بات من الواضح أن حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة تتبنى خطابًا شعبويًا ذو سقف غير محدود، يستهدف مغازلة الداخل في المقام الأول ولو على حساب التهدئة الإقليمية والاستقرار الداخلي، فرغم الضغوط الدولية الممارسة لتجنيب توتير الأجواء وخفض مستوى التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين تُصر الحكومة اليمنية المتطرفة على أن تضرب بتلك الضغوط عرض الحائط.
ولم تكن حادثة نابلس شمالي الضفة الغربية التي وقعت بالأمس وأدت إلى ارتقاء 11 شهيدًا فلسطينيًا بينهم طفل و3 مسنين، وإصابة أكثر من 102 آخرين بجروح، بينهم 6 في حالة الخطر، بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، سوى ترجمة عملية لهذا الخطاب العنصري الذي يتبناه نتنياهو في ولايته الجديدة.
هذا الخطاب قوبل بتوعد من قبل المقاومة الفلسطينية بشتى انتماءاتها، فما وقع في نابلس كان صداه في غزة حيث استهداف المستوطنات برشقات صاروخية، أحدثت هلعًا ورعبًا في نفوس المستوطنين وإن لم تُحدث إصابات حتى كتابة تلك السطور، قابلتها قوات الاحتلال باستهداف مواقع تابعة لحركة المقاومة حماس في القطاع، وسط تصريحات متتالية بحق الشعب الفلسطيني في الرد والانتقام لأرواح شهداءه.
اللافت هنا في ردود فعل الشارع الإسرائيلي وإعلام دولة الاحتلال أن التخوف الأبرز الذي يخيم على الأجواء يأتي من العمليات الانتقامية الفردية التي يقوم بها فلسطينيون وليست التنظيمات والفصائل المسلحة كما كان في الماضي، في مؤشر محوري على النقلة النوعية التي شهدتها ساحة المواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال، وهو ما كشفته هيئة البث الإسرائيلية الرسمية حين أشارت إلى رفع الشرطة حالة التأهل إلى مستوى واحد دون المستوى الأعلى، لا سيما في القدس ومناطق التَّماس بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ذاكرة أن “الشاغل الرئيسي هو الهجمات الفردية التي ينفذها فلسطينيون”، لتؤكد على أن “المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تستعد للانتقام (المحتمل) من غزة أو الضفة الغربية أو القدس الشرقية في أعقاب العملية العسكرية في نابلس”.
المجازر الجماعية.. استراتيجية حكومة نتنياهو
لم تكن جريمة نابلس المرتكبة في وضح النهار بهذا الشكل الهمجي هي الأولى لقوات الاحتلال من هذا النوع، ففي الشهر الماضي قامت ذات القوات بعملية مشابهة في جنين، استشهد فيها 9 فلسطينين بينهم امرأة، وسط إصرار ممنهج على المضي قدمًا في هذا المسار من الجرائم النوعية التي تستهدف إبادة الفلسطينيين على مرأى ومسمع من الجميع وبرصاص الغدر نهارًا.
وتعد هاتان العمليتان استمرارًا للنهج الذي تبناه الاحتلال منذ العام الماضي، حيث تكثيف عمليات الاقتحام المباشر والمداهمات المسلحة لمنازل الفلسطينيين، وإسقاط العشرات منهم دون أي اعتبارات أخرى، وتشير الإحصائيات إلى أن العمليات التي قامت بها القوات الإسرائيلية من هذا النوع خلال العام 2022 خلفت 230 شهيدا، منهم 171 في الضفة و53 في غزة و6 من فلسطيني 48، بجانب 9335 مصابًا وأكثر من 7000 معتقل (منهم 4700 لا يزالون في سجون الاحتلال).
وبالتوازي مع عمليات الاقتحام والانتهاكات الفجًة تنتهج حكومة الاحتلال سياسة توسيع الاستيطان بشكل غير مسبوق، ليصل عدد المستوطنات 176 مستوطنة و186 بؤرة تستوعب 730 ألف مستوطن، فيما تم الاستيلاء على 223 من الممتلكات الفلسطينية، وصدور قرارات بالاستيلاء على 26424 دونما، في مخطط تهجير عنصري بامتياز.
وفي هذا السياق تشير الباحثة مارجوري كون، الأستاذ الفخري بكلية توماس جيفرسون للقانون، إلى أن التطور الواضح في الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة يتماشى مع مخطط الاستيلاء على كافة الأراضي الفلسطينية تباعًا، لافتة أنه ومع الذكرى الـ 75 للنكبة استولت دولة الاحتلال على 75% من فلسطين في حين طرد نحو 700 ألف فلسطيني من منازلهم.
العمليات الفردية شهدت هي الأخرى نقلات نوعية عدة، سواء في الاستراتيجيات أو الأسلحة المستخدمة، بداية من السكاكين والأسلحة البيضاء وصولا إلى الأسلحة الرشاشة
وكشفت جيفرسون في مقالها المنشور على موقع ” truthout” وترجمه “نون بوست” أن حكومة نتنياهو الجديدة والتي وصفتها بـ “الأكثر عدائية تجاه الفلسطينيين في تاريخ إسرائيل” تهدف إلى ضم جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، ناقلة عن الكاتب والناشر الفلسطيني الأمريكي مايكل موشابيك قوله: “يرغب العديد من الناس في الحكومة الجديدة بحل خارج الدولة، حيث يُنقل الفلسطينيون قسرًا إلى الدول العربية القريبة، وتجريدهم من أراضيهم”.
الباحثة استندت في رؤيتها إلى بعض المواقف والتصريحات الصادرة عن وزراء داخل حكومة نتنياهو تفضح هذا المخطط الإبادي، منها ما قاله رئيس الحزب الصهيوني الديني ووزير المالية الجديد، بتسئليل سموتريتش، لأعضاء الكنيست الإسرائيلي من العرب؛ إنهم هنا بالخطأ لأن بن غوريون لم ينه مهمته ويطردهم جميعًا عام 1948، ويتناغم هذا التصريح العنصري مع ما أعلنه التحالف الصهيوني الديني لرئيس الحكومة المتطرفة في بيانه أن لليهود حقًا حصريًا وغير قابل للمصادرة في جميع أنحاء أرض “إسرائيل”.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف (إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم) شنً الاحتلال انتهاكات وهجمات على الأراضي الفلسطينية، حاول من خلالها تغيير المظلة القانونية والتشريعية لتسريع عملية التطهير العرقي للشعب الفلسطيني، وقد أسفرت عمليات الهدم والقتل التي نفذتها قوات المحتل منذ بداية العام الجاري عن استشهاد 43 فلسطينيًا من بينهم 19 مدنيًا (7 منهم أطفال) بحسب توثيق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
يبدو أن استراتيجية الهجمات التقليدية التي كان يشنها الاحتلال ضد القطاع ما عادت تجني ثمارها، خاصة وأن لها ارتدادات عكسية قد تطيح برئيس الحكومة من منصبه إذا ماوجد نفسه مضطرًا للتورط في مستنقع المواجهات المباشرة مع فصائل المقاومة والتي في الغالب تحسم للجانب الفلسطيني مهما كانت الخسائر في صفوفه، هذا بخلاف تباين وجهات النظر إزاء تلك العمليات والانقسام بشأنها لما تتكبده إسرائيل من اعباء بشرية ومادية بسببها.
وعليه كان التحول نحو الاقتحامات والإبادات الجماعية عبر العمليات النوعية بين الحين والأخر هو الخيار الأفضل بالنسبة لنتنياهو وحكومته الباحثين عن انتصارات سريعة وغير مكلفة لتعويض الخسائر التي يتكبدونها بين الحين والأخرعلى أيدي الفلسطينيين من جانب، ولمغازلة الداخل في ظل تصاعد الاحتقان الشعبي ضده من جانب أخر.
المقاومة الفردية.. خيارات الرد مفتوحة
وأمام هذا المخطط الإبادي لشعب بأكمله لم يعد مكان للصمت والرضوخ، كذلك ليس هناك وقت للتقوقع داخل الأطر التنظيمية لكيانات المقاومة والانصياع لضوابط واستراتيجيات ربما لم تروق للكثير من أبناء الشعب الفلسطيني، وعليه كان التحرك بشكل فردي، وهو التحرك الذي تصاعد في الفترة الأخيرة فأحدث الفارق وقلب الطاولة رأسًا على عقب.
ولم تكن عملية مستوطنة “النبي يعقوب” في القدس والتي نفذها الشاب الفلسطيني خيري علقم مساء 27 يناير/كانون الثاني 2023 وأسفرت عن مقتل 7 مستوطنيين هي الأولى في معارك المقاومة الفردية، لكنها ربما تكون الأكثر تأثيرًا نظرًا لعنصر المفاجأة والصدمة التي أحدثتها للشارع الإسرائيلي.
ويعد العام 2014 نقطة تحول كبيرة في مسار المقاومة الفردية التي بدأت في التغريد خارج سرب الفصائل المعروفة التي عانت كثيرًا من الانقسامات الداخلية والبينية من جانب وتشديد القمع وتضييق الخناق عليها من جانب أخر، ولعل “هبًة القدس” أو ما عرفت باسم “هبًة السكاكين” عام 2015 هي بؤرة هذا التحول، تلك الهبًة التي أسقطت أكثر من 35 قتيلًا من الإسرائيليين.
وخلال تلك السنوات كان للعمليات الفردية حضورها وإن كان بمنسوب أقل نسبيًا مما كانت عليه قبل 7 سنوات، لتعود للأضواء بزخم أكبر مجددًا خلال عام 2022، فبحسب بيانات جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) فقد شهد العام الماضي وحده 1933 عملية مقاومة فردية أدت إلى مقتل 29 جنديا ومستوطنا إسرائيليا وجرح نحو 128 آخرين، بزيادة واضحة عن العام السابق 2021 الذي شهد 1570 عملية قتل فيها 18 مستوطنا إسرائيليا وأصيب 196 آخرون، وسط ترجيح بزيادة تلك المعدلات خلال الفترة القادمة في ظل جرائم الإبادة التي تمارسها قوات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني بين الحين والأخر.
وأمام حكومة متطرفة، لم يعد أمام الشعب الفلسطيني سوى الصمود والمواجهة عبر المقاومة الفردية التي تعفي الفصائل حرج المواءمات السياسية
اللافت هنا أن تلك العمليات الفردية شهدت هي الأخرى نقلات نوعية عدة، سواء في الاستراتيجيات أو الأسلحة المستخدمة، بداية من السكاكين والأسلحة البيضاء وصولا إلى الأسلحة الرشاشة، وهو ما يعكس مدى الوعي الشعبي لدى المواطن الفلسطيني العادي وقدرته على التكيف مع الوضع والتعاطي معه بما يخدم قضيته في شتى مواقع العمل، فليس شرطًا أن تكون عضوًا تنظيميًا داخل كيان مقاوم للقيام بهذا الدور الوطني.
وعلى عكس النجاح النسبي في استهداف منابع المقاومة المنظمة وتدمير مخازنها التسليحية وتضييق الخناق عليها وقادتها، فشلت الألة الإسرائيلية في مواجهة المقاومة الفردية بشتى السبل، إذ أن من يقومون بتلك العمليات خارج دائرة الشك والترقب، هذا بجانب أن بعضهم يحيا وسط المستوطنين مما يصعب كشفه، وهو ما أحدث حالة من الهلع والرعب في قلوب الإسرائيليين، الأمر الذي صعًب من مهمة الحكومة التي كثفت من جهودها لفرض الأمن والسيطرة على المشهد.
وفي حال قدرة الاحتلال على الكشف عن هوية المنفذ فإن العقوبات المفروضة لايمكنها تجاوز اعتقال الأهل والتنكيل بهم وتهجيرهم وهدم منازلهم، وهي العقوبات التي لا تتناسب والخسائر الناجمة عن تلك العمليات، ما يضع النظام الإسرائيلي في مأزق حقيقي أمام المواطن الإسرائيلي الواقع الأن بين مطرقة هجمات المقاومة من خارج المستوطنات والعمليات الفردية من الداخل.
ويرى الكاتب الفلسطيني عدنان أبو ناصر، رئيس الملتقى العربي النمساوي، أن هناك أسباب عدة وراء زيادة عمليات المقاومة الفردية خلال السنوات الماضية، وهي الأسباب ذاتها المرشح أن تقودها إلى الاستمرارية والزيادة خلال المرحلة المقبلة، على رأسها حالة القمع الشديد والحصار الخانق الذي ترزخ تحته المقاومة الفلسطينية التنظيمية بسبب الحسابات والمؤامات الخاصة استجابة للاتفاقيات والمؤتمرات الدولية التي تسعى لإجهاضها على حد قوله، وهو ما يكبل يدها عن الرد أحيانًا.
هذا بجانب حملة تهويد القدس التي تسير بشكل مكثف عامًا تلو الأخر وتعرض المدينة المقدسة والمسجد الأقصى لمخطط تغير البعدين المكاني والزماني بما يخدم أجندة التهويد، كذلك معاناة قطاع غزة والحصار المفروض عليه وتحمله في المقام الأول مغبة المقاومة والتصدي لعربدة الاحتلال، الأمر ذاته في الضفة الغربية والقدس حين الحصار ومصادرة الأراضي والتوسع في الاستيطان، بالإضافة إلى التوجهات المتطرفة التي تهيمن على الحكومات الإسرائيلية والتي تسد الأفق تمامًا امام أي حلول سياسية ما يدفع المواطن الفلسطيني إلى الرد بشكل فردي، مع الوضع في الاعتبار حالة الخذلان الإقليمي والدولي والتي تؤجج مشاعر الفلسطينيين وتزج بهم في معارك شرسة بمفردهم.
بن غفير يتعرّض لتوبيخ من إسرائيليين في موقع عملية “النبي يعقوب” بالقدس ، وشتموه pic.twitter.com/gs0lHKFJc6
— حامد العلي (@Hamed_Alali) January 27, 2023
تغير استراتيجيات المواجهة
ثمة مؤشرات تبرهن على فشل عمليات الهندسة الاجتماعية التي قامت بها دولة الاحتلال على مدار سنوات عدة لتحييد الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس بعيدًا عن معارك المواجهة مع فصائل المقاومة والتي كانت تحملها سلطات الاحتلال مسئولية تفاقم الوضع وتداعياته على الشعب الفلسطيني في محاولة لشيطنتها وتوسيع الهوة بينها وبين الشارع، لعل من أبرزها تناغم المزاج العام الفلسطيني بشتى انتماءاته السياسية في مواجهة جرائم المحتل.
فالمجزرة التي تعرضت لها جنين قبل شهر وصل صداها إلى القدس والضفة والقطاع، تعهد شعبي بالرد وإصرار على الانتقام، والعملية التي قام بها علقم في القدس قوبلت باحتفالات عارمة في شتى بقاع الدولة الفلسطينية، حتى عملية الأمس في نابلس، كان الرد عليها رشقات صاروخية من القطاع باتجاه المستوطنات بجانب إعلان العصيان المدني تنديدًا للمجزرة، هذا المشهد لم يعتاده الشارع الفلسطيني إلا وقت الانتفاضات وفقط، وهو ما يؤكد فشل استراتيجة “فرق تسد” التي اتبعتها السلطات الإسرائيلية مع الفلسطينيين وحققت نجاحات كبيرة خلال العقود الماضية.
التحول النوعي في استراتيجيات المقاومة الفردية نجح في تغيير قواعد اللعبة بشكل كبير، فبجانب حالة الرعب التي بثتها تلك العمليات في نفوس المستوطنيين، والانتصارات الرمزية التي تحققت على المحتل، كان لها حضورها القوي في إحداث التوازن في ميزان الخسائر البشرية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الميزان الذي كان يميل بشكل مبالغ فيه لصالح الاحتلال، إسرائيلي مقابل عشرين فلسطينيًا، لكنه العام الماضي وصل إلى إسرائيلي مقابل سبعة فلسطينيين.
وأمام حكومة متطرفة لا تنظر إلا صوب مغازلة الداخل، ضاربة بكل المناشدات والضغوط والاعتبارات عرض الحائط، متبنية استراتيجيات جديدة لتنفيذ مخطط الإبادة الجماعية لأصحاب الأرض، لم يعد أمام الشعب الفلسطيني سوى الصمود والمواجهة عبر المقاومة الفردية التي تعفي الفصائل حرج المواءمات السياسية، لتدشن مرحلة جديدة من الصمود لها أبجدياتها واستراتيجاتها التي لو استمرت على هذا المنوال – مع قليل من التطوير والتنظيم والتنوع- ستحدث ارتباكا كبيرًا في قواعد اللعبة وتغير موازين القوى في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.