جدّد تصريح وزير الزارعة التركي، وحيد كيريشتي، الخاص بـ”سلامة السدود” التركية، وعدم تأثرها بالزلازل المدمرة وتوابعها العنيفة؛ التي ضربت جنوبي البلاد، التذكير بملفَّين مهمَّين يواصلان إثارة الجدل، الأول هو العلاقة السببية بين السدود والزلازل، والثاني تطورات أزمة المياه التركية مع العراق وسوريا.
وأمام تزايد المخاوف، أكّد وزير الزارعة التركي أن “جميع السدود ومحطات الطاقة في البلاد في حالة جيدة ولم تتأثر بالزلازل، كما تقوم فرق مختصة بعمليات فحص ومراقبة السدود ومحطات توليد الطاقة للتأكد من سلامتها”.
ونفى الوزير وجود تسريبات “سواء في السدود أو المحطات الكهرومائية” بعد الكارثة التي تعرّضت لها 10 ولايات تركية، بداية من 6 فبراير/ شباط الجاري، الأمر الذي تسبّب في مصرع أكثر من 40 ألف ضحية، وإصابات تتجاوز الـ 108 آلاف شخص.
ورغم إعلان الوزير “اتخاذ جميع التدابير والاحتياطات في جميع السدود، وأنه لا توجد أخطار من فيضان نهر العاصي في سوريا”، تتباين الآراء حول موقف أكثر من 600 سد تركي، بين كبير ومتوسّط، طاقتها التخزينية الإجمالية من المياه تتجاوز الـ 651 مليار متر مكعب.
ويحاول “نون بوست” الوقوف على حقيقة ما يتردد حول علاقة السدود بوقوع الزلازل، وتفاقم قوتها التدميرية، وإلى أي مدى تتمسّك تركيا بإقامة المزيد منها كـ”جزء من ممارسة سيادتها الطبيعية على ترابها ومواردها”، وتأثير ذلك على تدفق مياه نهرَي دجلة والفرات للعراق وسوريا.
تركيا والسدود
يلخّص الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، موقف بلاده تجاه قضية المياه عمومًا، والسدود على وجه الخصوص، بقوله: “حماية مواردنا المائية، قبل أن تصل حد النضوب، واستخدامها بكفاءة، وإدارتها بشكل صحيح، لم يعد خيارًا، لكنه أصبح ضرورة”.
وتمنح الجغرافيا تركيا أكثر من 90% من مياه نهر الفرات، و40% من مياه نهر دجلة، ولجأت الحكومة التركية، خلال الـ 20 عامًا الماضية، إلى الاستفادة من مياه النهرَين (اقتصاديًّا وتنمويًّا) عبر أحدث التقنيات في تعمير منطقة غرب وشرق الأناضول.
وتختلف منطقة غرب الأناضول عن جنوب شرق البلاد، من حيث قلة هطول الأمطار وندرة المياه، فعاد الاعتبار إلى مشروع تعمير المنطقة (GAP) بعدما أصبح المصدر الأساسي للمياه (22 سدًّا و19 محطة للطاقة الكهربائية) بحكم تغطيته لـ 9 ولايات.
يغذّي المشروع قطاعات الري، الزراعة، الصناعة، المواصلات والاتصالات؛ ويعدُّ سد أتاتورك، منذ تدشينه في تسعينيات القرن الماضي، من أهم مكونات المشروع الذي تمَّ تطويره في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية، عبر بناء عدة سدود على نهرَي دجلة والفرات.
يقع في نطاق مشروع التنمية الإقليمي المتكامل حوالي 25% من إمكانات المياه في تركيا، وعند افتتاح سد إيليصو فسّر أردوغان استراتيجية مشاريع الري والتنمية خلال السنوات الأخيرة، خاصة مع تزامنه مع تعرُّض دول إقليمية كالعراق وسوريا للجفاف.
تصوُّر استباقي
يتبنّى أردوغان وحكومته سياسة واضحة في ملف المياه والسدود، حيث يقول: “المشاريع الخدمية التي ننتهجها تركّز على تحقيق أهداف تركيا المنشودة.. أنجزنا عدة مشاريع، رغم عراقيل التمويل، والهجمات الإرهابية، وحملات التشويه”.
يدرك أردوغان مخاطر الجفاف والقحط التي تعانيها عدة بُلدان، فتمسّكَ بـ”حماية تركيا من أخطار الجفاف وتأثيرها على نقص الغذاء، والاستعداد لسيناريوهات مظلمة تنتظر العالم”، مؤكدًا أن “الماء أثمن وأهم مورد استراتيجي، مع ازدياد القحط وتغير المناخ وعدد السكان”.
وبادر بمكاشفة الرأي العام بحقيقة الموقف: “نعاني شحّ المياه الصالحة للاستخدام سنويًّا.. النسبة ستتراجع خلال الـ 20 عامًا المقبلة مع قلة كمية هطول الأمطار.. الفترة المقبلة ستشهد صراعًا على المياه وإنتاج الغذاء.. نعدّ تركيا للمستقبل في المياه والزراعة والطاقة”.
يأتي هذا فيما تشير دراسات إلى أن حصة المواطن التركي من المياه تراجعت خلال الـ 20 عامًا الماضية من “4 آلاف إلى 1300 متر مكعب، وأنها قد تنخفض إلى 1100 متر مكعب من المياه بنهاية العقد الحالي، بالتزامن مع زيادة عدد السكان”.
يؤكّد أردوغان أن “الجنوب الشرقي للبلاد لم يعد مهملًا، وأن سدّ إيليصو جزء من خطة طويلة الأجل لتطوير المنطقة الفقيرة التي تسكنها أغلبية كردية، وسيخلق أكثر من 10 آلاف وظيفة، كما سيساعد على ريّ الأراضي الزراعية وتنشيط حركة السياحة”.
ويعدّ سد إيليصو جزءًا من مشروع جنوب شرق الأناضول، وهو قادر على إنتاج 4.12 مليارات كيلوواط/ ساعة من الطاقة الكهربائية سنويًّا، وسيوفّر لتركيا حوالي 250 مليون دولار سنويًّا في إنتاج الكهرباء، ويسهم في توفير المياه لريّ 1.2 مليون هكتار من الأراضي.
لكن يظل السؤال: ما علاقة السدود التركية كإيليصو وأتاتورك على الفرات (الثالث عالميًّا وفقًا لحجم قاعدته، والثامن في الارتفاع، والخامس عشر في حجم خزّان المياه، والثامن عشر في إنتاج الطاقة الكهربائية) بسلسلة الزلازل الأخيرة؟ وما وجهات النظر في هذا الشأن؟
3 مواقف
يقول أستاذ الجيولوجيا في الجامعة الهاشمية بالأردن، أحمد ملاعبة: “السدود التي بنتها تركيا لها دور جيولوجي في الزلزال الكبير، الذي وقع في 6 فبراير/ شباط الجاري.. لم تكن السبب المباشر، لكنها ساعدت في وقوعه من الناحية الجيولوجية”.
مضيفًا: “السدود التركية بلغت ذروتها، وبلغ مخزون مياهها أكثر من 651 مليار متر مكعب، وهذه الكمية تؤثر على القشرة الأرضية بالكامل، حيث تتسرّب عبر الشقوق والكسور والفواصل الأرضية إلى الأحواض الجوفية المشبعة بالمياه في الأساس”.
وأشار ملاعبة إلى أن “زيادة المياه تؤدي إلى تمدد الأحواض، وارتفاع كمية الماء المخزنة، وحدوث تمدد أو توسُّع للكسور الموجودة في الأحواض الجوفية، ينتج عنها خلخلة أو تكسير للفوالق يساعد في وقوع الزلازل“.
والفوالق الجيولوجية (الصدوع) عبارة عن ثغرات بين كتلتَين من الصخور، تسمح لكل جانب بالتحرك ما يتسبّب في وقوع الزلزال، ويعتمد كل نوع من الفوالق على زاويته واتجاه حركته، وتنزلق كتلتان في اتجاه أفقي من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين.
في المقابل، يرى أستاذ الجيولوجيا والمواد المائية المصري، عباس شراقي، أن “تركيا بحكم موقعها الجغرافي وطبيعتها الجيولوجية تصنَّف كمنطقة زلازل؛ تضم مجموعة رئيسية من الفوالق الكبيرة، مع وجود فواصل بين الكتل القارية: أفريقيا، أوروبا والكتلة العربية مع أوروبا”.
وأوضح شراقي أن “السدود وحدها لا تصنع زلازل قوية، بدليل أن هناك زلزالًا مدمّرًا وقع في تركيا عام 1939، دون أن يكون هناك السدود التي يظهر دورها عندما تتمّ إقامتها في منطقة غير مستقرة جيولوجيًّا، أو منطقة فيها فوالق كبيرة كما في جنوب الأناضول”.
وقال: “شيّدت تركيا 21 سدًّا على دجلة والفرات، مجموع تخزينهما 120 مليار متر مكعب من المياه، لم يتأثرا بالزلازل، وعلميًّا السدود ليست سببًا في وقوع زلازل، بل تحدث الزلازل بسبب اجتماع عدة عوامل: عدم استقرار التربة، والطبيعة الجيولوجية للمنطقة، ووجود سدود ضخمة”.
وينصح شراقي الحكومة التركية بـ”الحد من السعة الاستيعابية للسدود من حيث كمية المياه، لأن الطبيعة الجيولوجية للمنطقة هي بيئة زلازل” مع “سرعة معاينة السدود وتفريغ ما يمكن تفريغه، لأن وقوع زلازل، حتى لو متوسطة القوة، قد يهدد بانهيارها”.
أما وزير المياه الأردني الأسبق، منذر حدادين، فقد نفى وجود علاقة بين الزلازل و”السدود المائية السطحية التي لا تؤثر على الطبقات الداخلية للأرض”، لأن “الصفائح الجيولوجية على عمق حوالي 100 كيلومتر، ولا يمكن للسدود أن تفتعل تأثيرًا يحرّك هذه الطبقات الجيولوجية.
ودلل حدادين على رأيه بـ”سد أتاتورك، أكبر السدود التركية، الذي يعمل منذ تسعينيات القرن الماضي، دون أن يتسبّب في وقوع زلازل، ما ينفي المزاعم المتداولة”، وأوضح أن “تفريغ بعض السدود -حال حدوثه- يعود إلى وجود تشقُّقات بسبب قوة الزلزال”.
وأنه في هذه الحالة “يتم فتح بوابات أي سد وإفراغه منعًا لانهياره وحدوث فيضان”، مشكّكًا في “فتح سد سلطان سويو بولاية ملاطية التركية لتصريف مياهه كإجراء احترازي”، وأنه “لا توجد مشكلة بالنسبة إلى السدود التركية”.
منشآت استثنائية
وبحكم طول عمرها الزمني، وتأمينها لتحمُّل الاهتزازات الأرضية خلال الزلزال (ضمن ما يعرَف بـ”السلامة الزلزالية”)، يعتمد إنشاء السدود على تقنيات معقّدة، وأوضح عضو جمعية المهندسين الجيولوجيين، بولنت أوزمان، أن “السدود هياكل ذات تصميم خاص”.
ونبّه أستاذ الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية المصري، عمر الشرقاوي، أن “السدود التركية تمَّ إنشاؤها على كود البناء الزلزالي المستخدَم منذ فترة طويلة، حتى تتحمل قوة الزلازل المناسبة”.
يؤكد خبير المياه الدولي، عطية الجيار، أن “الدقة تتصدر المواقع المختارة في إنشاء السدود، بحيث يكون موقع البناء ملائمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وبيئيًّا وقانونيًّا، ويتم استخدام الصور الجوية وصور الأقمار الصناعية حسب الإجراءات المطلوبة”.
تتعدد التحريات الأولية عند تنفيذ السدود (مواد البناء، الأثر البيئي، وضع المخطط العام، التقييم الفني والاقتصادي الأولي) قبل تنفيذ التحرّيات التفصيلية في الموقع المعتمَد، وتقدير كمّيات مواد البناء، وتحديد مواصفاتها الفيزيائية-الميكانيكية.
السدود (بحسب نوع مكونات إنشائها): خرسانية ذات تكلفة مالية مرتفعة، بسبب الإسمنت المسلَّح وتأمين التربة حتى تتحمّل الضغط الهائل الناتج عنها؛ وسدود ترابية أو ركامية تعتمد على الحصى والرمال، مع تبطين جسم السد بالإسمنت، وهي الأقل في التكلفة المالية.
أما السدود الركامية فهي أكثر عرضة للتصدع أو الانهيار، خاصة مع قوة الزلازل والبراكين والمتفجّرات، فضلًا عن طبيعة التربة التحتية، وطبيعة المنطقة الجيولوجية، وسلامة التصميم الهندسي، والقدرة التخزينية للسدّ حتى يتحمّل منسوب الفيضانات الكبيرة.
انهيار السدود
غير أن متانة السدود (ذات التصميم المقاوم للزلازل) لا تتعارض مع طرح السيناريو الأسوأ: متى تنهار السدود؟ وما هي تداعيات الانهيار على المنطقة المحيطة (التجمعات السكانية، الحياة البيئية، الأراضي الزراعية)، داخليًّا وإقليميًّا، نتيجة الدمار المترتّب عن طوفان المياه؟
هذا السيناريو ينتج عن الأخطاء التصميمية في بناء السدود، إذا كانت في التسليح، حساب الإجهادات، منسوب الفيضان، تحمُّل جسم السد للزلزال، تربة الموقع، نوعية الإسمنت، صبّ الخرسانة، الوصلات الاستنادية، تنفيذ الكتلة البيتونية ودرجة الحرارة.
وخسائر انهيار السدود (كليًّا أو جزئيًّا) ترتبط بـ”الكثافة السكانية، والمنشآت القريبة، وقوة المياه المتدفقة من خزّان السد، ووجود خطط لإدارة الكوارث والإنذار المبكر من عدمه، فضلًا عن طبيعة تضاريس المنطقة، ونمط توزيع أحواض التصريف والأودية للحدِّ من تدفق المياه”.
التقديرات التحذيرية، عمومًا، تتوقع وصول أول موجة فيضان للسدّ المنهار إلى المناطق المحيطة في 3 ساعات فقط، وهي مدة ليست كافية لإجلاء السكان واتخاذ الإجراءات الاحتياطية والاحترازية اللازمة، خاصة إذا لم يكن هناك نظام للإنذار المبكر.
كما أن غمر المياه للأحياء السكنية والمناطق المجاورة، عند انهيار أي سدّ، سيحوّلها إلى بِرك مياه ومستنقعات كبيرة تتسبّب في الإضرار بالبشر ونفوق الحيوانات وانتشار الحشرات، مع اتساع نطاق الأمراض الوبائية وزيادة أعداد الوفيات.
وتتفاقم الخسائر الاقتصادية نتيجة انهيار السد في ظل تضرر البنى التحتية بشكل كبير، وتعطُّل الخدمات الأساسية (إمدادات الكهرباء، مياه الشرب، شبكات الصرف الصحي)، مع تضرر الزراعة والمنشآت الصناعية، وتوقُّف الإنتاج، وتكلفة التعامل مع الكارثة.
لكن يمكن التغلُّب على انهيار السدود عبر المتابعة الدائمة لحالتها الفنية، وانتظام عملها وصيانتها الدورية، ووجود نظام للإنذار المبكر، وتجهيز خطط واقعية للإجلاء والإغاثة، وإعداد خرائط للحماية والإيواء لإنقاذ محيط السد وجواره الإقليمي، كما في الحالة التركية.
مخاطر على الجيران
لم يعد القلق مرتبطًا بانهيار السدود، ففي العراق توثّق عدة فيديوهات خلال السنوات الأخيرة الانخفاض الكبير في منسوب مياه نهر دجلة، كما في الموصل (شمالي العراق) وفي بغداد، ويربط البعض بين ما يحدث وإنشاء سد إيليصو التركي على نهر الفرات.
وحذّرت دراسات لوزارة الموارد المائية العراقية من انخفاض حصة البلاد من مياه دجلة بسبب السدود التركية، حيث يعتمد العراق في تأمين المياه بشكل أساسي على نهرَي دجلة والفرات وروافدهما التي تلتقي قرب مدينة البصرة.
ويحدد بروتوكول المياه الموقع بين العراق وتركيا وسوريا حصة العراق بـ 58% (9.106 مليار متر مكعب) وحصة سوريا بـ42% (6.627 مليار متر مكعب) مقابل 15.700 مليار متر مكعب لتركيا، بينما لا توجد اتفاقات بين العراق وإيران فيما يتعلق بالمياه.
وتواجه سوريا أزمة مياه حادة، فيما يعاني العراق أزمة جفاف بعد إنشاء السلطات الإيرانية سد كولسه بمنطقة زردشت، وتأثيره على مياه نهر الزاب الصغير، واتهمت الجهات المعنية في محافظة السليمانية العراقية إيران بالمسؤولية عن أزمة مائية تهدد 90 ألف نسمة.
ويبلغ معدل التدفق السنوي لنهر الفرات حوالي 31.8 مليار متر مكعب (يروي 1.3 مليون هكتار من الأراضي الزراعية)، وتشرب منه 7 محافظات (الأنبار، بابل، كربلاء، النجف، القادسية، المثنى وذي قار) و30 قضاء و70 ناحية وأكثر من 4500 قرية.
ويصل عدد السكان المستفيدين منه إلى 14 مليون شخص، كما يوفر المياه لثلثَي الأراضي المروية في سوريا، و70% من احتياجات الكهرباء (يولد طاقة بحدود 800 ألف ميغاواط).
مَن السبب؟
تسبّبت حرب العراق وإيران، وخلافات سوريا والعراق، والغزو الأمريكي للعراق عام 2003؛ في غياب مفاوضات جادّة لحسم ملف المياه، رغم وجود معاهدات دولية (لوزان عام 1923، وهلسنكي عام 1973، والأرجنتين عام 1977) تنظم الاستفادة من الأنهار الدولية.
وتزامنت مشاريع المياه التركية مع تدهور الأوضاع الأمنية بالعراق وسوريا، خلال سيطرة تنظيم “داعش” على أجزاء منهما، وقد وعد الرئيس التركي آنذاك، عبد الله غول، بمضاعفة حصة مياه نهرَي دجلة والفرات مقابل خطوات عراقية عملية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني.
لكن خبراء يؤكدون أن نقص إمدادات مياه دجلة والفرات، وسط العراق وجنوبه، يعود إلى تقصير الحكومات، كونها “لم تفلح خلال الـ 15 عامًا الماضية في بناء أي سدود مائية، رغم أن الأموال العراقية، المهدَرة خلال الحقبة ذاتها، كانت تكفي لتحويل العراق إلى جنة خضراء”.
وأنذرت مراكز دراسات جيولوجية ومائية (محليًّا ودوليًّا) الحكومات المتعاقبة ووزارة الموارد المائية بأن “العراق مقبل على سنوات عجاف ستقلّ فيها مستويات الأنهار، وسيتراجع مخزون البحيرات في البلاد إلى مستويات قياسية”.
وأثّرت الأزمات السياسية العاصفة في العراق على تعاطي حكوماتها مع “مشكلة” الانخفاض الكبير في منسوب مياه نهرَي دجلة والفرات، التي تسعى إلى حلّها بالطرق الدبلوماسية مع الحكومة التركية كونها لا تعتبرها “أزمة”.
حتى أن وزير الموارد المائية السابق، حسن الجنابي، قال إن “الوزارة حريصة كل الحرص على العمل المشترَك مع الجميع، وأن العلاقة المائية مع الجوار في أفضل صورها مقارنة بالعقود الماضية، إلا أن المزيد من الحوار مع الأطراف لا يزال ضروريًّا”.
ويتمسّك العراق بحقّه في مياه دجلة والفرات، إذ أصبح النهران “دوليَّين” منذ انهيار الدولة العثمانية، وتوترت العلاقات العراقية التركية نتيجة سد إيليصو، قبل أن يعلن رئيس حكومة العراق الأسبق، حيدر العبادي، “تعهُّد تركيا تزويد العراق بحصته المائية كاملة سنويًّا”.
وتمَّ الاتفاق رسميًّا، آنذاك، بين البلدَين على تقنية (لم تطرَح على الإعلام) لملء خزان سد إيليصو (المخصص للطاقة الهيدروكهربائية)، حيث يحتاج إلى حجز كميات مياه أقل من خزّانات الري الزراعي، الأمر الذي يحسّن فرص الحفاظ على حصة العراق المائية.
تحذير دولي
وفيما انخفضت مستويات المياه التخزينية في سد الموصل من 8 إلى 3 مليارات متر مكعب، أكّد وزير الموارد المائية العراقي الحالي، عون ذياب، “أن سدود المياه بمأمن من تداعيات زلازل جنوب تركيا وشمال سوريا، وتتواصل الإجراءات للحدّ من شحّ المياه”.
ويحذّر خبراء في السياسات المائية من “نزاعات مرتقبة على المياه، نتيجة تأثير تغير المناخ، والنمو الاقتصادي السريع، والضغط الناجم عن زيادة عدد السكان عالميًّا على مصادر المياه، في ظل تلوث المياه، وندرة مياه الري، ودورهما في زيادة الهجرة من مناطق إلى أخرى”.
وبحسب البنك الدولي، “تؤثر ندرة المياه على أكثر من 40% من سكان العالم، وتمثل الكوارث المرتبطة بالمياه 70% من إجمالي وفيات الكوارث الطبيعية، ما يدعو إلى ضمان استدامة استخدام المياه، وبناء القدرة على الصمود إزاء تغيُّر المناخ وتعزيز الإدارة المتكاملة للموارد المائية”.
وفقًا للمصدر نفسه، “سيواجه العالم نقصًا بنسبة 40% بين الطلب المتوقع والإمدادات المتاحة من المياه بحلول عام 2030، وسيتطلب توفير الغذاء لـ 10 مليارات شخص عام 2050، بزيادة بنسبة 50% في الإنتاج الزراعي (يستهلَك 70% من الموارد حاليًّا).
بعد الكارثة
السدود من أقدم الوسائل التي استخدمها الإنسان لتنظيم وإدارة الموارد المائية المتاحة وتوفير احتياجاته من المياه وتجنُّب مخاطرها (كالفيضانات)، ويعدّ سد مأرب اليمني من أقدم السدود عالميًّا، بعدما بناه قوم سبأ في القرن الـ 8 قبل ميلاد السيد المسيح.
ومنذ نهاية القرن الـ 19 الميلادي، لم يعد الهدف من إقامتها يقتصر على تخزين المياه، بل تعددت أنشطتها (توليد الكهرباء، تحسين الملاحة النهرية، التنمية السياحية عبر استغلال شواطئ البحيرات الصناعية، فضلًا عن تنمية الثروة السمكية عبر الاستزراع السمكي).
غير أنه خلال تنفيذ مشاريع السدود التركية، خلال الـ 20 عامًا الماضية، لم يكن يتوقع أغلب المعنيين (بمن فيهم الرئيس التركي نفسه) سيل المعلومات المتناقضة -والمضللة أحيانًا- التي تتصدّر المشهد العام حاليًّا، لمحاولة الربط بين الزلازل ومشاريع الري التنموية.