تحيا العلاقات المصرية الإماراتية هذه الأيام حالة تناغم ووئام لم تشهدها حتى بعد انقلاب 2013، فرغم التبايُن الكبير في وجهات النظر إزاء العديد من الملفات الإقليمية، إلا أن العلاقة بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ونظيره الإماراتي، محمد بن زايد، كانت كفيلة بتبريد هذا الخلاف وتجميده مؤقتًا.
وبعيدًا عن العلاقات الدافئة في الأساس بين البلدَين، كون أبوظبي أحد الأضلاع الرئيسية لوصول السيسي إلى رأس السلطة، بعد مشاركتها القوية في مخطط وأد الثورة والإطاحة بنظام الرئيس الراحل محمد مرسي، إلا أن الأشهر القليلة كانت أكثر دفئًا وحميمية، وصلت إلى تغليب العلاقات الشخصية لرئيسَي البلدَين على توجُّهات بلدَيهما.
يأتي هذا التقارب في وقت تعاني فيه علاقات القاهرة وأبوظبي معًا من توترات مع الرياض، تمثّلت في حزمة من الشواهد، وبينما كان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ثالث ثلاثة للسيسي وابن زايد في شتى اجتماعاتهم خلال السنوات الماضية، إذ به خارج المشهد تمامًا خلال آخر لقائَين جمعا بين حليفَيه، الخليجي والعربي.
إذ غاب عن القمة الخليجية العربية التي استضافتها أبوظبي في 18 يناير/ كانون الثاني الماضي، والتي شارك فيها السيسي وابن زايد، والسلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان، والملك حمد بن عيسى ملك البحرين، والشيخ تميم بن حمد أمير قطر، والملك عبد الله الثاني ملك الأردن، ومن قبلها غاب عن قمة العلمين التي استضافتها مصر في 23 أغسطس/ آب 2022 وحضرها قادة الإمارات والبحرين والأردن.
التقارب المصري الإماراتي في كنف السعودية حين كانت ضلعًا أسياسيًّا فيه ربما يكون مقبولًا ومشجّعًا من قبل سلطات المملكة، لكن تلك الهرولة نحو تجفيف منابع التوتر بين القاهرة وأبوظبي، وتسريع الخطى لعلاقة أشبه بتحالف ثنائي ينضمّ إليه بين الحين والآخر الأردن وفلسطين، ربما لا يروق للرياض التي تتخذ هي الأخرى استراتيجية أخرى تعتمد على بناء خارطة تحالفات جديدة ينضمّ إليها خصوم الأمس، قطر وتركيا، مع مناورة واشنطن من خلال تعزيز قنوات الاتصال مع موسكو وبكين… فهل يُقلق هذا التناغم المملكة؟
القاهرة – الرياض
انقلاب مفاجئ من الانسجام على كافة المسارات إلى السجال الإعلامي بين المقرّبين من دوائر صنع القرار هنا وهناك، هذا ما شهدته العلاقات المصرية السعودية خلال الآونة الأخيرة، فرغم محاولات الترقيع السياسي لإيهام الشارع المصري والسعودي بأن كل شيء على ما يرام، جاءت التصريحات المتبادلة لتكشف المستور.
البعض يرى أن تلك الملفات ليست كافية لإخراج التوتر المكتوم بين البلدَين للنور والمنصات الإعلامية دون تدخُّل من النظامَين في القاهرة والرياض.
وكان التصريح الأكثر حرجًا للقاهرة ذلك الذي أدلى به وزير المالية السعودي محمد الجدعان في 18 يناير/ كانون الثاني الماضي، خلال مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، حين قال نصًّا: “إننا اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة من دون شروط، ونحن نغيّر ذلك، نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول بالفعل إننا بحاجة إلى رؤية إصلاحات.. نفرض ضرائب على شعبنا ونتوقع من الآخرين فعل الأمر نفسه وأن يبذلوا جهدًا، نريد المساعدة لكننا نريد منكم الاضطلاع بدوركم”، وهو التصريح الذي اعتبره محللون مصريون مهينًا للدولة المصرية، رغم أنه لم يذكر القاهرة بشكل صريح.
ومن قبله كانت الأجواء مشحونة بين الإعلاميين المقرّبين من سلطتَي البلدَين، ما بين هجوم وانتقاد على الجيش من تركي الحمد، الإعلامي المقرّب من ابن سلمان، ثم سخرية من الوضع الاقتصادي العام المصري على لسان مستشار ولي العهد للشؤون الأمنية، قابله هجوم شرس من رئيس تحرير جريدة “الجمهورية” الحكومية المصرية، الذي وصف دول الخليج بـ”الحفاة العراة”.
وأيضًا قد سبقه وصف رئيس مجلس إدارة جريدة “الدستور” المصرية، محمد الباز، لزميله عمرو أديب، الإعلامي في قناة “إم بي سي مصر” السعودية، بأنه “عميل سعودي” وينفّذ أجندات كفيله، في إشارة إلى مستشار هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ.
توتُّر العلاقات بين البلدَين كان متوقعًا في ظل الملفات العالقة بينها والتي عكّرت الأجواء، فالسجال الإعلامي كان نتيجة لأجواء ملبّدة بطبيعة الحال بغيوم ضبابية، حيث خرجت إلى السطح خلال الأشهر القليلة بعض المسائل التي ساهمت في إظهار التوتر المكتوم للنور، من بينها تلكُّؤ مصر في تسليم السعودية جزيرتَي تيران وصنافير اللتين تنازلت عنهما وفق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقّعة بين البلدَين عام 2018، فالأمر أكبر من الـ 130 مليون دولار، قيمة الجزء المقتطَع من المعونة الأمريكية بسبب الملف الحقوقي المصري.
لم يعد السيسي بمستوى الاحتياج الشديد للدعم السعودي -رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجه البلاد- بعدما وسّع دائرة الدول المانحة والداعمة له
كذلك ملف الاستثمارات السعودية في مصر، والتي تعرّضت لصدام مؤخرًا مع التوجهات المصرية فيما يتعلق بنوعية وحجم الأصول المقرر للمملكة أن تستثمر فيها، فبينما تريد الرياض توسيع نفوذها الاستثماري في قطاعات معيّنة، تحفّظت القاهرة بشكل لافت على ذلك، واضعة بعض الضوابط التي تجبر المملكة على أن تجعل من الحكومة المصرية -خاصة المؤسسة العسكرية- شريكًا في عمليات الاستثمار تلك، ما اعتبرته أشبه بالوصاية عليها، وما دفعها لإعادة النظر في ضخّ المزيد من الاستثمارات في السوق المصري، فبدلًا من ضخّ 10 مليارات دولار كانت قد تعهّدت بضخّها في أبريل/ نيسان 2022، لم تضخّ سوى مليار ونصف فقط.
البعض يرى أن تلك الملفات ليست كافية لإخراج التوتر المكتوم بين البلدَين للنور والمنصات الإعلامية دون تدخُّل من النظامَين في القاهرة والرياض، لكن آخرين أرجعوا ذلك إلى تراجُع حاجة كل طرف للآخر في هذا التوقيت، فما عاد ابن سلمان بحاجة ماسّة إلى نظام السيسي ودعمه لترسيخ أركان حكمه، مقارنة بما كان عليه سابقًا حين كان يواجه عزلة دولية.
كما لم يعد السيسي بمستوى الاحتياج الشديد للدعم السعودي -رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجه البلاد- بعدما وسّع دائرة الدول المانحة والداعمة له، خاصة بعد تشبُّثه بالسلطة وحكم قبضته على كافة مقاليد الأمور منذ عام 2014 وحتى اليوم، ومن ثم لم يعد كل طرف حريص على عدم إغضاب الآخر، ليتركا لجانهما وأذرعهما الإعلامية تتحدث كيفما شاءت.
الرياض – أبوظبي
وكما هو حال القاهرة، كانت أبوظبي على الموعد ذاته وإن تباين مستوى الشدة والسجال، فرغم التوتر الذي شهدته العلاقات بين الجارتَين الخليجيتَين المتحالفتَين قبل سنوات بسبب تباين وجهات النظر إزاء الملف اليمني، ومحاولة الإماراتيين خدمة أجندتهم الخاصة على حساب مصالح قوات التحالف، وتكرار التباين نفسه في الملف الليبي كذلك، إلا أن شعور الجانب الإماراتي بمساعي الرياض لتهديد نفوذه الاقتصادي في المنطقة وسحب البساط من تحت ريادة دبي تحديدًا كمركز تجاري عالمي، كان قمة هرم التوتر في العلاقات بين البلدَين.
في 15 فبراير/ شباط 2021 أعلنت الحكومة السعودية اعتزامها وقف التعاقد مع أي شركة عالمية ليس لديها مقرّ إقليمي داخل المملكة اعتبارًا من عام 2024، وهو ما يعني غلق كافة المقرّات في المدن الخليجية الأخرى، وفي المقدمة منها دبي، وتحويلها إلى الرياض أو جدة، وهو ما أثار حفيظة الإماراتيين، ليفتح الإعلام الإماراتي وبعض المحسوبين على السلطة هناك النار على التوجه السعودي الجديد، ومن أبرزهم نائب رئيس شرطة دبي الأسبق ضاحي خلفان.
إن لهيمنة الرياض على سوق النفط العالمي وتحكُّمها في قرار أوبك دورًا محوريًّا في تفاقم التوتر بين البلدَين.
في حديثها لـ”الإندبندنت” البريطانية، ترى الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سينزيا بيانكو، أن التوتر بين أبوظبي والرياض يتزايد بشدة منذ فترة طويلة، مرجعة ذلك إلى أن الجارتَين “تعيدان تقييم ميزان القوى في علاقتهما الثنائية بما ينطبق على الساحة الإقليمية والدولية”.
الصحيفة في تقريرها المطوّل الذي ترجمه “بي بي سي عربي”، نقلت عن مراقبين خليجيين قولهم إن أحد المصادر الرئيسية لهذا الصراع الدائر بين الدولتَين هو أن الإمارات ترى نفسها “كمنافس للمملكة العربية السعودية وليس كشريك صغير”، ما دفعها للتحرك بشكل فردي بعيدًا عن السرب السعودي، ما أوغر صدر الجار الحليف ودفعه لإعادة تقييم العلاقات معه مجددًا.
وإن لهيمنة الرياض على سوق النفط العالمي وتحكُّمها في قرار أوبك دورًا محوريًّا في تفاقم التوتر بين البلدَين، هكذا قالت الصحيفة البريطانية، إضافة إلى توجهات ولي العهد السعودي الجديدة فيما يتعلق بإصلاح العلاقات مع تركيا وقطر، وهو ما لم يلقَ قبولًا لدى أبوظبي ولا القاهرة -حينها- حتى وإن بدا غير ذلك.
الاستحواذ على الأصول المصرية.. للإمارات نصيب الأسد
منذ أن خرج التوتر المكتوم في العلاقات بين الفريقَين، الإمارات ومصر من جانب والسعودية من جانب آخر، فتحت القاهرة أبوابها للاستثمارات الإماراتية، ومنحتها كبريات شركاتها الناجحة، لعلّ آخرها استحواذ شركة “أدنوك للتوزيع” الإماراتية على حصة 50% من شركة “توتال إنرجيز للتسويق مصر” من “توتال إنرجيز ماركتنغ آفريك”.
وقد زاد عدد صفقات استحواذ صندوق السيادة الإماراتي ومعه السعودي على الأصول المصرية بأكثر من الضعف خلال العام 2022، حيث بلغ 66 صفقة استحواذ مقارنة بـ 30 خلال العام 2021، وفق نشرة “إنتربرايز” الاقتصادية، التي كشفت أن للإمارات نصيب الأسد من تلك العمليات.
أوضحت النشرة أن الاستثمارات الإماراتية شملت المجالات الأكثر ربحية في السوق المصري، بداية من الخدمات المصرفية والمالية وصولًا إلى المجال الصناعي والطاقة، حيث شملت عمليات الاستحواذ 16 صفقة في القطاع المصرفي و9 في القطاع الصناعي واثنين في قطاع الطاقة.
واستطاع صندوق الثروة السيادية في أبوظبي، من خلال شركة “إيه دي كيو”، من الاستحواذ على الحصة الأكبر في أكبر شركتَين للأسمدة في مصر (أبو قير للأسمدة ومصر لإنتاج الأسمدة)، كما أصبح أكبر مساهم مستقلّ في البنك التجاري الدولي (17.2% من البنك مقابل 911 مليون دولار)، أكبر بنوك القطاع الخاص في البلاد، وشركة “فوري” الرائدة في مجال التكنولوجيا المالية (11.8% من الشركة مقابل 55 مليون دولار).
رغم هذا التباين والفجوة التي تتسع يومًا بعد الآخر بين مصر والإمارات من جانب والسعودية من جانب آخر، فإن هشاشة الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان تجعلها أقل استقلالية، وأضعف من أن يغرّد كل منها بعيدًا عن الآخر لفترات طويلة.
ومن أبرز صفقات الاستحواذ الإماراتية على الأصول المصرية استحواذ تحالف “كونسرتيوم” بقيادة شركة “الدار” العقارية ومجموعة القابضة “إيه دي كيو” على حصة 85% من شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار “سوديك” نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021.
وفي يوليو/ تموز 2022، استحوذت شركة “أغذية” الإماراتية على 60% من شركة “أبو عوف” العاملة في القهوة، بجانب استحواذ مجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية على 70% من حصص من شركتَي “ترانسمار” الدولية للنقل البحري و”ترانسكارغو” الدولية (تي سي آي) المصريتَين.
هل تقلق الرياض؟
لا شكّ أن فتح السوق المصري أمام الاستحواذات الإماراتية وتعزيز النفوذ الاقتصادي الإماراتي في الداخل المصري، مقارنة بالاستثمارات السعودية، سيكون له أثرًا سلبيًّا على الجانب السعودي، الذي وإن لم يبدِ قلقه أو تحفُّظه اليوم إزاء تلك التطورات، فإن ذلك لا يعني أن ما يحدث خارج دائرة الاهتمام والترقُّب.
يحاول ابن سلمان تعزيز حضوره خارجيًّا من خلال أدواته المعروفة، الاقتصاد والإعلام والفن والرياضة، وهناك تنافس محموم بين الرياض وأبوظبي ومعهما الدوحة في هذا المضمار، وإن ساعدت العلاقات مؤخرًا بين المملكة وقطر كثيرًا في تبريد هذا التنافس المؤهّل للخروج عن النص بين الحين والآخر.
هشاشة الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان تجعلها أقل استقلالية، وأضعف من أن يغرّد كل منها بعيدًا عن الآخر لفترات طويلة
ومن ثم إن تعزيز النفوذ الإماراتي في دولة بحجم مصر على حساب النفوذ السعودي سيقلق الرياض بشكل أو بآخر، فالأمر أكبر من مجرد أطماع اقتصادية، وهنا تتباين الآراء في قراءة تلك المعادلة، فريق يرى أن القاهرة تناور الرياض بورقة أبوظبي، في محاولة للضغط والابتزاز وإثناء المملكة عن خطها الجديد الذي تسير فيه بمعزل عن الحليف المصري الإماراتي، وفريق آخر يشير إلى تغيُّر قواعد اللعبة بالفعل، وأن هناك مصلحة مصرية إماراتية في هذا التناغم وبناء تحالف جديد مع الأردن وفلسطين خارج الهيمنة السعودية، التي فتحت مسارات جديدة في خارطة تحالفاتها ليست على توافق تامّ مع القاهرة وأبوظبي.
ورغم هذا التباين والفجوة التي تتسع يومًا بعد الآخر بين مصر والإمارات من جانب والسعودية من جانب آخر، فإن هشاشة الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان تجعلها أقل استقلالية، وأضعف من أن يغرّد كل منها بعيدًا عن الآخر لفترات طويلة، كونها شبكة واحدة تربطها منظومة أيديولوجية مشترَكة وإن تباينت خطوطها، فمع أول هزة أو تحدٍّ يواجه أي طرف سيهرول للأطراف الأخرى التي ستستجيب على الفور لاعتبارات كثيرة، هكذا تقول الشواهد والتجارب السابقة.