تلك العمليات إلى 19109 قتلى خلال العام الماضي مقارنة بـ 12920 في 2021 وذلك بارتفاع قدره 40% وفق مركز إفريقيا للدراسات ومقره واشنطن، وخلال الفترة من 2012 – 2020 زادت أعمال العنف في القارة بنسبة 400%، من 508 عملية عام 2012 إلى 2034 في 2020، بحسب تقديرات المركز الإفريقي لدراسات وبحوث الإرهاب التابع للاتحاد الإفريقي ومقره الجزائر.
من بين 41 صراعًا مستمرًا حتى الآن في مختلف بقاع الأرض؛ يدور 23 منهم داخل القارة السمراء، بما يمثل 56% من صراعات العالم الممتدة
وتتصدر منطقة غرب الساحل (بوركينا فاسو ومالي وغرب النيجر) قائمة المناطق الأكثر عنفًا في القارة (تمثل 40% من جميع أنشطة الجماعات المسلحة العنيفة) خلال عام 2022 بإجمالي 2737 حدثًا عنيفًا، بزيادة قدرها 36% عن العام الماضي، وفي الشرق جاء الصومال في المقدمة بعدد 2553 عملية عنف بزيادة 23% عن 2021، فيما تمثل 37% من جميع أعمال العنف التي تشهدها القارة، تليها موزمبيق التي وقع بها 437 عملية عنف العام الماضي بزيادة بلغت 29% عن العام قبل الماضي.
وقد أسفرت تلك العمليات المسلحة عن خسائر فادحة للقارة، بلغت نحو 119 مليار دولار خلال الفترة من 2007 – 2016 بحسب دراسة للأمم المتحدة في 2019، فيما بلغ الأثر الاقتصادي الإجمالي للاجئين والنازحين داخليًا مليار دولار، مع ترجيح زيادة حجم تلك الأرقام خلال السنوات الستة الأخيرة من 2016 – 2022.
وقد أرجع الخبراء والباحثون تلك الفوضى الأمنية التي تعاني منها إفريقيا إلى عدة أسباب أبرزها غياب التنسيق الأمني بين بلدان القارة، وضعف مراقبة الحدود بين الدول، بجانب تفشي الفساد السياسي والاقتصادي، وتوغل الأنظمة السلطوية الديكتاتورية، فضلًا عن التدخلات الخارجية التي تلعب دورًا كبيرًا في تأجيج الصرعات وإذكاء نيران النزاعات.
خريطة النزاعات
في دراسة لها كشفت الباحثة الشيماء عرفات عن احتلال إفريقيا مرتبة الصدارة في خريطة الصراعات في العالم، فمن بين 41 صراعًا مستمرًا حتى الآن في مختلف بقاع الأرض؛ يدور 23 منهم داخل القارة السمراء، بما يمثل 56% من صراعات العالم الممتدة.
وتحولت القارة التي كانت مرتعًا لحضارات العالم وبستان ثرواته الطبيعية، إلى قبلة النزاعات القبلية والعرقية والدينية، واستحالت نعمة ثراها الطبيعي إلى نقمة دفعتها لأن تكون معركة تنافس بين القوى الاقتصادية الغازية الكبرى خلال العقود الماضية، فجففوا ضرعها وجردوها من ثرواتها، أما الفتات فتُرك للجماعات المسلحة تتنازع بشأنه بحثًا عن الحياة والبقاء حتى صارت القارة عنوان العنف في العالم.
الدراسة استعرضت أبرز الصراعات التي تعاني منها إفريقيا ودفعتها لأن تكون في الصدارة، منها: تمرد جماعة “بوكوحرام” في نيجيريا التي تأسست عام 2002 وخلفت وراءها جراء أعمالها المسلحة في نيجيريا والكاميرون وتشاد والنيجر وبنين أكثر من 21 ألف قتيل.
كذلك الحرب الأهلية في الصومال التي بدأت عام 1991 بعد مقاومة الفصائل المختلفة لحكم الرئيس سياد برى وانهيار حكمه، وأسفرت عن أكثر من نصف مليون قتيل منهم 4 آلاف شخص في العام الماضي، الوضع كذلك في ليبيا، حيث أسفرت الحرب الدائرة هناك منذ اندلاع الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط 2011 عن أكثر من 14 ألف قتيل.
أما الصراع على جنوب كردفان في السودان الذي بدأ عام 2011 قبيل انفصال جنوب السودان، فأسفر عما يزيد على خمسة آلاف قتيل منهم ما يزيد على ألف قتيل في 2015، وفي جنوب السودان أدت الحرب الأهلية التي اندلعت هناك في ديسمبر/كانون الأول 2013 بين قوات الجيش تحت قيادة رئيس البلاد (سالفا كير) وميلشيات المعارضة تحت قيادة النائب السابق لرئيس جنوب السودان (رياك مشار) إلى ما يزيد على 10 آلاف قتيل مسجل إلى 50 ألف قتيل يزعم عدم تسجليهم.
وفي أوجادين بإثيوبيا، أسفر التمرد الانفصالي هناك الممتد منذ 1963 عما يقرب من 1300 قتيل، أما تمرد قوات التحالف الديمقراطي ضد دولتي أوغندا والكونغو، الذي بدأ أولى هجماته عام 1995 فخلف وراءه ما يزيد على 3 آلاف قتيل، فيما خلفت الصراعات الطائفية في نيجيريا المندلعة منذ عام 1998 نحو 16 ألف قتيل.
رغم الجهود التي تبذلها القارة في هذا الإطار كاتفاق المصالحة في إثيوبيا وتخفيف التوتر في منطقة البحيرت العظمى، فإن ذلك لم يكن كافيًا لتلبية المطالب وتحقيق الطموحات
كما خلفت الاضطرابات في بلاد المغرب العربي التي بدأت منذ عام 2002 بعد انتهاء الحرب الأهلية الجزائرية، وتشكيل ما عرف بتنظيم “تحرير المغرب العربي من الوجود الغربي والموالين له وحماية بلدان المغرب العربي من الأطماع الخارجية”، عن سقوط أكثر من 3 آلاف قتيل جراء العمليات التي قام بها هذا الكيان في تونس ومالي وموريتانيا.
وفي دارفور أسفر الصراع المسلح هناك منذ عام 2003 وحتى اليوم بين الجيش السوداني والشرطة وقبائل الجنجويد من جانب وحركتي العدل والمساواة والتحربر من جانب آخر، عن سقوط 178 ألف قتيل، مقارنة بمليون و600 ألف قتيل خلفها الصراع بين قبيلتي الهوتو (الأغلبية العددية 85%من السكان ) والتوتسي (المهيمنة سياسيًا واجتماعيًا على قلة أعدادهم – 14% من السكان) في رواندا وبرووندى منذ 2004 وحتى اليوم.
وفي إفريقيا الوسطى فخلف الصراع المحتدم هناك منذ 2012 بين المعارضة ممثلة في قوات “السيليكا” والرئيس بوزيزيه، عن سقوط ما يزيد على 6 آلاف قتيل بالإضافة لنزوح عشرات الآلاف من المسلمين للبلاد المجاورة، وفي شمال مالي كان الوضع مشابهًا حيث أسفر النزاع هناك عن مقتل أكثر من ألفين شخص.
ومن الصراعات العنيفة في القارة الصراع على إقليم كابيندا بأنجولا، الذي اندلع عام 1975 بهدف محاولة فصل إقليم كابيندا عن أنجولا وتقوده جبهة تحرير كابيندا بالأساس بالإضافة لجبهات أخرى، وأسفر عما يزيد على 30 ألف قتيل، كذلك تمرد جيش الرب للمقاومة في أوغندا، وهي الجماعة الأكثر وحشية في العالم كما يطلقون عليها، حيث خلف هذا التمرد أكثر من 100 ألف قتل وزيادة عن مليون نازح.
وهناك العديد من الصراعات الأخرى التي زادت من حصة أرقام الضحايا داخل القارة سواء في النيجر أو موزمبيق أو إريتريا وبورندي والكونغو، بجانب أعمال العنف التي تشهدها سيناء المصرية (شرق) منذ 2011 والمستمرة حتى اليوم وأسفرت عن مقتل أكثر من 3500 شخص.
7 سنوات فقط.. هل هي مدة كافية؟
في ضوء هذا الاستعراض لخريطة النزاعات في القارة، التي يمتد بعضها إلى عشرات السنين، ضاربًا بجذوره في صلب الدول وقيعانها التاريخية، يبقى السؤال: هل يمكن تجفيف منابع تلك الصراعات ووأدها وتحويل القارة إلى منطقة آمنة بحلول 2030 وفق المبادرة المعلنة خلال القمة الأخيرة رغم الفشل في تحقيق ذلك في 2020 كخطة زمنية أولية ثم تأجيلها إلى 2023 وصولًا إلى الخط الزمني الجديد 2023؟
المراقبون يرون أن هناك العديد من التحديات التي تجعل من المهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة، ورغم الجهود التي تبذلها القارة في هذا الإطار كاتفاق المصالحة في إثيوبيا وتخفيف التوتر في منطقة البحيرت العظمى، فإن ذلك لم يكن كافيًا لتلبية المطالب وتحقيق الطموحات.
غير أن فكرة الإبقاء على مثل تلك المبادرات على قيد الحياة، هو نجاح في حد ذاته حتى إن لم يتم تحقيقها بالكلية، وفق ما ذهبت الباحثة في معهد الدراسات الأمنية جوجو دوبي، التي ترى أن هناك العديد من التحديات التي تعرقل جهود الاتحاد الإفريقي في تحقيق هدفه في جعل القارة خالية من النزاعات في 2020 منها تعقيد بعض الصراعات المسلحة داخل القارة واستمرارها لسنوات طويلة بجانب انتشار السلاح والجماعات المسلحة دون رقابة أو محاسبة.
وعما إذا كان الجو ملائمًا حاليًا لتعزيز المبادرة وتحقيق خطوات تقدمية بشأنها يرى أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بريتوريا وزميل أول في معهد مابونجوبوي للتفكير الإستراتيجي، البروفيسور غارث لي بير، عكس ذلك، مطالبًا الجميع بالتعلم من تجارب الماضي والاستفادة من التقصير في الجهود المبذولة، منوهًا أنه رغم مرور عدة سنوات على انطلاق المبادرة في 2013 لا تزال الصراعات متأججة فضلًا عن تفجر صراعات جديدة ما كانت موجودة آنذاك، وهو ما يصعب من المهمة ويتطلب مزيدًا من التنسيق والجهد المبذول.