لم يكن موقف السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس والقيادة المتنفّذة مستبعدًا بالقبول بتفاهمات لا تلبّي طموحات الشعب الفلسطيني، في ظل تصاعد حالة المقاومة في الضفة الغربية والقدس المحتلة خلال العام الأخير.
قبول السلطة بالتفاهمات التي أشرفت عليها الإدارة الأمريكية، جاء بعد نحو شهر فقط من زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة لتهدئة الأوضاع، بناءً على طلب إسرائيلي أعقب سلسلة من العمليات الفلسطينية الفردية التي جاءت ردًّا على الانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة في جنين والقدس المحتلة.
الغريب أن التفاهمات التي قادها الجنرال الأمريكي مايك فنزل، منسّق الشؤون الأمنية في السفارة الأمريكية في تل أبيب، حظيت بموافقة سريعة من السلطة التي كانت تهمّ لتقديم مشروع في مجلس الأمن عبر الإمارات لإدانة السلوك الإسرائيلي.
ووفقًا لتسريبات إسرائيلية، فإن الخطة تنصّ على مشاركة أمريكية في التنسيق الأمني، من خلال ممثلين كبار سيحضرون اجتماعات المستويات العليا بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين لعدة شهور، على أن يرسل الطرفان تقارير منتظمة للأمريكيين حول التقدُّم في القضايا الأمنية العالقة بين الطرفَين.
وبمحاذاة ذلك سيتمّ العمل على تدريب قوات خاصة فلسطينية مكوّنة من 5 آلاف عنصر أمني، وهم يعملون حاليًّا في جهاز الأمن الوطني، وسيكون تدريبهم في قواعد تدريبية على الأراضي الأردنية، حيث سيخضعون لبرنامج تدريبي خاصّ بإشراف أمريكي.
رفعت مجزرة نابلس الأخيرة من حدة الغضب ضد السلطة الفلسطينية، في أعقاب موقفها بسحب التصويت على مشروع القرار في مجلس الأمن، إذ لم يمضِ على هذه الخطوة 16 ساعة لتقوم “إسرائيل” بارتكاب هذه المجزرة
وإلى جانب ذلك، سيجري دخول القوات الفلسطينية إلى المقرات الجديدة في جنين ونابلس بالتزامن مع تقليص كبير لنشاط الجيش الإسرائيلي، في إطار التنسيق الأمني تحت إشراف أمريكي، وهذا البند في الخطة الأمريكية هو أحد الشروط الفلسطينية لقبولها بكاملها، إلى جانب إشراف أمريكي على نقاط الاحتكاك، خاصة في شمال الضفة الغربية وربما جنوب الخليل، إضافة إلى مشاركة فرق غربية في عمليات المراقبة.
وستُظهر هذه الفرق حضورًا كبيرًا في مناطق الاحتكاك، بالإضافة إلى تغيُّر توجهات السلطة الفلسطينية في التعاطي مع المقاتلين الفلسطينيين، وتغيير النهج الذي تعاملت به السلطة الفلسطينية في المرحلة الماضية معهم، حيث حاولت فتح قنوات اتصال وإقناعهم بالتخلي عن المقاومة والانضمام إلى الأمن مقابل حوافز مالية، وهو ما يتوجب وقفه في المرحلة الجديدة.
ولم يتم نفي هذه الخطة بالمطلق من قبل مسؤولي السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تفيد فيه بعض المعلومات أنها كانت تهمّ لتوقيع اتفاق جديد برعاية أمريكية في 26 فبراير/ شباط الجاري مع الاحتلال الإسرائيلي.
ويعتبَر حسين الشيخ، وزير الشؤون المدنية، إحدى أبرز الشخصيات الفلسطينية التي كانت بمثابة قناة اتصال لهذه الخطة مع مكتب رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، إلا أن السلوك الإسرائيلي شكّل صدمة للسلطة التي اعتادت على مدار 30 عامًا التعويل على الموقف الإسرائيلي ونسيت الموقف الشعبي الفلسطيني المتقدّم عليها.
ورفعت مجزرة نابلس الأخيرة من حدة الغضب والحنق ضد السلطة الفلسطينية، في أعقاب موقفها بسحب التصويت على مشروع القرار في مجلس الأمن، إذ لم يمضِ على هذه الخطوة 16 ساعة لتقوم “إسرائيل” بارتكاب هذه المجزرة، ما وضع السلطة في موقف حرج شعبيًّا.
سلوك متكرر.. السلطة تخسر المعارك الدبلوماسية
منذ سنوات خسرت السلطة الفلسطينية المعارك الدبلوماسية، وتحديدًا خلال عهد رئيس السلطة عباس، إما استجابة لضغوط أمريكية وإما بسبب تسهيلات اقتصادية كانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تقدمها باستمرار للسلطة.
وجاء سحب مشروع قرار من مجلس الأمن بشأن الاستيطان غير الشرعي في الأرض الفلسطينية المحتلة، لينطوي على مشاركة فعلية من السلطة في التستُّر على جريمة الاستيطان كجريمة حرب باعتبارها منطوية على قرار دولي.
هذا التوجه ليس جديدًا على أداء السلطة الفلسطينية ودبلوماسيتها الفاسدة، وينبغي قراءته في ضوء أداء السلطة في فتوى الجدار عام 2004 (الكنز المهمل)، وتقرير غولدستون عام 2009 (575 صفحة)، وطلب السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت سحب التقرير من المناقشة في مجلس حقوق الإنسان وتأجيله إلى جلسة مارس/ آذار 2010، بل تجاهل الدبلوماسية الفلسطينية “حصار غزة” المخالف للقانون الدولي في مشاريع القرارات في نيويورك وجنيف.
وإلى جانب ذلك، لا توجد خطة فلسطينية لترجمة قرار مجلس الأمن 2334 (عام 2016) إلى واقع عملي ملموس على الأرض، لغياب الإرادة السياسية والاكتفاء بالاستعراض الإعلامي والبقاء في الحُكم، حيث نصَّ القرار على إدانة الاستيطان في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وامتنعت في حينه الولايات المتحدة في عهد أوباما عن استخدام حق النقض “الفيتو”.
وجاء سلوك السلطة الأخيرة استجابة لتحركات بلينكن الذي تحدث عن “خفض التوتر” بشكل تضليلي، لأن ما يجري هو جرائم ممنهَجة تُرتكَب من سلطة احتلال استيطاني استعماري (أداته نظام الأبارتهايد) وميليشيات مستوطنين مسلَّحة.
بين التصعيد والهدوء.. موقف فلسطيني متقدم
منذ بداية عام 2023، سجّلت الضفة والقدس المحتلتان 63 شهيدًا فلسطينيًّا، وهو رقم لم يحصل خلال الهبّات الفلسطينية سواء عام 2017 أو عام 2015 خلال هبّة القدس أو “هبّة السكاكين” وعمليات الدهس التي جرت.
ووفقًا لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية، فإن بداية هذا العام هي الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ عام 2000 على الأقل، حيث لم يتم تسجيل هذا العدد من الشهداء (63 شهيدًا) خلال الشهرَين الأولَين في الأعوام الـ 22 الماضية.
وتعكس هذه الإحصائية حجم التصعيد غير المسبوق الذي تشهده الضفة الغربية حاليًّا، والذي يتفوق على ما جرى خلال انتفاضة الأقصى حتى، في الوقت الذي تفشل فيه كل الخطط الأمنية والعسكرية في احتواء ما يجري.
تعكس القوة العسكرية الإسرائيلية المفرطة حالة الفشل لدى المنظومة الأمنية والعسكرية في التعامل مع المقاومة
ويبدو الموقف الشعبي الفلسطيني متقدمًا كثيرًا على موقف السلطة الفلسطينية، من خلال الاستجابة السريعة والفورية لنداءات المجموعة المقاومة دائمًا، إلى جانب النزول للشوارع وإغلاق المحال التجارية وتطبيق العصيان.
ومع استمرار السلوك الإسرائيلي الحالي، فمن غير المرجّح أن تشهد الضفة الغربية أي نوع من أنواع الهدوء، مع اتساع ظاهرة المجموعات والخلايا العسكرية المقاومة التي باتت تمتدّ بين الشمال والجنوب في الضفة، فضلًا عن العمليات الفردية النوعية.
في المقابل، تعكس القوة العسكرية الإسرائيلية المفرطة حالة الفشل لدى المنظومة الأمنية والعسكرية في التعامل مع المقاومة، وفشل محاولات استقطاب المقاومين الشبان وإغرائهم من قبل السلطة بتسليم أسلحتهم، مقابل الحماية وتوفير رواتب عالية وبيوت وسيارات فارهة.
“سيف القدس 2” على الأبواب.. أم جولات محدودة من التصعيد؟
عكست تغريدة أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام -الذراع العسكرية لحركة حماس-، التي أعقبت مجزرة نابلس، والتي قال فيها: “المقاومة في غزة تراقب جرائم العدو المتصاعدة تجاه أهلنا في الضفة المحتلة وصبرها آخذ بالنفاد”؛ أن المشهد مشابه لتلك الحالة التي كانت قائمة قبل سيف القدس في مايو/ أيار 2021.
وقبل مواجهة سيف القدس عام 2021، تدخّلت المقاومة خلال التصعيد وهبّة باب العمود التي كانت قبل شهر فقط من المعركة، قبل أن يعود الهدوء إلى الساحة من جديد، إلا أن المشهد اليوم يبدو أكثر تفجُّرًا ودموية ممّا كان سائدًا خلال تلك الحقبة.
ومن الملفات التي تعزز صواعق التفجير حاليًّا ملف الأسرى وإضرابهم المتوقع خلال شهر رمضان المبارك، والذي بدأ بخطوات عصيان حاليًّا، إلى جانب الامتداد الاستيطاني المتواصل، فضلًا عن التشريعات المتعلقة بالأسرى الفلسطينيين، إلى جانب الاقتحامات المزمعة للأقصى، والتي تتوافق بين شهر رمضان والأعياد اليهودية المزعومة.
في المحصلة، رفعت الفصائل الفلسطينية في غزة من جهوزيتها وأتمّت من استعدادها بشكل تدريجي خلال الشهور الأخيرة، استعدادًا لمواجهة قد تكون أكثر عنفًا من سيف القدس خلال شهر رمضان أو حتى بعده بأسابيع بسيطة.