ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت آخر مرة حاول فيها الكونغرس الأمريكي التعامل مع ما كانت تخطط له الأجهزة الأمنية المتضخمة في البلاد منذ قرابة نصف قرن. في سنة 1975، تمكّنت لجنة تشيرش من التقاط لقطة عابرة – وإن لم تكن كاملة – للعالم الخفي الذي تعمل فيه وكالات مثل وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي.
في أعقاب فضيحة ووترغيت، وجدت لجنة الكونغرس والتحقيقات الأخرى ذات الصلة أن أجهزة المخابرات في البلاد لديها سلطات مراقبة واسعة النطاق وتورطت في مجموعة من الأعمال غير القانونية أو غير الدستورية، تشمل عمليات تقويض واغتيال قادة أجانب. وقد استعانت هذه الأجهزة بمئات الصحفيين والعديد من وسائل الإعلام حول العالم للترويج لروايات كاذبة، فضلا عن التجسس على الجماعات السياسية والمدنية ودس عناصر داخلها، والتلاعب بالخطاب العام لحماية وتوسيع نفوذهم.
حذّر السيناتور فرانك تشيرش من أن قوة مجتمع الاستخبارات يمكن أن “تنقلب على الشعب الأمريكي في أي لحظة، بحيث لن يتبقى لأي أمريكي أي خصوصية، بسبب قدرته على مراقبة كل شيء … ولن يكون هناك أي مكان للاختباء”.
منذ ذلك الحين، تطوّرت الإمكانيات التكنولوجية لغزو الخصوصية إلى حد كبير، وتوسّع نفوذ وكالات الاستخبارات بطرق لم يكن من الممكن أن يتنبأ بها تشيرش، خاصة بعد أحداث 11/9. ولهذا السبب، يعدّ إنشاء لجنة تشيرش جديدة أمرا قد طال انتظاره. وأخيرًا، يبدو أن نوعًا من التجديد على وشك الحدوث في ظل أكثر الظروف إثارة للجدل ولأسباب يتفق عليها كلا الحزبين.
على إثر معركة مطوّلة الشهر الماضي داخل الحزب الجمهوري لانتخاب كيفن مكارثي رئيسًا جديدًا لمجلس النواب، أُجبر مكارثي على الانصياع لمطالب الجناح اليميني لحزبه بالموافقة على تشكيل لجنة للنظر فيما يسمى بـ “تسليح” الحكومة الفيدرالية. وقد عقدت اللجنة أول اجتماع لها الأسبوع الماضي، وقالت فيه إن مهمتها ستتمثّل في النظر في “تسييس مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل من جهة، والهجمات على الحريات المدنية الأمريكية من جهة أخرى”.
في خطاب ألقاه أمام مجلس النواب بشأن اللجنة الجديدة في وقت سابق، قال النائب الجمهوري دان بيشوب إن الوقت قد حان للتخلص من “العفن” الموجود في الحكومة الفيدرالية، مرددا: “هذا تحذير للدولة العميقة، سنعمل على ملاحقتكم”.
في المقابل، ينتقد الديمقراطيون اللجنة بالفعل معتبرينها أداة ستستخدم لمصالح دونالد ترامب وأنصاره، مشيرين إلى أن اليمين الجمهوري يريد تشويه سمعة الأجهزة الأمنية ويوحي بمخالفات في معاملة الرئيس السابق.
نفوذ متنامي
في حين أنه من شبه المؤكد أن هذه اللجنة ستُستغل لتصفية الحسابات السياسية، فإنها قد تستمر في تسليط الضوء على مدى النفوذ الذي اكتسبته الأجهزة الأمنية منذ ورود تقرير لجنة تشيرش.
يلاحظ الجميع درجة تنامي ذلك النفوذ، إذ كشفت الوثائق التي سربها المخبر إدوارد سنودن قبل عقد من الزمن وجود رقابة جماعية غير قانونية في الداخل والخارج من قبل وكالة الأمن القومي. كما نشرت ويكيليكس، وهي منظمة الشفافية التابعة لجوليان أسانج، ملفات لم تكشف فقط عن جرائم الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان بل أيضا عن برنامج اختراق عالمي ضخم نفذته وكالة المخابرات المركزية.
واجه كل من أسانج وسنودن عواقب وخيمة بعد الكشف عن هذه المعطيات، وهو ما يدلّ على مدى النفوذ الذي تحظى به الأجهزة الأمنية لإنزال عقوبة بكل من يتحدونها. فقد أُجبر سنودن على العيش في المنفى في روسيا، وهي إحدى الولايات القضائية القليلة التي لا تسمح بتسليمه إلى الولايات المتحدة وحبسه؛ وألقي القبض على أسانج بينما تسعى السلطات الأمريكية إلى تسليمه حيث يمكن أن يختفي في سجن شديد الحراسة لبقية حياته.
الآن، وفي تحوّل غير متوقع للأحداث، كشف أحد المليارديرات تفاصيل أخرى حول التلاعبات السرية الخاصة بالأجهزة الأمنية – هذه المرة فيما يتعلق بمنصات التواصل الاجتماعي والعملية الانتخابية الأمريكية. وتشمل الأطراف الرئيسيّة هذه المرة مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي، التي أنشأتها إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش في أعقاب هجمات 11/9.
بعد الاستحواذ على شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر” السنة الماضية، منح إيلون ماسك مجموعة من الصحفيين المستقلين حق الاطلاع على أرشيف الشركة. وفي سلسلة متواصلة من تحقيقات بعنوان “ملفات تويتر“، تمكن هؤلاء الصحفيون من استيعاب ما كان يجري تحت إشراف مالكي تويتر السابقين. باختصار، قامت الوكالات الأمنية الأمريكية بعد انتخاب ترامب – بمساعدة الضغط السياسي، خاصة من الحزب الديمقراطي – بشق طريقها بقوة للتحكّم في عمليات صنع القرار في تويتر، ويبدو أن منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية الأخرى قد اتخذت ترتيبات مماثلة.
هل ملفات تويتر مجرد هراء؟
تشير ملفات تويتر إلى وجود شراكة ناشئة ولكن خفية بين أجهزة استخبارات الدولة ووادي السيليكون ووسائل الإعلام التقليدية، للتلاعب بالنقاشات الوطنية في الولايات المتحدة، إلى جانب جزء كبير من بقية العالم. تبرّر الأحزاب في هذا التحالف لبعضها البعض أن تدخلها في السياسة الأمريكية – متخفيةً عن الرأي العام – ردّ ضروري لمواجهة البروز السريع للشعبوية الجديدة. فقد هيمن ترامب وأنصاره على الحزب الجمهوري، بينما حقق اليسار الشعبوي برئاسة السيناتور بيرني ساندرز نجاحات محدودة في الحزب الديمقراطي.
سببت منصات التواصل الاجتماعي قلقًا خاصًا بين الأجهزة الأمنية التي كانت تنظر إليها على أنها الوسيلة التي أطلقت العنان لهذه الموجة من السخط الشعبي. ووفقًا لتقرير نشرته “الإنترسبت”، لاحظ أحد مسؤولي مكتب التحقيقات الفيدرالي السنة الماضية أن “المعلومات التحريضية المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي قادرة على تقويض الدعم الذي تحظى به الحكومة الأمريكية”.
يبدو أن دولة الأمن القومي اعتقدت أن التحالف مع كبرى شركات التكنولوجيا يمثّل فرصة لحماية الحرس القديم للسياسة، لا سيما في الحزب الديمقراطي. وكان يُعتقد أيضًا أن شخصيات مثل الرئيس جو بايدن ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي يمثّلان زوجًا من الأيدي الآمنة التي تهدف للحفاظ على شرعية الرأسمالية النيوليبرالية المشحونة، والحروب الأبدية التي تمثّل شريان الحياة بالنسبة لمجتمع الاستخبارات.
خدمت هذه الشراكة جميع الأطراف بشكل جيد؛ فقد مثّل وادي السيليكون الوجهة المفضلة للعديد من الليبراليين الذين يعتقدون أن التقدم الأفضل يتم من خلال الوسائل التكنولوجية التي تعتمد على الاستقرار الاجتماعي والإجماع السياسي. وبالتالي، من الطبيعي أن تزعجهم الشعبوية والاستقطاب الذي تولده.
تدرك كل من الأجهزة الأمنية والسياسيون الوسطيون في الحزبين الجمهوري والديمقراطي أنهم في خط النار في السياسة الشعبوية بسبب عقود من الفشل، وتباين توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، واقتصاد أمريكي متداعي، وخدمات رفاهية مستنزفة أو غير موجودة، وقدرة الأثرياء على شراء النفوذ السياسي، والخسارة المستمرة للثروات والأرواح في حروب غير مجدية تدور في أراضي بعيدة، ووسائل الإعلام التي نادرًا ما تتعامل مع هموم الناس العاديين.
وبدلا من التركيز على الأسباب الحقيقية لتزايد الغضب والمشاعر المناهضة للنظام، قدمت الأجهزة الأمنية للسياسيين ووادي السيليكون سردًا أكثر طمأنة وملاءمة. لم يعبّر الشعبويون – من اليمين واليسار – عن إحباطهم من فشل النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي وكانوا يعملون على تأجيج السخط الاجتماعي لتعزيز مصالح روسيا.
أو كما ورد في تسجيل محضر اجتماع وزارة الأمن الداخلي في آذار/ مارس الماضي، كان التركيز الجديد على كبح “البيانات التحريضية المستخدمة لدق إسفين بين الشعب والحكومة”. وقد بلغت هذه الاستراتيجية ذروتها مع “فضيحة روسيا” وسنوات من الهستيريا الخالية من الأدلة التي روجت لها أجهزة الاستخبارات والحزب الديمقراطي. وتمثّل الادعاء المركزي في أن ترامب لم يكن ليهزم منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية لسنة 2016 لولا التواطؤ مع موسكو وعمليات التأثير الروسية عبر منصات التواصل الاجتماعي.
كما هو الحال في لعبة الغميضة، فإن أي علامات على سوء السلوك أو الإجرام من قبل الأجهزة الأمنية أو الإخفاقات المنهجية من قبل الطبقة السياسية الأمريكية تم استبعادها حاليا باعتبارها “معلومات مضللة روسية”. كما اُستُغلت مسألة نفي سنودن إلى روسيا – وهو الخيار الوحيد المتاح أمامه – للتشكيك في بلاغاته عن المخالفات المرتكبة من قبل وكالة الأمن القومي. وعلى نحو مماثل، تم نفي ما كشفه أسانج وويكيليكس عن جرائم حرب وانتهاك أجهزة الاستخبارات للقانون بشكل فعال من خلال اتهامهما بالتواطؤ المفترض مع “القراصنة الروس” في الكشف عن الفساد الذي يشوب الحزب الديمقراطي خلال انتخابات سنة 2016.
من الناحية العملية، أدت مزاعم “التضليل الروسي” ببساطة إلى مزيد من الاستقطاب في السياسة الأمريكية. وصُنفت القضايا الرئيسية التي أثارتها ملفات تويتر – مثل تواطؤ الدولة العميقة مع صناعات التكنولوجيا والإعلام، والتدخل في الانتخابات، والتلاعب بالسرد وتشويه الحقيقة – ضمن الحزبية السياسية حتى تحجب عن الرأي العام. واقتصر الاهتمام بملفات تويتر إلى حد كبير على اليمين السياسي. وبطريقة غير متوقعة، رفض الديمقراطيون في الغالب ما تم الكشف عنه باعتباره “هراء”.
مناخ من الخوف
ربما كان من قبيل الصدفة أن يجد ماسك نفسه منذ استحواذه على تويتر قد تحوّل من محبوب الليبراليين – بفضل سيارات تسلا الكهربائية – إلى شبه منبوذ. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، نفت إدارة بايدن التقارير التي تفيد بأنها تدرس مراجعة الأمن القومي لأعماله في مواجهة “موقف ماسك الودي تجاه روسيا بشكل متزايد”. وسرعان ما انهارت مكانته كأغنى رجل في العالم ومعها سمعته.
وتكمن المفارقة في أن نفس الأجهزة الأمنية التي كشفت “فضيحة روسيا” تظهر الآن في ملفات تويتر على أنها متورطة في التدخل الذي اتهموا موسكو به. فخلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2016، قيل إن روسيا تواطأت مع ترامب وساعدته من خلال استخدام منصات التواصل الاجتماعي لزرع الفتنة والتلاعب بالناخبين الأمريكيين. وقد فشل تحقيق رسمي لاحق أجراه روبرت مولر في إثبات هذه المزاعم
بدلاً من ذلك، أعتقد أن ملفات تويتر تشير إلى أن روسيا لم تتدخل في الانتخابات الأمريكية وإنما مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي ووكالة المخابرات المركزية – وهي الوكالات ذاتها التي تجادل بأن روسيا تهدد النظام السياسي في الولايات المتحدة – التي كانت تسعى بقوة وسرية للتأثير على الرأي العام الأمريكي.
تشير ملفات تويتر إلى أن الدولة الأمنية الأمريكية تشكل الخطر الحقيقي على الديمقراطية الأمريكية، أكثر بكثير من روسيا. ومناخ الخوف الذي غذته هذه الوكالات بسبب “التضليل الروسي” المزعوم لم يؤثر على الرأي العام فحسب، بل أعطى أجهزة الاستخبارات نفوذاً أكبر على منصات التواصل الاجتماعي والمزيد من الصلاحيات.
تحدد الجهات الفاعلة الحكومية بشكل متزايد من يُسمح له بإيصال صوته على منصات التواصل الاجتماعي – حتى ترامب تم حظره عندما كان رئيسًا – وما يمكن قوله. وهذه القرارات لا تُتخذ بهدف منع ارتكاب جريمة أو إنفاذ القوانين، أو حتى من أجل الصالح العام، وإنما غالبا للتحكم أكثر في الخطاب السياسي لتهميش الانتقادات الخطيرة الموجهة للحكومة. وحقيقة أن التواطؤ بين منصات التواصل الاجتماعي وهذه الوكالات قد حدث سرا يمثل في حد ذاته مؤشرًا على الطبيعة الشائنة لما يجري.
الضغط الخفي
تفتح ملفات تويتر نافذة على ظاهرة يبدو أنها مستفحلة عبر جميع منصات التواصل الاجتماعي. تقليديا، دافع الليبراليون عن استخدام منصات التواصل الاجتماعي للرقابة على أساس أنها شركات خاصة يمكنها أن تفعل ما يحلو لها. ومن المفترض أن سلوكها لا يشكل انتهاكًا للتعديل الأول من الدستور الذي يحمي حرية التعبير
مع ذلك، يظهر الواقع الذي كشفته ملفات تويتر أن هذه المنصات غالبًا ما كانت تستجيب لضغوط خفية، إما مباشرة من الحكومة الفيدرالية أو عبر وكالات المخابرات التابعة لها، فيما يتعلق بتقييد ما ينشره المستخدمون. وكما كشفت الملفات مرارًا وتكرارًا، أصبح تويتر، على غرار بقية منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، أقل شبها بشركة خاصة وأقرب إلى “نوع من الفروع التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي”.
في سنة 2017، في ذروة هستيريا “فضيحة روسيا غيت” أنشأ مكتب التحقيقات الفيدرالي فرقة عمل للتأثير الأجنبي سرعان ما تضخم عدد أفرادها إلى 80 عميلًا. وكانت وظيفتها المزعومة تقتصر على الاتصال بالشبكات المختلفة لوقف التدخل الأجنبي المزعوم في الانتخابات.
سرعان ما أصبح المسؤولون التنفيذيون في تويتر يلتقون ويتواصلون مع كبار مسؤولي مكتب التحقيقات الفيدرالي على أساس منتظم، بينما تلقوا مجموعة لا نهائية من المطالب بإزالة المحتوى لمنع “التضليل الروسي”. ويبدو أن وكالة المخابرات المركزية قد حضرت الاجتماعات أيضًا، تحت اسم “وكالة حكومية أخرى”. ومع أن اختصاص فريق العمل كان يتمحور حول النفوذ الأجنبي، فقد ورد أنه أصبح “قناة لجبال من طلبات مراجعة المحتوى المحلية، من قبل حكومات الولايات، وحتى الشرطة المحليّة”.
تحت ضغط متزايد خلف الكواليس من قبل أجهزة المخابرات، ومن السياسيين علنًا، ورد أن المنصات الاجتماعية بدأت وضع قوائم سوداء سرية مستعينة بمعلومات من الأجهزة الأمنية للحد من الوصول إلى الحسابات أو حظر المواضيع التي تلقى رواجا كبيرا. وغالبًا ما كان من الصعب تفويت الآثار المترتبة عن ذلك، بينما أعلن ترامب في سنة 2018 أنه سيحقق في هذه الممارسة.
ردًا على ذلك، نفى المسؤولون التنفيذيون في تويتر علنًا أنهم مارسوا “الحظر المظلل” – وهو مصطلح يشير إلى صعوبة أو استحالة العثور على المنشورات أو الحسابات نتيجة هذا الحظر الجزئي. وفي الواقع، اخترع تويتر ببساطة عبارة مختلفة لنفس نظام قمع حرية التعبير أطلقوا عليه اسم “تصفية الرؤية”.
اُستخدمت هذه الرقابة ضد حسابات الروبوت المشتبه بها، أو تلك التي تروج لمعلومات مضللة واضحة، وحتى الشخصيات العامة البارزة التي كانت لديها سلطة التحدث في موضوع ما تم استهدافها سرًا إذا تحدّت سرديات المؤسسة الرئيسية. فعلى سبيل المثال، عانى عالم الأوبئة في جامعة ستانفورد جاي باتاتشاريا من نظام “تصفية الرؤية” أثناء جائحة كوفيد-19 بعد أن انتقد عمليات الإغلاق لأنها تلحق الأذى بالأطفال، حيث وُضع على “القائمة السوداء للمنشورات الرائجة”
وفي خضم عمليات التسريح الجماعية الأخيرة للموظفين في تويتر، لم يتمكن موقع “ميدل إيست آي” من الاتصال بالشركة للتعليق على هذه المزاعم وغيرها من الادعاءات الواردة في “ملفات تويتر”. ولم ترد وكالة المخابرات المركزية على طلب التعليق حتى وقت نشر هذا التقرير، في حين أرسل مكتب التحقيقات الفيدرالي ردًا جاء فيه “لا تظهر المراسلات بين مكتب التحقيقات الفيدرالي وتويتر سوى أمثلة على الارتباطات التقليدية الطويلة والمستمرة بين الحكومة الفيدرالية والقطاع الخاص. وكما يتضح من المراسلات، يوفر مكتب التحقيقات الفيدرالي معلومات مهمة لشركات القطاع الخاص في محاولة للسماح لها بحماية نفسها وعملائها”.
كشفت الملفات أن الأطباء البارزين الآخرين الذين شككوا في السياسة الحكومية قد تم تهميشهم أيضًا من قبل تويتر، وتم ذلك غالبًا تحت ضغط مباشر من البيت الأبيض أو جماعات الضغط التابعة لشركات اللقاحات. لكن أكبر ضحايا نظام الرقابة في تويتر كان ترامب نفسه، الذي حُظر حسابه في 8 كانون الثاني/ يناير 2021 على الرغم من أن الموظفين اتفقوا وراء الكواليس على أنهم لا يستطيعون اتخاذ مثل هذا القرار بناء على أي انتهاك مباشر لقواعد المنصة.
التأثير الروسي المزعوم
أدت تداعيات فضيحة روسيا إلى انغماس تويتر أكثر في عالم الأجهزة الأمنية. في أوائل سنة 2018، قدّم النائب الجمهوري ديفين نونيس مذكرة سرية إلى لجنة المخابرات بمجلس النواب توضح بالتفصيل الانتهاكات المزعومة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي في مراقبة شخصية مرتبطة بترامب.
ويُزعم أن مكتب التحقيقات الفيدرالي اعتمد على ما يسمى “ملف ستيل” الذي تم تمويله جزئيًا من قبل كلينتون والحزب الديمقراطي، ولكن تم تقديمه في البداية من قبل وسائل الإعلام على أنه تحقيق مستقل بقيادة المخابرات للتحقق من التواطؤ المفترض بين فريق ترامب وموسكو.
أثارت الأخبار المتعلقة بهذه المذكرة حفيظة مؤيدي ترامب على منصات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى انتشار وسم #أنشروا المذكرة. وقد تم التحقق من مزاعم نونيس بعد ما يقارب السنتين من خلال تحقيق أجرته وزارة العدل، ومع ذلك سارع السياسيون الديمقراطيون ووسائل الإعلام في ذلك الوقت إلى السخرية من المذكرة، ووصفوا أي طلب لنشرها بأنه “عملية تأثير روسية”.
أثر الجدل حول هذه المذكرة على كبرى شركات التكنولوجيا، ولم تتمكن تحقيقات تويتر الخاصة من إثبات أي تورط روسي مشيرة إلى أن الوسم انتشر بسرعة وقوة ولكن بشكل طبيعي، مدفوعًا بخاصية التغريدات الهامة جدًا.
6.The Nunes assertions would virtually all be verified in a report by Justice Department Inspector General Michael Horowitz in December 2019. pic.twitter.com/uLFHwbsiJe
— Matt Taibbi (@mtaibbi) January 12, 2023
لكن المديرين التنفيذيين في تويتر لم يكونوا في حالة مزاجية للدخول في معارك قانونية، وبدلا من مواجهة الحزب الديمقراطي – وعلى الأرجح مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي يشعر بالقلق من الكشف عن المذكرة، اتبع تويتر “نمطًا مبتذلا من عدم تحدي مزاعم روسيا”- وذلك وفقًا لمات تايبي، أحد الصحفيين الذين عملوا على ملفات تويتر.
سرعان ما ألقت وسائل الإعلام الرئيسية باللوم على روسيا في أي وسم مربك انتشر على نطاق واسع، مثل وسم #الإطاحة بشومر و#إطلاق النار في باركلاند و#السيطرة على الأسلحة الآن. مع اشتداد حملة فضائح روسيا، تعرض تويتر لضغوط متزايدة من أجل التحرك. وفي سنة 2017، فحصت توتير يدويًا حوالي 2700 حساب تم الإبلاغ عنها على أنها مشبوهة، حيث تم تحييد الغالبية العظمى منها، وتعليق 22 حسابًا روسيًا محتملًا، بينما وُجد أن 179 حسابًا آخر لها “روابط محتملة” بهذه الحسابات.
كان السياسيون الديمقراطيون مُستائين، ويبدو أنهم كانوا يعتمدون على مصادر استخباراتية لدعم ادعائهم بأن منصات التواصل الاجتماعي قد اجتاحتها الروبوتات الروسية، بينما رد تويتر بتشكيل “فرقة عمل روسيا” لإجراء مزيد من التحقيق، لكنه مرة أخرى لم يجد أي دليل على حملة تأثير روسية. وكان كل ما توصل إليه هو عددا قليلا من الحسابات المنفردة التي أنفقت أموالا محدودة على الإعلانات.
مع ذلك، انغمس تويتر في أزمة علاقات عامة حيث اتهمه السياسيون ووسائل الإعلام بالقصور الذاتي، وقد هدد الكونغرس بتشريعات صارمة من شأنها حرمان تويتر من عائدات الإعلانات. كما أن عدم قدرة تويتر على العثور على حسابات التأثير الروسي جعلت صحيفة بوليتيكو تتهمه بـ “حذف البيانات التي يحتمل أن تكون حاسمة بالنسبة للتحقيقات الروسية”. وقد أثار تحقيق تويتر الأصلي في 2700 حساب ادعاءات غريبة في وسائل الإعلام بأنه تم اكتشاف “شبكة جديدة” من الروبوتات الروسية.
في خضم هذه العاصفة النارية، تغير مسار تويتر فجأة بصريح علني بأنه سيزيل المحتوى “وفقًا لتقديره الخاص” – ولكن الوضع في الحقيقة كان أسوأ من ذلك بكثير. أفاد تايبي في أحد ملفات تويتر، كان الأمر كما قررت الشركة بشكل خاص وهو “الخروج” عن ما “حدده مجتمع الاستخبارات الأمريكي ككيان ترعاه الدولة ويقوم بعمليات إلكترونية”.
وجد تويتر نفسه محاصرًا بشكل متزايد؛ حيث ورد في أحد ملفات تويتر الذي صدر الشهر الماضي أن مجموعة ضغط بارزة على الإنترنت تحت اسم “هاملتون 68” – على صلة بمجتمع الاستخبارات – ارتكبت “عملية احتيال” بشأن معلومات مضللة روسية.
تصدر الموقع عناوين لا نهاية لها في وسائل الإعلام الأمريكية بعد أن أشار إلى أنه كشف النقاب عن حملة تأثير روسية على منصات التواصل الاجتماعي، شملت مئات المستخدمين. وقد نشرت وسائل الإعلام هذه الادعاءات باعتبارها دليلا على اجتياح الشبكات الاجتماعية من قبل الروبوتات الروسية. وقد دُعي موظفو هاملتون 68 للإدلاء بشهادتهم في هذا الشأن أمام كبار السياسيين في الكونغرس.
ورغم هذه الضجة، لم تعلن هاميلتون 68 أبدًا عن قائمة حسابات الروبوتات التي قالت إنها اكتشفتها، في حين كشفت التحقيقات الداخلية في تويتر أن جميع الحسابات المدرجة في القائمة تقريبًا تعود لمستخدمين عاديين.
أصدر التحالف من أجل تأمين الديمقراطية، الذي استضاف هاميلتون 68 وخليفته هاميلتون 2.0، “صحيفة وقائع” ردًا على ملفات تويتر التي تنفي مزاعمهم، مشيرا إلى أن بياناته “أسيء فهمها أو تحريفها باستمرار” من قبل وسائل الإعلام والمشرعين، وذلك رغم “الجهود المكثفة لتصحيح المفاهيم الخاطئة في ذلك الوقت”. وأشار التحالف إلى أنه لم يعترف أبدا أن جميع الروبوتات كانت روسية، لكنه كان يراقب بعضًا مما قد يكون كذلك.
والجدير بالذكر أن هاميلتون 68 كان يرأسه مسؤول كبير سابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي، بينما لم يقف المسؤولون التنفيذيون في تويتر علنًا في مواجهة تقارير وسائل الإعلام، ووجدوا أنفسهم في موقف صعب عندما حاولوا التطرق إلى مخاوفهم على انفراد مع المراسلين.
مكتب التحقيقات الفيدرالي “مركز للمعلومات”
في إشارة إلى مدى تقارب مكتب التحقيقات الفدرالي وتويتر، عيّن تويتر جيمس بيكر، المحامي الأعلى السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، مستشارا قانونيا كان يعد أحد الشخصيات المركزية في الجهود المبذولة لتصوير قصة التواطؤ بين ترامب وموسكو – التي فقدت مصداقيتها مرة أخرى الآن.
كانت وجهة الكثير ممن غادروا مكتب التحقيقات الفدرالي تويتر، ومن بينهم دون بيرتون، النائب السابق لرئيس أركان مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، التي بدأت التحقيق في فضائح روسيا، ثم أصبحت مديرة الإستراتيجية في تويتر في سنة 2019. وكانت توجد علاقات مماثلة مع أجهزة الأمن البريطانية؛ حيث عين تويتر جوردون ماكميلان، مستشارا تحريريا كبيرا في الشرق الأوسط، وقد شغل منصبه بدوام جزئي حيث كان يعمل في نفس الوقت في وحدة الحرب النفسية بالجيش البريطاني اللواء 77.
بحلول سنة 2020، ومع انتشار الجائحة، رأت الوكالات الحكومية الأخرى فرصة سانحة لشن حملة موازية ضد تويتر تركز على جهود الصين المفترضة لنشر معلومات مضللة عن فيروس كوفيد-19. زعم أحد أذرع المخابرات التابعة لوزارة الخارجية، وهو مركز المشاركة العالمية – مستخدمًا بيانات الحكومة الفيدرالية – أن 250 ألف حساب على تويتر كانت تضخم “الدعاية الصينية” مرة أخرى لزرع الفوضى؛ وشملت تلك الحسابات الجيش الكندي وسي إن إن.
تظهر رسائل البريد الإلكتروني بين المديرين التنفيذيين في تويتر أن لديهم وجهات نظرهم الخاصة حول ما تأمل الحملة تحقيقه. فقد أراد مسؤولو وزارة الخارجية “إدراج أنفسهم” في ائتلاف الوكالات، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي، التي سُمح لها بإزالة محتوى تويتر.
لكن اعترض تويتر على انضمام وزارة الخارجية إلى ائتلاف هذه الوكالات الحكومية – بتعلة أن ذلك يتناقض بشدة مع نهجه المتبع مع مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي – بينما كان المسؤولون التنفيذيون يعتبرونها “مسيسة” و”ترامبية”.
في نهاية المطاف، تم اقتراح أن يكون مكتب التحقيقات الفيدرالي بمثابة “مركز المعلومات” الذي سيُبقي من خلاله وادي السيليكون بقية الوكالات الحكومية الأخرى على اطلاع. وكانت النتيجة، وفقًا للملفات، أن تويتر “كان يتلقى طلبات، التي غالبًا ما كانت بكثرة، من كل هيئة حكومية يمكن تصورها”، في حين لم ترفض المنصة أبدًا طلبات حذف الحسابات المشتبه في كونها روبوتات روسية.
مع ازدياد استسلام تويتر، حاول حتى كبار السياسيين الأمريكيين التدخل في هذا الحدث. قدم آدم شيف، رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب آنذاك، طلبا بشأن حساب صحفي لا يحب أن يتم حظره على المنصة. ورغم تردد تويتر في الموافقة على مثل هذه الطلبات، إلا أنها “قلصت” نطاق بعض الحسابات.
مع اقتراب انتخابات 2020، أصبح تدفق مطالب خدمات الأمن طوفانًا يهدد بسحق تويتر. لم يكن الكثير من هذه الطلبات على صلة بالنفوذ الأجنبي – الهدف الظاهري لفريق عمل مكتب التحقيقات الفيدرالي. وبدلاً من ذلك، غالبا ما كانت الطلبات المقدمة تتعلق بالحسابات المحلية، ونادرًا ما قامت بتفصيل تهديدات خرق القانون أو الإرهاب، التي من المفترض أن تكون مجال الاهتمام الرئيسي لمكتب التحقيقات الفيدرالي، لكنها ركزت بدلاً من ذلك على انتهاكات أقل وضوحًا بكثير لـ “شروط الخدمة” في تويتر.
في كثير من الأحيان، تعرضت الحسابات “للإعدام الرقمي” ليس لأن ما تم التغريد به كان معلومات مضللة يمكن التحقق منها، بل لأن التغريدات تجاوزت الخطوط الحمراء السياسية: مثل الإشارة إلى مشكلة النازيين الجدد في أوكرانيا، أو التعاطف الشديد مع الزعيم الفنزويلي نيكولاس مادورو أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
تسريبات الحاسوب المحمول
بمجرد دمجها في عمالقة التكنولوجيا، استخدمت الأجهزة الأمنية صلاحياتها سراً لتشكيل ملامح الحوار الوطني حول الانتخابات الرئاسية لسنة 2020. وربما يكون أكبر كشف وحيد حتى الآن – مما يؤكد الشكوك المتعلقة باليمين – هو أن منصات التواصل الاجتماعي ووكالات أمن الدولة لعبت دورًا في قمع ما يسمى بقصة الحاسوب المحمول الخاص بهانتر بايدن قبل أسابيع من انتخابات 2020.
في فترة الاستعداد للانتخابات، هيّأ فريق عمل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأجواء من خلال فرض مزاعم للمديرين التنفيذيين في وادي السيليكون أن روسيا ستحاول “التخلص من” المعلومات المخترقة لإلحاق الضرر بالمرشح الديمقراطي للرئاسة جو بايدن. كان من المفترض إعادة سيناريو انتخابات سنة 2016، عندما أضر نشر رسائل البريد الإلكتروني الداخلية من الحزب الديمقراطي بالمرشحة آنذاك هيلاري كلينتون.
بعد انتخاب ترامب، كان الكثير من رواية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016 قائما على ادعاءات خالية من الأدلة من قبل أجهزة الأمن بأن تلك الرسائل الإلكترونية المحرجة، التي تشير إلى الفساد السياسي بين قيادة الحزب الديمقراطي، قد اخترقتها روسيا.
في المقابل، تم تجاهل الأدلة التي تشير إلى تفسير مختلف – القائلة إن رسائل البريد الإلكتروني تم تسريبها من قبل شخص ساخط من الداخل – على نطاق واسع. حجبت الضجة التي أثارتها القصة حقيقة أن رسائل البريد الإلكتروني، وتسريباتها عن الحزب الديمقراطي، كانت كلها حقيقية تمامًا.
اتخذت الشبكات الاجتماعية خطوة غير مسبوقة بعرقلة محاولات نشر القصة على منصاتها، والتي ربما تكون قد أثرت على نتيجة انتخابات 2020 – وهو أمر ينظر إليه الكثير من أنصار اليمين الجمهوري على أنه جريمة ضد الديمقراطية
بناءً على تحذيرات وكالات الاستخبارات، قامت منصات التواصل الاجتماعي على عجل بحجب قصة جهاز الحاسوب المحمول لهانتر بايدن، التي زعمت وجود روابط إشكالية بين بايدن وعائلته والمسؤولين الأجانب في أوكرانيا. نفى مسؤولو جو بايدن ارتكاب أي مخالفات من قبل المرشح الرئاسي آنذاك، بينما كان هانتر نفسه يتهرب بشأن ما إذا كان الحاسوب المحمول يخصه. وهذه القصة، التي كشفت عنها صحيفة نيويورك بوست اليمينية، تم الإعلان عنها على الفور على أنها عملية نفوذ روسية من قبل العشرات من مسؤولي المخابرات السابقين.
لكن في الحقيقة، علم مكتب التحقيقات الفيدرالي قبل ما يقارب سنة من نشر القصة أن الحاسوب المحمول يخص هانتر بايدن وأن المعلومات التي يحتويها لم تكن مزورة أو مخترقة على الأرجح. أبلغ صاحب متجر حواسيب في ولاية ديلاوير، كان قد طلب منه هانتر بايدن إصلاح جهاز الحاسوب المحمول الخاص به، مكتب التحقيقات الفيدرالي عن مخاوفه. حتى أن الوكالة طلبت منه إحضار الجهاز.
تثير سلسلة الأحداث هذه تساؤلات حول ما إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي قد قرر استباق تأثيرات قصة الحاسوب المحمول، التي هددت الفرص الانتخابية لجو بايدن سنة 2020، قبل أن تتمكن الصحافة اليمينية من نشرها. ويبدو أنهم تلاعبوا بوسائل الإعلام، بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي، على افتراض أن أي قصة أساءت إلى بايدن قبل الانتخابات كانت معلومات مضللة نشرتها روسيا.
كان لدى كبرى شركات التكنولوجيا في ذلك الوقت أسباب أخرى للاعتقاد بأن القصة كانت على الأرجح صحيحة. وقد أجرت صحيفة نيويورك بوست عمليات التحقق المعتادة. وسرعان ما أكد مراسلون آخرون أن المعلومات جاءت من الحاسوب المحمول الخاص بهانتر بايدن.
مع ذلك، قبلت تويتر على عجل الادعاء بأن القصة انتهكت سياستها ضد نشر المواد المخترقة، مما عكس ادعاء مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنها كانت معلومات مضللة روسية. قبِل آخرون، مثل مارك زوكربيرغ في فيسبوك، ادعاءات مكتب التحقيقات الفيدرالي دون تحقيق أو دليل أيضًا – وذلك حسب ما اعترف به لاحقًا.
اتخذت الشبكات الاجتماعية خطوة غير مسبوقة بعرقلة محاولات نشر القصة على منصاتها، والتي ربما تكون قد أثرت على نتيجة انتخابات 2020 – وهو أمر ينظر إليه الكثير من أنصار اليمين الجمهوري على أنه جريمة ضد الديمقراطية، بينما يراه العديد من مؤيدي الحزب الديمقراطي على أنه شر لا بد منه للدفاع عن النظام الديمقراطي.
حرب نفسية
لم يكن التواطؤ بين منصات التواصل الاجتماعي والدولة الأمنية الأمريكية بشأن التحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2016 انحرافًا. وفقًا لملفات التحقيق، أعطى تويتر البنتاغون تفويضًا خاصًا منتهكاً سياساته الخاصة لإنشاء حسابات لتنفيذ “عمليات تأثير نفسي عبر الإنترنت”.
ساعد تويتر الجيش في إدراج 52 حساباً مزيفاً باللغة العربية في “القائمة البيضاء” بهدف “تضخيم تأثير رسائل معينة”. روجت هذه الروايات لأهداف عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، بما في ذلك رسائل تهاجم إيران وتدعم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وادعاء بأن ضربات الطائرات الأمريكية المسيرة لم تصب سوى الإرهابيين.
بحلول أيار/ مايو 2020، رصد تويتر عشرات الحسابات الأخرى التي لم يكشف عنها البنتاغون كانت تغرد باللغتين الروسية والعربية حول مواضيع مثل سوريا والدولة الإسلامية. وفقًا للصحفي لي فانغ، الذي عمل على ملفات تويتر: “تُظهر العديد من رسائل البريد الإلكتروني طوال سنة 2020 أن المديرين التنفيذيين رفيعي المستوى في تويتر كانوا على دراية جيدة بشبكة [وزارة الدفاع] الواسعة من الحسابات المزيفة والدعاية السرية ولم يعلقوا الحسابات”.
كشف بحث آخر عن شبكة دعاية واسعة يقودها البنتاغون على تطبيقات تواصل اجتماعي أخرى، مثل فيسبوك و تيليغرام.
إن تساهل تويتر مع هذه الحسابات السرية للبنتاغون يتناقض بشدة مع تعامله مع وسائل الإعلام والأفراد المتهمين بالانتماء إلى دول تعتبرها حكومة الولايات المتحدة معادية ويتم تصنيفهم بشكل بارز على هذا النحو، لا سيما الصحفيين والأكاديميين الغربيين المعارضين الذين يُزعم أنهم عملوا مع وسائل إعلام روسية أو صينية أو إيرانية أو فنزويلية.
وفقًا لبحث أجرته مجموعة المراقبة الإعلامية “فير”، يواصل تويتر إخفاء ارتباطات الدولة بالحسابات الممولة من الحكومة الأمريكية، بما في ذلك تلك التي تروج لأهدافها الدعائية في أوكرانيا وأماكن أخرى. ولم تجد “فير” أي أمثلة للحسابات التي تم تحديدها على أنها “وسائل إعلام تابعة للولايات المتحدة”، ولا أي أمثلة مصنفة على هذا النحو في بريطانيا أو كندا. وخلصت المجموعة إلى أن: “تويتر يمكّن وسائل الدعاية الأمريكية من الحفاظ على التظاهر بالاستقلالية على المنصة، وهو تأييد ضمني للقوة الناعمة الأمريكية وعمليات التأثير.. وبذلك يعمل تويتر كمشارك نشط في حرب المعلومات المستمرة”.
سحابة كثيفة من السرية
بعد أن بدأت ملفات تويتر تنكشف في كانون الأول/ ديسمبر، لم يستجب مكتب التحقيقات الفيدرالي لمطالب التعليق عن مدى صحة الوثائق، بل مارس نفس اللعبة وهي اتهام الصحافيين بنشر “نظريات المؤامرة” و”معلومات خاطئة” تهدف إلى “تشويه سمعة الوكالة”.
تواصل هيلاري كلينتون، عميدة مؤسسة الحزب الديمقراطي، إلقاء اللوم على التضليل الروسي في مشاكل بلدها. والحقيقة أن كلاً من الأجهزة الأمنية والمؤسسة السياسية قد استثمرت الكثير في ترتيباتها السرية الحالية مع الشبكات الاجتماعية للموافقة على التغيير. ومن غير المرجح أن يزداد الضغط للقيام بذلك بينما تواصل الولايات المتحدة الترنح من أزمة إلى أخرى: من “الحرب على الإرهاب” مروراً برئاسة ترامب وجائحة كوفيد-19 إلى غزو روسيا لأوكرانيا. كل هذه الأزمات – بطرقها المختلفة – هي إرث من القرارات السياسية التي اتخذتها نفس الجهات الفاعلة التي ترفض الآن التحقيق والمراقبة.
توفر هذه الأزمات ذريعة ليس فقط للتخاذل في أداء المهام، وإنما لقيام الدولة بفرض ضوابط أكثر صرامة على الساحة الرقمية العامة ليس في كنف شفافية بل في ظل سحابة كثيفة من السرية.
في ملفات تويتر، فتح ماسك نافذة صغيرة لإظهار القليل مما يجري خلف الأبواب المغلقة. ولكن حتى تلك النافذة ستغلق مرة أخرى قريبًا
مثلما حذر تشيرش منذ ما يقارب نصف قرن من الزمان، فإن أكبر تهديد تواجهه الولايات المتحدة هو احتمال أن تقوم أجهزتها الأمنية بتوجيه قوتها الهائلة إلى الداخل، أي ضد الرأي العام الأمريكي. وهذا بالضبط ما وثقته ملفات تويتر. تظهر هذه الأزمات أن مجتمع الاستخبارات أعاد تحديد دوره الأساسي – حماية الشعب الأمريكي من التهديدات الخارجية – ليشمل الجمهور الأمريكي نفسه كجزء من هذا التهديد.
في سنة 2021، كانت إحدى أولويات إدارة بايدن الكشف عن استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب المحلي. ووصفت فقدان الثقة في الحكومة والاستقطاب الشديد بأنه “تغذيه أزمة المعلومات المضللة والمعلومات المزيفة التي غالبًا ما يتم توجيهها عبر منصات التواصل الاجتماعي”.
يبدو أن تزايد الاستياء بين المواطنين الأمريكيين ليس بسبب فشل القيادة السياسية أو الدولة العميقة المتغطرسة. بدلاً من ذلك، تنظر نفس المؤسسة الفاشلة إلى رد الفعل الشعبي – والسخط الانتخابي – من منظور يخدم مصالحها فقط باعتباره دليلا على التدخل الخارجي.
وفي ملفات تويتر، فتح ماسك نافذة صغيرة لإظهار القليل مما يجري خلف الأبواب المغلقة. ولكن حتى تلك النافذة ستغلق مرة أخرى قريبًا. وبعد ذلك سنعود إلى التعتيم – إلا إذا طالب الشعب بحقه في معرفة المزيد.
المصدر: ميدل إيست آي