بينما يجري التأكيد في الإليزيه على استمرار التحضير لزيارة ماكرون إلى المغرب، تبدو هذه الزيارة غير مؤكدة وأن الأزمة بين البلدَين لا تزال قائمة، إذ لم يعد للرباط سفير في باريس ولم يُعيّن بديل بعد، كما يكشف استدعاء الجزائر لسفيرها مؤخرًا عن صعوبات تواجهها فرنسا في إنعاش علاقاتها مع البلدَين المغاربيَّين.
يبدو أن صبر المغرب بدأ ينفذ لأن فرنسا لم تبدِ أي تغيير في موقفها من “قضية الصحراء”، فموقفها ما زال غامضًا وغير محدد، في حين أن الأمر الأساسي بالنسبة للرباط هو أن تعترف باريس بالسيادة المغربية على الصحراء، كما فعلت من قبل الولايات المتحدة وأسبانيا.
من شأن الاعتراف الفرنسي، إذا ما نجح المغرب في انتزاعه، أن يؤدي إلى قطع العلاقات نهائيًّا مع الجزائر، وهو ما لا تريده باريس التي تخشى على فقدان مصالحها في المستعمرات السابقة، خاصة أنها أضحت تعاني، أكثر من أي وقت مضى، من نزيف الحلفاء في أفريقيا.
قطيعة وشيكة مع الجزائر
أما الجزائر فهي على وشك قطع علاقاتها مع فرنسا، حسب التهديد الذي لوّح به قصر المرادية، بعدما اتهم بشكل مباشر المخابرات الفرنسية بتنفيذ خطة لتهريب واحتضان المعارِضة الجزائرية- الفرنسية، أميرة بوراوي، التي كانت متابَعة في قضية إهانة الحكومة الجزائرية والدين الإسلامي، وتمكّنت من الهروب إلى فرنسا عبر تونس بطريقة غامضة.
كان هذا هو السبب المباشر الذي دفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها في باريس قصد التشاور، بعد فترة قصيرة من ظهور بوادر التقارب بين البلدَين، كان آخرها زيارة قائد أركان الجيش الجزائري، السعيد شنقريحة، إلى باريس ولقاؤه بالرئيس الفرنسي لأول مرة منذ 17 عامًا، وذلك تمهيدًا لانعقاد قمة جزائرية فرنسية، وأيضًا من أجل فتح أبواب السوق الجزائرية أمام صناعة الدفاع الفرنسية.
جاءت زيارة شنقريحة كرجل أمن وسلطة وليس كرجل عسكري، وسط شكوك في أن الجزائر تبذل كل ما في وسعها لعرقلة التقارب بين باريس والرباط
جاءت زيارة شنقريحة كرجل أمن وسلطة وليس كرجل عسكري، وسط شكوك في أن الجزائر تبذل كل ما في وسعها لعرقلة التقارب بين باريس والرباط، خاصة أنها سبقت زيارة ماكرون المنتظَرة إلى المغرب بأسابيع قليلة.
مراقبون رجّحوا أن الرجل المعروف بميله إلى المدرسة الروسية، حمل تفاصيل الملف الأمني الإقليمي لعرضه على باريس، ويتعلق الأمر بالوضع في مالي ودول الساحل وليبيا، ما يتيح لقائد الجيش الجزائري فرصة رفع مستوى المساومات، والحرص على الحصول على تعهُّدات فرنسية بالحد من التقارب مع المغرب مقابل المعلومات التي حملها معه.
مصالحة الذاكرة في نفق مظلم
بينما يدّعي ماكرون أنه يأمل في مواصلة العمل على مصالحة الذاكرة بين البلدَين، إلا أن تصريحاته أتت عكس ذلك، ففي حوار له مع الأسبوعية الفرنسية “لوبوان”، أكّد أن فرنسا لن تطلب الصفح من الجزائر، قاطعًا بذلك التكهّنات بتقديمه اعتذارًا للجزائريين عن جرائم فرنسا الاستعمارية في بلدهم.
الواضح أن ملف الذاكرة دخل نفقًا مسدودًا بعد 6 عقود، وقريبًا ستحلّ ذكرى وقف إطلاق النار بين فرنسا والجزائر في 19 مارس/ آذار 1962، وهو اليوم الذي تسميه الجزائر بـ”عيد النصر” أما باللغة الفرنسية فتصفه بـ”يوم الذكرى”، بيد أن فرنسا لا ترغب في تقديم تنازلات بشأن ملف الذكرة، إلا شريطة أن تقدم الجزائر تنازلات اقتصادية واستراتيجية.
إلى جانب هذه العلاقة المتقلّبة بين الرباط وباريس، حاولت فرنسا استراتيجية التقارب مع الجزائر، تجسّدها الزيارة “الرسمية والودّية” للرئيس ماكرون وجزء من حكومته الفرنسية إلى الجزائر العاصمة ووهران في الفترة من 25 إلى 27 أغسطس/ آب 2022، حيث كانت زيارة موضوعة تحت منظور “ودّي”، تريد طيّ صفحة أزمة الذاكرة لباريس، ولكنها مهمة أيضًا من وجهة نظر اقتصادية وطاقية.
من أكثر ما أثار غضب المغرب القرار الذي اعتمده برلمان الاتحاد الأوروبي الذي يدين تدهور حرية الصحافة في المغرب.
إن حادثة دبلوماسية بسيطة تكفي لإشعال التوترات بين البلدَين، ما يعكس فعليًّا مدى تعقيد وحساسية العلاقات بين الجزائر وفرنسا المرتبطة بالطبع بالماضي الاستعماري، ويعني أيضًا أن التقارب بين هذين البلدَين صعب للغاية، رغم حسن النية الذي أبدته الحكومتان.
وما وراء هذا البرود مع فرنسا كذلك تصاعد التوتر بين الجزائر والمغرب، منذ أن قطعت الجزائر علاقاتها مع الرباط، تلاها إغلاق مجالها الجوي أمام المغرب في سبتمبر/ أيلول 2021، ويعود ذلك بالأساس إلى قضية الصحراء، لكن فرنسا بقيت بعيدة ولم تحاول أبدًا لعب دور الوسيط في هذا الانقسام.
تجسُّس ولوبيات وحروب إعلامية
في خضمّ الفوضى الاستراتيجية التي يشهدها العالم، تدرك فرنسا جيدًا أن علاقاتها مع البلدَين في شمال أفريقيا تمرُّ بمرحلة حرجة لفترة طويلة، حتى أن زيارة ماكرون إلى الرباط لم تعُد مؤكدة، بعدما تمَّ تأجيلها من يناير/ كانون الثاني إلى فبراير/ شباط الذي شارف نهايته، في حين تستمر باريس في نفي وجود أزمة.
مؤخرًا، أعلنت باريس إنهاء العمل بالقيود على التأشيرات للبُلدان المغاربية، وهو ما شكّل بارقة أمل في بدء مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية مع المغرب والجزائر، إلا أن الخلاف يتجاوز فعليًّا أزمة التأشيرات.
من أكثر ما أثار غضب المغرب؛ القرار الذي اعتمده برلمان الاتحاد الأوروبي الذي يدين تدهور حرية الصحافة في المغرب، واتّهم الحزب الرئاسي الفرنسي بقيادة حملة في بروكسيل من أجل إصدار قرار ضد المغرب.
إضافة إلى قرار البرلمان الأوروبي، هناك نقاط خلاف أخرى بما في ذلك تجدُّد اتهام المغرب باستخدام برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي للتجسُّس على هواتف شخصيات سامية في الدولة الفرنسية، في مقدمتها ماكرون، وهي الاتهامات التي نفتها بشدة الرباط، بل أنها رفعت دعاوى قضائية ضد صحف فرنسية بشأن إثارتها، فضلًا عن اتهامات أخرى تتحدث عن شبكات مغربية تعمل كـ”لوبيات” للتأثير على السياسة الفرنسية والأوروبية على حد سواء.
الواقع هو أن هذا الجفاء بين المغرب وفرنسا ليس الأول من نوعه، لطالما كانت العلاقات تمرُّ بمراحل شد وجذب من فترة إلى أخرى، إلا أن الفراغ الدبلوماسي وانقطاع قنوات التواصل العلنية والحروب الإعلامية قد طال هذه المرة، ولم يعد يعرَف متى وكيف سينتهي هذا الخلاف.