مرَّ عام بالتمام والكمال على اشتعال الحرب في أوكرانيا، أي في مثل هذه اللحظة اعتقد بوتين، بينما هو يدق طبول الحرب، بأن جيشه ذاهب إلى معركة خاطفة، وستنتهي باستسلام أوكرانيا والتزامها الحياد وهي مرغمة، لكن الشتاء الثاني سينصرف خلال أسابيع دون أن يقف إلى جانب طرف في هذا الصراع.
فعليًّا، يمثل الشتاء مختبرًا للأطراف المتصارعة في أوكرانيا، ولقد انحاز تاريخيًّا إلى جانب الروس، حيث دأب ضبّاط نازيون على تسمية الشتاء الروسي بـ”الجنرال جليد”، وقبل ذلك حالف الشتاء الروس ضد المغول، ثم ضد السويديين، وضد نابليون بونابرت، لكنه لم يحالفهم هذه المرة ضد الأوكرانيين.
في خطوة قد تقلق الغرب، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطاب شديد اللهجة بمناسبة مرور نحو عام على الحرب، تعليق مشاركة بلاده في معاهدة “نيو ستارت” لنزع السلاح النووي، وهي المعاهدة التي تمَّ توقيعها عام 2010 بين الولايات المتحدة وروسيا، وانتهى العمل بها في في فبراير/ شباط عام 2021، قيل إنه تمَّ تمديدها لـ 5 سنوات.
تلويح روسيا باستخدام الأسلحة الفتاكة لم يعد يجدي نفعًا، حتى لو لم تهدد رسميًّا باستخدام السلاح النووي، لكنها أبدت استعدادًا لاستخدام جميع الوسائل المتاحة للانتصار في الحرب، وهو ما أثار مخاوف من اندلاع صراع نووي لأول مرة منذ عام 1945، وقد تفاعل الغرب مع هذه التهديدات من خلال إرسال المزيد من العتاد الحربي المتطور إلى أوكرانيا.
حنفية المساعدات ما زالت تتدفّق
مع قرب نهاية العام الأول من الحرب، بدأت كييف بالحصول على دعم نوعي من الغرب، انتقل من الأسلحة الدفاعية إلى الأسلحة الهجومية، بما في ذلك الدبابات الألمانية من طراز ليوبارد 2 وليوبارد 1، فضلًا عن دبابات تشالنجر 2 الأمريكية وإم 1 البريطانية، التي كانت بمثابة ترياق للجيش الأوكراني لمواجهة استراتيجية الاستنزاف التي تقوم بها روسيا حاليًّا، بعدما نجحت في استنزاف القوات الأوكرانية في وسط إقليم دونباس.
كما استجابت الولايات المتحدة ودول أوروبية إلى دعوة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، من أجل تزويد كييف بمزيد من الأسلحة الثقيلة، وتشمل حزمة أمريكية بقيمة 2.5 مليار دولار، تضمّ عربات مدرّعة وأنظمة دفاع جوي، وتعهّدت المملكة المتحدة بإرسال 600 صاروخ بريمستون، كما دعمتها الدنمارك بـ 19 مدفعًا ذاتي الدفع “سيزار” فرنسي الصنع.
هذا إلى جانب مدافع هاوتزر وذخيرة وعربات دعم وقاذفات قنابل مضادة للدبابات من إستونيا، فضلًا عن أنظمة دفاع جوي وطائرات مسيّرة ومدافع ومزيد من الذخيرة الثقيلة ترسلها التشيك وبولندا ولاتيفيا وليتوانيا.
بيد أن استمرار صمود الجيش الأوكراني يتوقف على حقيقة واحدة، وهي أن كييف غير قادرة على تسليح نفسها بنفسها، وهو ما يسائل دول الغرب إلى أي مدى هي قادرة على الاستمرار في تسليح كييف، علمًا أن المخزون الاحتياطي لحلف الناتو بدأ يواجه ضغطًا هائلًا.
رغم أن حنفية المساعدات العسكرية ما زالت تتدفّق، إلا أن قدرات الصناعات الدفاعية أصبحت متقطعة، وبدأت الدول في التدقيق في مقدار المعدّات التي يمكنها توفيرها مع الحفاظ على متطلبات الدفاع عن النفس، كما ستفرض ضرائب على الصناعات الدفاعية الأمريكية والأوروبية.
إذا طال أمد الحرب فإن الوقت لصالح موسكو، مع احتمالية أن الدعم الغربي سيتغيّر مستقبلًا، لأن تصاعد الصراع سيدعو المسؤولين الغربيين إلى التفكير بجدّية في تقليص حجم العتاد الحربي الذي تأمل كييف الحصول عليه باستمرار، حيث إن أوروبا تخشى على نفسها أيضًا من انتقال الحرب إلى المواجهة المباشرة مع روسيا.
حدوث مواجهة مباشرة أمر مستبعَد، لكن سلوك الدب الروسي لا يمكن التنبُّؤ به، ففي الأوساط الأوروبية، وقبل اندلاع الحرب، قيل باستمرار إن بوتين لن يهاجم وسيكتفي بإطلاق التهديدات، لكنه فعل؛ وقيل أيضًا إنه لن يطلق التعبئة العسكرية، لكنه فعل؛ وتمَّ استبعاد تكرار سيناريو شبه جزيرة القرم، لكن روسيا اقتطعت أجزاء كبيرة من أوكرانيا وضمتها إلى أراضيها.
عبور نهار الروبيكون
قبل عام، عبرَ بوتين نهر الروبيكون، ويعني عبور هذا النهر الإيطالي في الأمثال الروسية إتيان فعل حاسم وتجاوز نقطة العودة، وهو يشير إلى بداية الحرب الأهلية بين يوليوس قيصر وبومبيوس الكبير في روما، بعد أن عبر القيصر وجيشه النهر عام 49 قبل الميلاد.
في الوقع الحرب لم تنتهِ بعد، بل تتصاعد، وأصبح من غير المستبعد أن تطول المعركة عقدًا كاملًا، ولا يزال الجيش الأوكراني يدافع بعناد ضد استراتيجية الهجوم الروسية المحفوفة بالمخاطر، وهو ما يجعل موسكو بعيدة عن تحقيق نصر قريب.
التحدي الذي يواجه موسكو الآن هو تماسُك جيشها، لقد أثبتت التجارب السابقة أن الجنود الذين يقاتلون على الجبهة يتأثرون عكسيًّا بالأوضاع الداخلية في البلاد، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، ويعني ذلك أن وجود الطبقية واللاعدالة الاجتماعية من شأنه إضعاف أداء الجيش أو التعجيل بانهياره.
كما أن الضغط بسبب تكرار الخسائر في ساحة المعركة، قد يؤدي إلى تقويض عزيمة القوات الروسية وتآكُل تماسكها، خاصة إذا طفت على السطح صراعات وانقسامات داخل دوائر القرار العسكري.
القادة العسكريون الروس منهَكون من الحرب، وكذلك الأوكرانيون، لكن جلوسهم أمام طاولة المفاوضات رهين بعدة عوامل، يأتي في مقدمتها الدعم العسكري الغربي، فإذا تباطأت دول الناتو والولايات المتحدة، فسوف تذهب كييف بملل إلى المفاوضات مع موسكو.
لكن كييف ترفض، وموسكو تشترط على زيلينسكي الاستسلام، وبين هذا وذاك يتأجّل إحلال السلام، ما دام الغرب يخشى من أن يستغل سيد الكرملين مفاوضات وقف إطلاق النار، لإعادة رصّ صفوف جيشه قبل شنّ هجوم آخر، لا سيما أنه لم يُظهر أي مؤشرات على استعداده لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
الحرب باهظة الثمن، وتكلّف عشرات آلاف الأرواح وخسائر اقتصادية مهولة، ومن المحتمل أن تصبح بلا نهاية، ويمكن أن تتسبّب بدمار اقتصادي في ورسيا، كل هذا مع استمرار احتمال التصعيد النووي.