لم يَنَل زلزال تركيا وسوريا من المدنيين وبيوتهم وممتلكاتهم التي استحالت إلى أنقاض فحسب، بل طال أيضًا الأبنية والمواقع الأثرية في كلا البلدَين، بعض هذه المواقع والأبنية مدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.
وقع الزلزال في أعلى نقطة بمنطقة الهلال الخصيب، أي الجنوب التركي والشمال السوري، وهي موقع أقدم حضارة في العالم، وموطنًا لبعض أغنى المواقع الأثرية في تاريخ البشرية.
كما تقع تركيا وكذلك سوريا عند تقاطع جزء كبير من التاريخ القديم المشترَك للبشرية وفق قول أبارنا تاندون، مسؤول برنامج بالمركز الدولي لدرس صون وترميم الممتلكات الثقافية، فيما تشير يمنى تابت من لجنة التراث العالمي إلى أن حلب في سوريا هي أيضًا مركز “تقاطع للحضارات”.
يعدّ لواء إسكندرون، وتحديدًا أنطاكيا التي يُطلق عليها “متحف الأديان والثقافات”، من أكثر الأمكنة تضررًا من الزلزال، حيث سُجّلت في المدينة أسوأ الخسائر التاريخية والمعمارية، كمسجد حبيب النجار التاريخي أكثر المواقع شهرة، وأول مسجد بُني داخل حدود تركيا الحالية بحسب الحكومة التركية، كما تضرر المعبد اليهودي الرئيسي والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية التي شُيّدت في القرن الرابع عشر، وكانت مقرًّا لبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس.
ترتفع قلعة عنتاب نحو 25 مترًا، وبُنيت لتكون برج مراقبة على التل خلال العصر الروماني، واتّخذت شكلها الحالي في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيانوس.
من جهتها، أكّدت وكالة “الأناضول” التركية، الخميس 16 فبراير/ شباط الجاري، انهيار ضريح الصحابي عكاشة بن محصن والمباني المحيطة به، كما تضرر جزء كبير من أسوار قلعة عنتاب التي شيّدتها الجيوش الرومانية قبل 2200 عام، وسقط حاجزها الحديدي والجدار الاستنادي المجاور لها، ومن المعلوم أن القلعة أصبحت معلمًا سياحيًّا مهمًّا بعد أن حوّلتها السلطات التركية إلى متحف خاص بانورامي قبل نحو عقدَين، يعرض مختلف البطولات الدفاعية عن المدينة.
ترتفع قلعة عنتاب نحو 25 مترًا، وبُنيت لتكون برج مراقبة على التل خلال العصر الروماني، واتخذت شكلها الحالي في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيانوس الملقّب بمهندس القلاع، كما تعرّض مسجد يني جامع الواقع في منطقة الحميدية بمدينة ملاطيا للانهيار، ولم يتبقَّ منه سوى أجزاء من جدرانه قائمة، ويعود تاريخ بنائه إلى العام 1913.
اليونسكو تحشد خبراتها
تضمّ تركيا 19 موقعًا مدرجًا على قائمة التراث العالمي، منها قلعة ديار بكر المدرجة على قائمة التراث العالمي منذ العام 2015، وحدائق هوسال الواقعة على جرف في حوض نهر دجلة الأعلى، وتشكّل حزامًا رابطًا بين المدينة ونهر دجلة، إضافة إلى موقع نمرود داغ المعروف بتماثيل الآلهة العملاقة، والذي يعدّ إحدى أعلى قمم سلسلة جبال طوروس الشرقية جنوب شرق تركيا.
وعبّرت اليونسكو عن أسفها لانهيار العديد من المباني، منها في قلعة ديار بكر وحدائق هوسال المجاورة والمدرجة أيضًا على لائحة التراث العالمي، محذّرة من أن أضرار الزلزال قد تطال مواقع أخرى مدرجة على قائمة التراث العالمي قريبة من مركز الزلزال من بينها تل أرسلان في ملاطيا إحدى الولايات المتضررة، والمدرج على قائمة التراث عام 2021، إذ تعرّض لبعض الأضرار.
هذا بالإضافة إلى موقع نمرود داغ الذي يوصَف بأنه أعلى متحف أثري مفتوح في العالم في ولاية شانلي أورفا، وبأنه نقطة الصفر في تاريخ البشرية، ولحسن الحظ أنه لم يتضرر رغم كونه على بُعد 10 أميال فقط من شانلي أورفا، إحدى المناطق التي تضررت بفعل الزلزال.
ونوّهت اليونسكو إلى أنها تحشد خبراءها لإجراء مسح دقيق للأضرار، بهدف تأمين سلامة هذه المواقع وثباتها.
الإسراع في عمليات الترميم
يرى الصحفي المختص بالآثار، عمر البنية، أن تركيا قادرة على تجاوز محنة الزلزال عمومًا، وخصوصًا فيما يتعلق بخسائرها على صعيد ملف الآثار الذي تعرّض قسم منها للتضرر بدرجات متفاوتة، لافتًا أنه يمكن إعادة الترميم في حال وجود أرشيف وتوثيق كامل للبناء من الناحية الهندسية والطبوغرافية والفوتوغرافية، حتى لو كان الدمار كبيرًا، فبقدر ما يكون هناك توثيق ومخططات دقيقة يمكن الترميم بدرجات عالية.
وأضاف البنية أن “هناك معايير ترميم دولية يتمّ العمل بها أثناء الترميم، كالحفاظ على نفس نمط البناء والزخارف الهندسية والإنشائية”، مشيرًا أنه عند الحاجة لوضع شيء مكان شيء دُمّر بالكامل ولا مجال لإعادة ترميمه، فأنه يوضع شيء جديد بالنمط نفسه، لكن بلون واضح أنه مضاف بدل من مدمَّر بالكامل، وذلك حفاظًا على القيمة الأثرية.
الحكومة التركية لا بدَّ أنها ستسعى للإسراع في عمليات الترميم، لأنها بلد سياحي تملك العديد من المتاحف الضخمة
وتولي تركيا اهتمامًا واسعًا في قطاع السياحة والآثار كونها بلدًا سياحيًّا، إذ تشير مصادر حكومية إلى ارتفاع عائدات السياحة 68% خلال أول 9 شهور من العام 2022 مقارنة بالعام 2021، إذ بلغت نحو 35 مليار دولار أمريكي، كما احتلت تركيا المرتبة الرابعة عالميًّا كأكثر البلدان استقبالًا للسياح خلال عام 2021 رغم جائحة كورونا آنذاك، في حين أنها استقبلت أكثر من 23 مليونًا سائحًا أجنبيًّا خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2022.
يؤكد البنية أن الحكومة التركية لا بدَّ أنها ستسعى للإسراع في عمليات الترميم، لأنها بلد سياحي تملك العديد من المتاحف الضخمة وتعرض مقتنياتها بأحدث طرق العرض العالمية، كما تحافظ على التراث والأحياء القديمة والقلاع والمساجد خصوصًا، وتروّج لها على كافة الصعد، إذ تقدّر قيمة الأماكن الأثرية من ناحية أنها ثروة قومية تعتز بها، ومن ناحية أنها عنصر جذب سياحي مهم، فتهتم بإدارتها وتنميتها وترميمها ومراقبتها بشكل دوري.
أضرار فادحة وتهديد بخسارة قلعتَين
في سوريا كانت الأماكن الأثرية الأكثر تعرضًا للضرر هي تلك الموجودة في مدينة حلب وحماة، ففي حلب تعرّضت المدينة القديمة لانهيار البرج الغربي لجدار المدينة، وتصدّع عدد من الأسواق القديمة، كما تعرّضت قلعتها لتضرر واسع وظهور تصدّعات في الأسوار الدفاعية، أدّت إلى سقوط أجزاء من الأسوار الخارجية ومداخلها كمدخل البرج الدفاعي المملوكي.
بالإضافة إلى سقوط أجزاء من الطاحونة العثمانية التي بُنيت عام 1934، وتعرّض الجامع الأيوبي، المعروف بجامع قلعة حلب الكبير، لسقوط الأجزاء العليا من مئذنته، وتصدّع باب أنطاكية أيضًا، وهو أحد أبواب مدينة حلب القديمة التسعة الواقع غرب سور المدينة.
ونقلت صحيفة “تشرين” الموالية عن مدير قلعة حلب، أحمد الغريب، قوله إن “وضع القلعة إنشائي ولا يزال متماسكًا، والاهتمام الأكبر سينصبّ على الأماكن الخطرة وخاصة مئذنة الجامع الكبير، نظرًا إلى التصدع الكبير في واجهتها، والثكنة العثمانية والطاحونة”.
ولفت الغريب إلى أنهم ينتظرون تقييم الكادر الهندسي لمدخل القلعة والمباني المهددة بالخطر، ليصار بعدها التدخل والمعالجة، إما بتدخل إسعافي وإما تدعيم مؤقت، لحين اتخاذ القرار النهائي بإطلاق مشاريع الترميم وإعادة القلعة التاريخية والأثرية إلى وضعها السابق.
بالمقابل، سُجّلت أضرار في قلاع وأبنية أثرية في محافظات طرطوس واللاذقية وحماة، ومناطق صافيتا ومعرة النعمان وجبلة، إضافة إلى العاصمة دمشق، فوفقًا لمدير عام مديرية الآثار والمتاحف، نظير عوض، “الأضرار الزلزالية التي طالت قلاعًا وأبنية أثرية في المحافظات السورية المنكوبة قد وصلت إلى تهديد في خسارة قلعتَي المرقب وصلاح الدين”، مضيفًا أن الأضرار أيضًا أثّرت في متحف معرة النعمان والمدن المنسية بالأرياف، إضافة إلى انهيارات في أبراج وجدران طالت قلعة الحصن.
أما في اللاذقية، فقد طالت الأضرار قلعة صلاح الدين والمتحف ومسرح جبلة، في حين تمَّ في حماة تسجيل أضرار في قلعتَي شيزر والمضيق وأبو قبيس وقصر ابن وردان، وتهدُّم في قصر العظم بالعاصمة دمشق.
“لاحظنا بعد الزلزال انهيار بعض الأجزاء القديمة في أسوار حلب القديمة التي رُمّمت خلال الفترة الماضية، وهنا الإشكال، إذ يفترض أن الترميم داعم للآثار وأقوى من حمولة الآثار السابقة، لأنه يتنبّه للآثار الزلزالية والعوامل الطبيعية”.
وكشف عوض أن “قلعة المرقب في طرطوس قد شهدت تصدعات خطيرة ومرشّحة لأن تكون أخطر، إضافة إلى قلعة الخوابي وقلعة القدموس ومتحف طرطوس وبرج صافيتا”، لافتًا أنها جميعًا بحاجة لعملية ترميم عاجلة ودقيقة تتجاوز 32 مليارًا و400 مليون ليرة سورية.
كيف سيستفيد النظام؟
الكاتب والباحث سعد فنصة، الذي عمل لفترة تقارب 30 عامًا في المجال الأثري، إضافة إلى عمله كمدير لقسم التصوير العلمي للآثار السورية بالمديرية العامة للآثار والمتاحف، قال لـ”نون بوست”: “لا يمكن المقارنة بين تعامل الحكومة التركية مع آثارها بتعامل حكومة النظام وطريقة الترميم والحفاظ على الإرث الحضاري، فكثير من السوريين زاروا الآثار التركية خلال فترة وجودهم في تركيا، وشاهدوا بأمّ أعينهم التنظيم في المدن القديمة والمعابد والكنائس وكيفية الاهتمام بالمتاحف، من حيث ترتيب وعرض الآثار”.
مضيفًا: “الشعب التركي عمومًا شعب متّحد في حماية الآثار ورفع القيمة الوطنية لتراثه، في حين أن حكومة النظام تمارس اللصوصية في سوريا في كل القطاعات ومن ضمنها قطاع الآثار، إذ تعدّ اليوم في أسوأ حالاتها على كل الأصعدة، فليس الأمر مقتصرًا على فعل الزلزال ككارثة طبيعية، وتدميره لأوابد سورية مهمة”.
ويرى فنصة أن النظام يرى في الآثار منبع أموال فقط، إذ يستفيد منها في دعم منظومته الفاسدة وملء جيبه، عبر مِنَح اليونسكو المالية الطائلة المقدَّمة لمشاريع الترميم.
ويضرب فنصة مثالًا عن فساد المنظومة الحاكمة في عمليات الترميم، قائلًا: “لاحظنا بعد الزلزال انهيار بعض الأجزاء القديمة في أسوار حلب القديمة التي رُمّمت خلال الفترة الماضية، وهنا الإشكال، إذ يفترض أن الترميم داعم للآثار وأقوى من حمولة الآثار السابقة، لأنه يتنبّه للآثار الزلزالية والعوامل الطبيعية”.
الزلزال فرصة تشويه ممنهَج للآثار
تعرّض الجامع الأموي بحلب لعملية تشويه كبيرة أثارت حفيظة الكثير من المهتمين بالتراث والفن في سوريا، خاصة فيما يتعلق بتغيير شكل الأقواس التاريخية الأموية واستبدالها بشكل يشبه إيوان كسرى، وتشويه واجهتَي الجامع الخارجيتَين بسبب عدم التدقيق بالمخططات المعتمَدة والمرسومة لمكوّنات الجامع، في محاولة تستهدف تغيير وتشويه معماره الأصيل واستبداله بمسحة عمرانية فارسية على يد مؤسسة “الآغا خان” المقرَّبة من نظام الأسد.
يلفت فنصة إلى أن حكومة النظام ستتعمّد تغيير ملامح الكثير من الآثار التي تأثرت بفعل الزلزال، فالفرصة صارت على طبق من ذهب من حيث جلب الأموال من اليونسكو أولًا، ثم التواطؤ مع إيران في تغيير وتشويه العديد من الآثار كما فعلت البعثات الإيرانية في الجامع الأموي الكبير بحلب، على مرأى ومسمع مديرية الآثار والمتاحف التابعة للنظام.
كارثة الزلزال كان لها وقعها المأساوي على الجغرافية التركية، والتي لم تدَع بشرًا ولا شجرًا ولا حجرًا إلا وأثّرت به.
ولدى سؤالنا فنصة عن إمكانية استثمار نظام الأسد حالة تضرر قصر العظم جرّاء الزلزال، وإسناد مهمة ترميم ما تضرر منه لبعثات إيرانية، وبالتالي تشويهه وإضفاء مسحة فارسية عليه، استبعد الباحث فنصة إقدام النظام على تغيير معالم قصر العظم وتشويهه بشكل كبير، أو تغيير ملامحه أو هويته كما فعل ذلك في الجامع الأموي بحلب.
ونوّه إلى أن التغيير ربما يكون مع مرور الزمن في دَور القصر من حيث التوظيف السياحي أو التوظيف التجاري، ولكن تغيير المعالم -حسب فنصة- صعب لأنه ضمن نسيج خاص بالفترة العثمانية، فتغيير المعمار يمكن فقط عبر إزالته تمامًا، وعند ذلك لا بدَّ أن تركيا ستحتجّ.
وختم فنصة حديثه بأن الذي يحتمل التغيير والتشويه المتعمَّد كما يحصل الآن هي الأوابد الأموية، كما جرى في الجامع الأموي بحلب، بحكم أن هذه الأوابد لها قيمة مذهبية معيّنة عند السوريين تعاديها الثقافة الإيرانية، وطهران لديها حقد تاريخي على التراث الأموي الذي يميّز الكثير من المعالم الشامية، وتسعى لطمسه بكل ما أوتيت من نفوذ على الأسد.
يمكننا القول ختامًا إن كارثة الزلزال كان لها وقعها المأساوي على الجغرافية التركية، والتي لم تدَع بشرًا ولا شجرًا ولا حجرًا إلا وأثّرت به، إلا أن تركيا ومنذ اليوم الأول تسابق الزمن للخروج من هذه الأزمة والعودة إلى ما قبل وقوع الكارثة الأفظع في تاريخها الحديث، عبر تسخير جزء كبير من مقدراتها وخبراتها، إضافة إلى تكاتف شعبها.
بالمقابل، إن الكارثة نفسها التي ألقت بمآسيها على السوريين في سوريا أيضًا، استثمرها نظام الأسد على كل الصعد، وفي مقدمتها المساعدات الإنسانية التي نهبها، ثم قطاع الآثار الذي يبدو أنه سيسرق الأموال المقدَّمة من اليونسكو لدعم هذا القطاع وتوجيهه لمصالحه، وتسليم ملف الترميم كما التنقيب بالكامل لإيران التي تعبث بالهوية السورية دونما حسيب.