ترجمة وتحرير نون بوست
في الأيام القليلة الماضية، وقعت بعض التطورات في لعبة الطاقة بمنطقة الشرق الأدنى، سيكون لها على الأغلب تأثير على المنطقة ككل في المرحلة المقبلة، إذ قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة العاصمة التركية أنقرة، وأعلن عن قراره المفاجئ بتحويل مشروع خط غاز “التيار الجنوبي” من بلغاريا إلى تركيا، وهي خطوة أتت إبان إعلان الاتحاد الأوربي لعقوبات قاسية على روسيا جراء الأزمة في أوكرانيا، لا أضف إلى ذلك أن روسيا تعاني أيضًا من انخفاض أسعار النفط الخام في السوق العالمي إذ أن مبيعات النفط والغاز تمثّل حوالي 70٪ من إجمالي صادراتها.
في نفس الوقت، وقّعت الحكومة المركزية في بغداد اتفاقًا مع كردستان العراق، تحصل بمقتضاه أربيل على 17٪ من ميزانية بغداد، في مقابل الحصول على أرباح من بيع 550 ألف برميل من النفط يوميًا، والتي سيتم تصدير حوالي 250 ألف منها إلى السوق الدولية عبر تركيا.
وضع جيوسياسي جديد لتركيا
لطالما كانت تركيا، منذ دخولها حلف الناتو عام 1952، جزءًا هامًا من التحالف الغربي في مواجهة روسيا، وقد استفادت من ذلك التحالف طويلًا على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، بالإضافة إلى الحماية التي قدمها لها الناتو أمنيًا، وهو وضع أخذ يتراجع مع نهاية الحرب الباردة، ورُغم أن حماس تركيا في الانضمام للاتحاد الأوربي ظل مستمرًا حتى العقد الماضي، يبدو أنه أيضًا بدأ يفتر مؤخرًا مع الرفض المتكرر من دول الاتحاد الأوربي، وهو ما يُجبرها على محاولة إعادة تعريف نفسها جيوسياسيًا بالنسبة لأوروبا بشكل مختلف.
منذ بداية القرن وتركيا تحاول تقديم نفسها باعتبارها معبر كافة ممرات الطاقة بين الشرق الأوسط وحوض بحر قزوين وأوروبا، خاصة وأنها واقعة في منطقة غنية بالنفط والغاز الذي يحتاجه اقتصادها الصاعد، وستسفيد قطعًا من هكذا موقع بتلبية احتياجها المحلي. لذلك، شاركت تركيا في اتفاقيات عديدة تخص ممرات الطاقة المتوجهة نحو أوروبا بشكل خاص، وهي استراتيجية طمحت بها لأن تكون حجرًا أساسية في منظومة الطاقة الأوربية التي تحاول الآن تنويع المصادر بعيدًا عن الاحتكار الروسي.
في هذا السياق طُرحت مشاريع كبرى مثل نابوكو، الذي تم إلغاؤه العام الماضي، وكان من المفترض أن ينقل الغاز من بحر قزوين إلى أوروبا عبر تركيا متجنبًا روسيا، والتي حاولت الدفع بمشروع التيار الجنوبي ليحمل الغاز تحت البحر الأسود إلى أوروبا عبر بلغاريا. وكذلك مشروع تاناب (الخط العابر للأناضول)، والذي كان ليحمل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى أوروبا، مع تمديد مُحتمل لتصل خطوطه إلى تركمنستان وإيران الغنيتَين بالغاز — حال نجحت المفاوضات مع الأخيرة في رفع العقوبات عنها.
رُغم توقف هذين المشروعين، لا تزال تركيا في القلب من أكبر بلد ناقل للطاقة بالمنطقة، ومعقل رئيسي لسياسات الطاقة من مصادر متنوعة، مع احتمال أن تكون مصدرًا رئيسيًا للغاز المُسال من المنشآت التي تخطط لبنائها.
معادلة الطاقة الجديدة
في هذا السياق، أتى قرار بوتين بتحويل التيار الجنوبي (ساوث ستريم) إلى تركيا كمفاجأة للجميع، خاصة وأن تركيا قد استقبلته بحفاوة بالغة، رُغم أن استقبال تركيا للمشروع قد يضر بسياساتها الخاصة بالطاقة بشكل أوسع، كما يقول نجدت بامير، المدير السابق لشركة بترول تركية، “بالنظر لسعي أوروبا لتنويع مصادرها وتقليل الاعتماد على روسيا، سيخلق التعاون الروسي التركي علاقة أكثر تبعية بين الطرفين.”
تعاني تركيا أيضًا، مثل أوروبا، من التبعية للنفظ الروسي، إذ تشتري 58٪ من الغاز الطبيعي، و32٪ من الفحم، و8٪ من النفط، الذين تحتاجهم من روسيا، وهو ما يخلق عجزًا كبيرًا في التجارة بين البلدين لصالح روسيا: تستورد تركيا من روسيا ما قيمته 25 مليار دولار من أصل 32 مليار دولار هي قيمة التجارة بين البلدين. جدير بالذكر أن البلدين يطمحان لتعزيز التجارة بينهما لتصل إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030، وهو ما يعني زيادة العجز كما يقول بامير.
تحاول أوروبا تنويع المصادر منذ عام 2006، حين وقعت أزمة بين روسيا وأوكرانيا بخصوص أسعار الغاز الطبيعي أدت إلى بعض التخفيضات في توصيل إمدادات الغاز إلى أوكرانيا، وهو تخفيض أثر على دول أوربية أخرى. هذا الوضع، مع العقوبات الأوربية مؤخرًا، لا يضع تركيا في موقف قوي بخصوص اتجاهها الجديد نحو روسيا، إذ يقول بامير، “الغاز الروسي المار عبر تركيا لن يدخل على الأغلب إلى أوروبا نظرًا للعقوبات.”
بين بوتين وأردوغان
قد تكون تحرك بوتين نحو أردوغان حركة يريد بها تعزيز موقفه في المواجهة مع أوروبا، ولكنها في نفس الوقت أيضًا تعزز الموقف التركي طبقًا لبعض المحللين.
يقول جَم دنيز قوت، المختص بسياسات تركيا في مجال الطاقة بجامعة إسطنبول بيلجي، رأيًا مغايرًا لبامير، مفاده أن توجه روسيا نحو تركيا هو تحرك دبلوماسي بشكل كبير بالنظر للمشاكل التي تتعرض لها روسيا مؤخرًا، وهو يصب بشكل جيد في منظومة الطاقة التي تسعى تركيا لتكون في القلب منها، إذ أن تنويع المصادر مهم لتركيا، وأن تكون أنقرة جزءًا من التيار الجنوبي هو أمر يعزز دورها السياسي في المنطقة.
خطوة تركيا نحو روسيا ليس مفاجئة بالنظر للقلق الجاري في أنقرة بشأن تجميد المفاوضات بشأن الانضمام للاتحاد الأوربي، وهو ما يعني أن تركيا، في مهب أجواء الحرب الباردة بين الغرب وروسيا الآن، تضع نفسها في موقع متوازن بين الطرفين على العكس من الحرب الباردة في القرن الماضي، وهو ما يعني أنها بسياساتها الحالية، تعيد رسم أهميتها الجيواستراتيجية على جبهات عدة، أبرزها لعبة الطاقة، كما يقول دنيز قوت.
لم تنضم تركيا للعقوبات الأمريكية والأوربية على روسيا، ولذا تجد نفسها اليوم بديلًا قويًا في السوق الروسي للكثير من المنتجات التي كانت تزودها أوروبا وأمريكا. هذا التطور الاقتصادي الذي لا يلحظه الكثيرون لفت مؤخرًا انتباه ينس شتولتنبرج، الأمين العام لحلف الناتو، والذي قال بأنه يود رؤية أكبر عدد من أعضاء الحلف في حملة العقوبات على روسيا — في إشارة ضمنية إلى تركيا.
تقول حبيبة أوزدال، باحثة مختصة بالعلاقات التركية الروسية في مركز أوساك في أنقرة، أن التقارب بين البلدين مؤخرًا هو نواة لمحور المنبوذين، “عادة، حين تكون تركيا واثقة من خياراتها في السياسة الخارجية، فإنها تتخذ تلك الخطوات بمواجهة الاتحاد الأوربي، ولكن بالنظر للاعتماد التركي الزائد على الغاز الروسي، تبدو خطوة اتفاق التيار الجنوبي تحديدًا كتحذير غير مباشر من روسيا، لا من تركيا هذه المرة.
في نهاية المطاف، تظل تركيا عضوًا بالناتو، وطامحة للانضمام للاتحاد الأوربي، وتظل علاقاتها بروسيا تجارية بحتة، إذ توجد الكثير من الخلافات بين البلدين، لا سيما فيما يخص أوكرانيا وسوريا.
يقول دنيز قوت أن تركيا ستستفيد من سياساتها الحالية على المدى الطويل، ولكنه يحذر من فقدان أهمية تنويع مصادر الطاقة لكيلا تسقط في قبضة الاحتكار الروسي، ويؤكد على أهمية ألا يكون التيار الجنوبي متعارضًا مع تاناب وغيره من مشاريع تركية في مجال الطاقة.
يقول بامير الأمر نفسه محذرًا بشكل واضح من أن وضع تركيا وروسيا في سلة واحدة يسيء كثيرًا لسمعة تركيا الدولية، وسيؤدي لمزيد من العزلة في أنقرة.
المصدر: ميدل إيست آي