جاءت زيارة رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، إلى طهران يوم الثلاثاء الماضي، لتسلّط الضوء على طبيعة التحول في السلوك الإيراني بالعراق، خصوصًا بعد الاتهامات التي وُجّهت إلى الكاظمي سابقًا بضلوعه في عملية تسريب معلومات خاصة بحادثة المطار، والتي تمَّ على إثرها اغتيال قائد قوة القدس السابق، قاسم سليماني، رفقة قائد قوات الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، في يناير/ كانون الثاني 2020، إذ مثّل ظهور الكاظمي إلى جانب وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بناءً على دعوة رسمية وُجّهت إليه لزيارة طهران، مدخلًا لعدة تساؤلات حول الموقف الإيراني الأخير.
ممّا لا شكّ فيه أن إيران تدرك أهمية الدور الذي لعبه الكاظمي خلال فترة توليه لرئاسة الحكومة العراقية، إذ نجح الكاظمي بإعادة إدماج إيران ضمن حوار إقليمي موسَّع مع الدول العربية في مؤتمر قمة بغداد للتعاون والشراكة في أغسطس/ آب 2021، إلى جانب دوره في انطلاق جولات الحوار السعودي الإيراني في بغداد.
هذا فضلًا عن الدور الذي لعبه في تخفيف التوترات الإيرانية الأمريكية في العراق، ومن هذا المنطلق وجدت إيران التي تعيش ظروفًا داخلية صعبة، ضرورة توسيع تحركاتها السياسية، في ظل تعثُّر حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في ترطيب الأجواء بينها وبين الدول العربية والولايات المتحدة.
عبد اللهيان جاء على ما يبدو لتقديم اشتراطات إيرانية للحكومة العراقية التي تعتزم الشروع بتفعيل أنبوب البصرة-العقبة
فالتحول الإيراني الأخير المتمثّل باستضافة الكاظمي في طهران، يشير إلى ما يمكن تسميته بسعي إيراني لتفعيل الدبلوماسية غير الرسمية، ويعدّ استثمارًا لشبكة العلاقات العامة التي نجح الكاظمي بنسجها مع الدول العربية والولايات المتحدة، والأهم من كل ذلك يشير هذا التحول إلى خيبة أمل تعيشها إيران من حلفائها في الإطار التنسيقي، الذين لم يتمكّنوا حتى الآن من كسر سياسة التجاهل الأمريكي لحكومة السوداني، أو حتى تقديم جديد على مستوى العلاقات الإيرانية العربية.
إيران تدرك جيدًا أن الكاظمي، ورغم خروجه من المعادلة السياسية العراقية، ما زال يحظى بدعم إقليمي وأمريكي واضح، فكما أن إيران وجدت حاجتها بالكاظمي، فإن الكاظمي هو الآخر بحاجة إلى فرصة لإعادة تسويقه في الداخل العراقي، خصوصًا عندما ترعى دولة مثل إيران هذا التسويق.
إذ يدرك الكاظمي أن إيران وحدها القادرة على ضبط سلوك قوى الإطار ضده، إذ إن العديد من قوى الإطار التنسيقي، وتحديدًا المسلحة، دخلت في إشكالات معقّدة مع حكومة الكاظمي كادت أن تصل إلى حد اغتياله، بسبب ما اعتبرته تماهيًا من قبل الكاظمي مع السياسات الأمريكية في العراق، سواء على مستوى حادثة المطار، أو موقفه من إعادة هيكلة الحشد الشعبي، أو موقفه من الوجود الأمريكي بالعراق.
زيارة عاجلة إلى بغداد
لم تمضِ سوى 24 ساعة على زيارة الكاظمي إلى طهران، حتى جاء وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى بغداد، ورغم أن الزيارة جاءت لتمثل استكمالًا للحوارات التي أجراها مع الكاظمي، إلا أنها مثلت أيضًا محاولة إيرانية للوقوف على طبيعة المحادثات التي أجراها الوفد العراقي في واشنطن الأسبوع الماضي، على خلفية الإجراءات التي اعتمدها البنك الفيدرالي الأمريكي ضد العراق.
وإلى جانب هذا، حظيت إيران بحيّز كبير من هذه المحادثات أيضًا، خصوصًا فيما يتعلق بوقوفها خلف عمليات تهريب الدولار من العراق إليها، إلى جانب التسهيلات التي ترفض الولايات المتحدة منحها للعراق فيما يتعلق بمستحقات الطاقة المستورَدة من طهران، إذ ما زالت الولايات المتحدة رافضة لمسألة منح العراق استثناءً جديدًا من الخزانة الأمريكية لإرسال الأموال إلى إيران.
كما أن عبد اللهيان جاء على ما يبدو لتقديم اشتراطات إيرانية للحكومة العراقية التي تعتزم الشروع بتفعيل أنبوب البصرة-العقبة، خصوصًا فيما يتعلق بطلب عبد اللهيان أن يكون هناك تفعيل موازٍ لمشروع الربط السككي بين العراق وإيران، إذ تطمح إيران إلى ربط ميناء الإمام الخميني في بندر عباس بميناء طرطوس على البحر الأبيض المتوسط.
ورغم أن هذا المشروع قد تمَّ طرحه منذ عام 2017، وقامت إيران بإكمال المشروع حتى منطقة الشلامجة على الحدود مع العراق، إلا أن الجانب العراقي لم يشرع في استكمال الخط السككي، بسبب ضغوط أمريكية مورست بهذا السياق.
فقد حاولت الإدارة الأمريكية خلال الفترة الماضية، وما زالت، تعطيل عمليات نقل الأسلحة والمقاتلين التي تقوم بها إيران عبر الممرات البرّية، سواء عبر استهدافها أو فرض تقييدات على عمليات النقل الجوي والبحري، ومن ثم ليس من المتوقع أن تتقبّل الولايات المتحدة عمليات النقل التي يمكن أن تقوم بها إيران عبر الربط السككي مع العراق إلى سوريا، خصوصًا أن إيران ستكون قادرة على نقل كل شيء دون رقابة أو حتى تفتيش.
تمتلك إيران قابلية التجدد في العراق، فهي تتعامل بواقعية كبيرة مع تطورات الساحة العراقية، كما أنها تمتلك مروحة واسعة من الخيارات السياسية، خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقة مع السعودية أو الولايات المتحدة.
إلى جانب ما تقدّم، اشترطت إيران إيجاد آلية جديدة مع الحكومة العراقية لتسوية المستحقات المالية الخاصة بتصدير الطاقة، فضلًا عن ضرورة بذل العراق المزيد من الجهود لاستكمال جولات الحوار السعودي الإيراني.
فرغم اللقاء الذي جمع وزير خارجية كل من إيران والسعودية في مؤتمر قمة بغداد 2 الذي عُقد في عمان مطلع الشهر الماضي، إلا أن حكومة السوداني لم تحقق الشيء الجديد بعد، ولعلّ هذا ما دفع إيران إلى المراهنة على الكاظمي من جديد، وتقديمه كعرّاب لصفقات إقليمية أوسع.
إذ تدرك إيران أنها لم تعد قادرة على فرض المزيد من الوصاية على الداخل العراقي، وحتى فيما يتعلق بحلفائها من قوى الإطار التنسيقي، فقد أدّى امتلاك العديد منهم لأدوات التمكين السياسي والاقتصادي إلى الحصول على هامش من الاستقلالية السياسية عن إيران، ما أثّر على طبيعة العلاقات التي تربطهم مع طهران، فقد أصبحت إيران اليوم بحاجة لهم أكثر من حاجتهم لها، بسبب ما تعيشه من أزمات اقتصادية صعبة جعلتها تمارس سياسة ترضية تبيح لها الحفاظ على نفوذها المتعثر بالعراق.
ورغم كل ذلك، تمتلك إيران قابلية التجدد في العراق، فهي تتعامل بواقعية كبيرة مع تطورات الساحة العراقية، كما أنها تمتلك مروحة واسعة من الخيارات السياسية، خصوصًا فيما يتعلق بالعلاقة مع السعودية أو الولايات المتحدة.
فقد أتاحت لها “دبلوماسية الكاتيوشا” تجاوز العديد من العقبات التي تقف في طريق الدبلوماسية الرسمية، إلا أنها لا ترغب بجعلها خيارًا يمكن التعويل عليه في أي وقت، خشية أن تتكرر ردة الفعل الأمريكية غير المتوقعة، والتي تمثّلت باغتيال سليماني، ما يجعلها تفكّر بعيدًا عن هذا الخيار في الوقت الحاضر.