تعيش مدينة القدس المحتلة حالة من الغليان الشعبي أمام تصاعد الإجراءات الإسرائيلية بحقّ المقدسيين، بعد سلسلة القرارات التي أعلن عنها إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي في حكومة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو.
وتصاعدت حدة التوتر في مخيم شعفاط في أعقاب عملية الدهس التي نفّذها الشاب حسين قراقع في 10 فبراير/ شباط، والتي أودت بحياة مستوطنَين إسرائيليَّين وإصابة 5 آخرين بجراح متفاوتة، وما تبعها من قرارات إسرائيلية.
عنوان جديد للمواجهة
وفي ضوء الحالة القائمة، ذهب وزير الأمن القومي الإسرائيلي، بن غفير، إلى الإعلان عن “السور الواقي 2″، في إشارة إلى العملية العسكرية التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي عام 2002، حينما اجتاح مدينة رام الله وأغلب مدن الضفة الغربية.
وتتمثّل هذه العملية العسكرية التي حظيت بسخرية واسعة من الساسة الإسرائيليين المعارضين للحكومة الحالية، بالإضافة إلى المراسلين العسكريين؛ بتصعيد هدم البيوت في القدس المحتلة والاعتقالات وزيادة الضغط على المقدسيين في المدينة.
ومن بين الأحياء التي تمَّ التركيز عليها، مخيم شعفاط الذي يطلَق عليه أحيانًا مخيم عناتا، وهو أحد المخيمات التي أُنشئت بسبب حركة النزوح للاجئين الفلسطينيين، على مساحة تقارب الـ 200 دونم حاليًّا في أراضي ما بين قريتَي عناتا وشعفاط، ضمن حدود القدس في الضفة الغربية.
وبدأت حركة النزوح إلى هذا المخيم من عام 1965 إلى ما بعد حرب حزيران، وهو بحسب وكالة الغوث الدولية المخيم الوحيد الذي يحمل قاطنوه الهوية الإسرائيلية (دون الجنسية) أو ما يُسمّى بالهوية المقدسية، على خلاف هوية عرب 48، وتقول الأونروا (وكالة الغوث الدولية) إن هذا المخيم قد أُقيم بديلًا لمخيم المعسكر الذي كان في البلدة القديمة، بجانب حائط البراق أو الجهة الغربية للمسجد الأقصى.
طالت الاعتداءات النساء والأطفال والمسنّين، وتعمّد جنود الاحتلال إذلال الشبّان بشكل كبير عبر إجبارهم على خلع ملابسهم، وتفريغ جيوبهم ومحتويات حقائبهم أمام العشرات.
وشكّلت القدس المحتلة منذ عام 2014 بؤرًا حقيقية للهبّات الشعبية الفلسطينية في وجه الاحتلال، سرعان ما تحوّل بعضها إلى مواجهات بين المقاومة والاحتلال في غزة، أو أسهمت في تصاعد العمليات كما حصل في فترات ما بعد عام 2015.
ومع اقتراب شهر رمضان المبارك وارتفاع التحذيرات من التصعيد الإسرائيلي، فإن الوسطاء يخشون من أن تشكّل القدس المحتلة وملف المسجد الأقصى عنوانًا جديدًا للمواجهة الشاملة بين الفلسطينيين ومقاومتهم من جانب، و”إسرائيل” من جانب آخر.
في الوقت ذاته، لجأ الفلسطينيون في شعفاط إلى “العصيان المدني”، كإجراء مضادّ لمواجهة القرارات والخطوات الإسرائيلية التنكيلية بحقّهم، عبر إغلاق الطرق ومنع الحركة وإغلاق المحال التجارية، وعدم الذهاب إلى المؤسسات والمدارس.
وتعتبَر خطوة العصيان المدني الحالية هي الثانية خلال 5 أشهر، ردًّا على العقوبات الإسرائيلية التي تمثّلت في إغلاق الحاجز المقام على أبواب المخيم أمام حركة المارّة والمركبات، كأولى خطوات العقاب الجماعي الإسرائيلي ضد عشرات آلاف المقدسيين الذين عُزلوا بقوة الاحتلال خلف الجدار المقام حول المدينة منذ سنوات.
وطالت الاعتداءات النساء والأطفال والمسنين، وتعمّد جنود الاحتلال إذلال الشبّان بشكل كبير عبر إجبارهم على خلع ملابسهم وتفريغ جيوبهم ومحتويات حقائبهم أمام العشرات، وفي حال اعترض أحدهم ينتظره مصير أكثر قتامة فيُضرَب بشكل مبرح، قبل أن يُعتقَل ويُقتاد إلى أحد مراكز التحقيق.
سياق الهبّات المقدسية.. ما الذي حصل منذ عام 2014؟
5 مواجهات شهدتها القدس على مدى 8 سنوات مضت، بدءًا من هبّة الفتى الشهيد محمد أبو خضير في يوليو/ تموز 2014، ثم هبّة السكاكين في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، فهبّة باب الأسباط في يوليو/ تموز 2017، وهبّة باب الرحمة في فبراير/ شباط 2019، ومواجهة رمضان وصولًا إلى معركة “سيف القدس” عام 2021.
ولم تخرج القدس في أي من هذه الهبّات إلا وتمكّنت من فرض تراجع على الاحتلال: في عام 2014 انتهت إلى إعلان نتنياهو وقف اقتحامات أعضاء الكنيست والحكومة للأقصى لأكثر من عام، وشكّلت رادعًا مؤقتًا لعدوان المستوطنين.
وفي عام 2015 فرضت القدس على الحكومة الإسرائيلية التراجع عن مخطط التقسيم الزماني التام، ومنع المسلمين من دخول الأقصى في الأعياد اليهودية، كما فرضت تجديد وقف اقتحامات المسؤولين الصهاينة، وفي عام 2017 فرضت تفكيك البوابات الإلكترونية وكل ما تعلّق بها.
في عام 2022 جرّب المحتل أقصى درجات ترشيد القوة: أوقف كل عمليات الهدم ونزع فتيل أزمة حي الشيخ جراح في أرض النقاع قبل رمضان.
في عام 2019 فرضت الهبّة فتح مبنى باب الرحمة واستعادته إلى أصله الديني كمُصلّى، وذلك بعد 16 عامًا كاملة من إغلاقه والتعويل الصهيوني على قضمه.
وفي عام 2021 فرضت الإرادة الشعبية على المحتل 3 تراجعات كبرى، فتراجع عن إغلاق ساحة باب العمود بالحواجز المعدنية المؤقتة، وتراجع عن تهجير حي كرم الجاعوني في الشيخ جراح، وتراجع عن اقتحام 28 رمضان صاغرًا، قبل أن تدخل المقاومة إلى المشهد بمعركة “سيف القدس” فتفرض على الاحتلال تراجعات لم يعرفها من قبل.
وشكّلت هذه الهبّات، لا سيما معركة القدس، عاملًا مهمًّا في تراكم عناصر معادلة الردع عبر الحراك جماهيري، ثم عمليات ذات دافع فردي، ثم التفاعل والاحتضان الخارجي، ثم تدخُّل المقاومة المسلحة في قطاع غزة.
ثم في عام 2022 انضمت إليها بؤر المقاومة المسلحة التي تفلتت من مشروع وأد المقاومة في الضفة الغربية، 5 عناصر ردع، نطاق أوسع للفعل ووحدة أكبر للساحات، هذا كان القطاف النهائي لكل جهود الاحتلال في القدس على مدى 8 سنوات.
وفي عام 2022 جرّب المحتل أقصى درجات ترشيد القوة: أوقف كل عمليات الهدم ونزع فتيل أزمة حي الشيخ جراح في أرض النقاع قبل رمضان أيضًا، كما مارسَ ضبطًا للأعداد وأغلق الفتحات أمام زوار القدس من الضفة الغربية، وزجَّ بلوائَين من قواته شبه العسكرية في محيط البلدة القديمة.
وأيضًا بادر إلى استباق المواجهة الشعبية في الوقت المواتي له حتى لا يسمح لها أن تنضج، ونسّق مع محيطه الإقليمي ليحصل على غطاء عربي لعدوانه في قمة النقب، ونسّق مع حلفائه الدوليين واستنفرَ حتى أوسع مناورات لجيشه في 29 مايو/ أيار 2022، ليتمكّن من إدخال مستوطنيه من باب العمود في مسيرة الأعلام.
هل يحقّق المقدسيون انتصارًا جديدًا؟
يمكن القول إن جميع الهبّات التي شهدتها القدس المحتلة على مدار 8 سنوات لم تشهد تحقيق الإسرائيليين أي من أهدافهم أو النجاح، بل كانوا يتراجعون تحت تأثير الضغط الشعبي في المدينة وتهديدات المقاومة تارة أخرى.
اليوم يبدو المشهد مختلفًا من ناحية تواجد حكومة يمينية أكثر تطرفًا من سابقتها، في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بأحداث داخلية وخارجية بعيدًا عن القضية الفلسطينية، لا سيما بعد حرب أوكرانيا وروسيا والزلزال الذي ضرب تركيا وشمالي سوريا وغيرها من الملفات الأخيرة.
وأمام هذا المشهد لا يبدو الملف الفلسطيني بعيدًا عن دائرة الاهتمام كثيرًا، وإن كانت القوى الخارجية معنية بتبريد الحالة الفلسطينية، لكن السلوك الإسرائيلي يعجّل بانفجار المشهد ودفعه نحو هبّة جديدة قد تشعل فتيل المنطقة بالكامل.
ورغم حالة التصعيد التي ينتهجها بن غفير في تعامله وقراراته على الصعيد الفلسطيني، إلا أن المقدسيين بشكلٍ خاصّ والفلسطينيين بشكل عامّ لديهم القدرة من جديد على توجيه ضربة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية، وإحباط جميع المشاريع الرامية إلى إبعادهم عن أراضيهم.
وإلى جانب سكان القدس، تبدو المقاومة الفلسطينية متأهّبة للحضور في الحالة الفلسطينية في الوقت المناسب الذي تحدده، بناءً على سير المشهد على أرض الميدان بعد أن تستنزَف الحالة الشعبية والميدانية بكامل أدواتها.
سيناريوهات وإجراءات.. كيف يفشل الإسرائيليون أمام الفلسطينيين في القدس؟
في أعقاب عملية الدهس الأخيرة في القدس، أطلق وزراء الاحتلال سلسلة من القرارات المتعلقة بفرض العقوبات على سكان المدينة، ضمن محاولتهم المستميتة لوقف العمليات الفردية وضبط الحالة الأمنية، في ظل عجز المنظومة الأمنية والعسكرية عن وقفها.
وجاءت أولى العقوبات التي صدرت عن وزير الحرب، يوآف غالانت، الذي قرر فرض عقوبات مالية على 87 أسيرًا مقدسيًّا وعائلاتهم، بذريعة تلقيهم مخصّصات من السلطة الفلسطينية، إذ تُرجمت العقوبات المالية على الأرض بأشكال متعددة، أبرزها الحجز على الحسابات البنكية لأسرى لا يزالون معتقلين وعائلاتهم، وكذلك لأسرى محررين (سابقين)، ومداهمة عشرات المنازل، ومصادرة مصاغ ذهبي وسيارات ومقتنيات أخرى ثمينة.
اللافت في العقوبات التي فُرضت من قبل المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، أن الإسرائيليين يدركون أن لها انعكاسات سلبية ستدفع إلى مزيد من العمليات الفلسطينية وليس منع وقوعها، وهو ما تسبّب في خلاف بين رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”، رونين بار، ووزير الأمن القومي، بن غفير، على خلفية مطالبته للأخير بتخفيف الإجراءات.
يمكن القول إن حضور ملفات أخرى مثل ملف الأسرى وعصيانهم الأخير على مصلحة السجون وقرارات بن غفير التنكيلية، سيعزز من الهبّة الشعبية الفلسطينية.
وكانت العقوبات المالية واحدة من سلسلة عقوبات تصاعدت أخيرًا ضد أهالي القدس، أبرزها تسريع إجراءات هدم المنازل، خاصة “الهدم العقابي” المتعلق بمنازل منفّذي العمليات.
كما لجأ الاحتلال قبل أيام إلى فصل زوجة الشهيد حسين قراقع من عملها كمساعدة تربوية، وتوعّد والده بسحب حقّ الإقامة في القدس منه، وذلك بعد مصادقة الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يقضي بسحب الجنسية الإسرائيلية المؤقتة أو حق الإقامة من منفّذي العمليات وعائلاتهم، بهدف ترحيلهم من العاصمة المقدسة.
بالعموم، يسير المشهد في القدس المحتلة نحو الانفجار والمواجهة أكثر منه نحو الهدوء، في ظل إصرار بن غفير على سياساته وإجراءاته، وهو ما سيجد مقاومة شعبية عارمة قد تتجاوز في مفهومها العام مصطلح الهبّة لتكون أشبه بانتفاضة.
ويمكن القول إن حضور ملفات أخرى مثل ملف الأسرى وعصيانهم الأخير على مصلحة السجون وقرارات بن غفير التنكيلية، سيعزز من الهبّة الشعبية الفلسطينية على صعيد القدس المحتلة أو في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسيرفع من وتيرة المواجهة وفرصها.