بعدما ارتبطت الخيمة بالمعاناة والمآسي لدى النازحين والمهجّرين في الشمال السوري خلال العقد الماضي، لم يدرِ السوريون أن تكون الخيمة ذاتها في يوم من الأيام حلمًا يصعب الحصول عليه، مع تكرار كارثة الزلزال واستمرار الهزات الارتدادية التي لا تتوقف حتى لحظة إعداد التقرير.
وارتبطت الحاجة إلى الخيام بالمناطق التي كانت أكثر تضررًا من زلزال 6 فبراير/ شباط في شمال غرب سوريا، حيث فقدت مئات العائلات الناجية منازلها في جنديرس وعفرين وأعزاز وصوران بريف حلب، وحارم وسلقين وبسينة بريف إدلب، وباتت في الأراضي الزراعية دون مأوى تفترش الأرض وتلتحف السماء.
وبينما كانت فرق الإنقاذ والدفاع المدني السوري يعملان على انتشال الضحايا، نشطت العديد من المنظمات والفرق التطوعية في الاستجابة لمتضرري الزلزال بإمكانات محدودة، لا سيما هؤلاء الذين فقدوا منازلهم وسط تغاضٍ دولي عن حجم الكارثة، وضعف الاستجابة في إيصال المساعدات الإنسانية.
عائلات في العراء
مضت الأيام الأولى من الزلزال المدمّر ثقيلة على الأهالي في شمالي غربي سوريا، بعدما باتوا أيامًا في الشوارع والأراضي الزراعية، تاركين خلفهم منازلهم المتصدّعة خشية تكرار الكارثة في ظل استمرار الهزات الارتدادية، لكن برودة الطقس وغياب المأوى أجبراهما على العودة إلى منازلهم بشكل تدريجي، وبدأوا يستعيدون حياتهم الطبيعية.
إلا أنهم فوجئوا بوقوع زلزال على مقربة من أنطاكيا قرب الحدود السورية التركية، في مساء 20 فبراير/ شباط، وصلت قوته إلى 6.4 درجات على مقياس ريختر، وبعمق يصل إلى 10 كيلومترات، وتبعته هزة ارتدادية بعد دقائق بلغت شدتها 5.8 درجات على مقياس ريختر، و31 هزة ارتدادية لم تكن شديدة، بحسب إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد”.
ودفع الزلزال الأهالي في شمال غربي سوريا إلى الخروج من المنازل والأبنية السكنية الطابقية نحو الشوارع والمساحات الفارغة من الأبنية، ما تسبّب في وقوع أكثر من 190 بينها حالات كسور ورضوض وإغماء واختناق، بسبب القفز من الأبنية المرتفعة والتدافع وحوادث مرورية نتيجة الازدحام.
ومن بين هؤلاء الناس الذين فرّوا من منازلهم، عبد الله الإبراهيم الذي يقيم في مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، اضطر البقاء ليلتَين أمام منزله خشية تكرار حادثة الزلزال، لا سيما مع الإشاعات التي تمَّ تداولها بوقوع زلازل ضمن الفترة الممتدة بين 20 و22 فبراير/ شباط.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “أخذت احتياطاتي من خلال وضع احتياجات أسرتي من اللباس الصوفي السميك والأطعمة في مدخل منزلي، بغية إخراجها معي في حال اضطررت الخروج بسرعة من المنزل مثلما حصل معي خلال الزلزال الماضي”.
وأضاف أنه لا يملك خيمة، والخيام نادرة في المنطقة، وفي حال توفرت فإن أسعارها مرتفعة للغاية، ومن يملك خيمة فكأنما حيزت له الدنيا بعدما استطاع تأمين أفراد أسرته فيها.
حال الإبراهيم لا يختلف عن حال العائلات في إدلب وسرمدا وسلقين وجنديرس وعفرين وأعزاز ومارع وصوران والباب في شمالي غربي سوريا، التي تنام في العراء، منها من حالفه الحظ في تأمين أو شراء خيمة، ومنها من يفترش الأرض، بينما يقضي بعضها الليل في السيارات مع غياب الاستقرار الحقيقي، بحسب ما أوضح عمر نزهت المقيم في إدلب.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يخشى السوريون في الشمال وقوع زلزال بعدما شاهدوا الأهوال التي خلّفها الزلزال الأول وكانوا نائمين، ما جعلهم أمام حالة خوف وهلع شديدَين لحظة وقوع الزلزال الأخير، لذلك معظم العائلات غير قادرة على النوم في منزلها، ومن يسكن منزله يبقى خائفًا طوال الليل”.
الخيمة.. حاجة ملحّة
بات الحصول على خيمة في شمال غربي سوريا يؤرق الأهالي في ظل الاستجابة لتقديم المساعدات لمراكز الإيواء -عبارة عن مخيمات تمَّ إنشاؤها مؤخرًا-، حيث رفضت معظم العائلات الإقامة بها، لرغبتها في السكن بأماكن متطرفة حول المدن خشية فقدان منازلها.
محمود الجيسي لم يعد منزله الكائن في السكن الشبابي -مجمع سكني حكومي يقع قرب مدينة الباب بريف حلب الشرقي- آمنًا للعيش فيه، بعدما تصدّعت الجدران بشكل كبير جرّاء الزلزال المدمّر، حيث ناشد الرجل المنظمات والمؤسسات الرسمية في مدينة الباب بغية تأمين مسكن آمن لأسرته لكن لم يستجب أحد لمناشداته، ما دفعه إلى بيع خزّان كان يستخدمه لمياه الشرب كي يشتري خيمة.
ويسكن الرجل، المهجَّر من مدينة تدمر في ريف حمص الشرقي إلى الشمال السوري، في خيمة مع أسرته المكوّنة من 5 أطفال وزوجته، وعائلة والده كونه المسؤول عنها، وعدد من جيرانه، أمام منزله المتصدع بعدما تكررت حادثة الزلزال.
قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن ثمن الخيمة المستعملة قبل يومَين من الزلزال الذي وقع في 20 فبراير/ شباط كان يبلغ 120 دولارًا أمريكيًّا، لكن بعد ذلك بحثتُ كثيرًا حتى وجدت خيمة مستعملة واشتريتها بـ 150 دولارًا”، إذ يسكن في الخيمة التي تبلغ مساحتها 12 مترًا 5 عائلات مكوّنة من 24 شخصًا بينهم أطفال ونساء، من جيرانه وأقاربه الذين يقيمون في السكن ذاته.
وأضاف أنه يعمل عتّالًا في سوق مدينة الباب، وفي أحسن أيام العمل يستطيع جني 100 ليرة تركية، ما يعادل 5.5 دولارات أمريكية، لكن في الوقت الحالي توقف العمل، ولولا بيعه لخزّان المياه لما استطاع توفير مأوى لعائلته في ظل الظروف الجوية الراهنة.
ويعتقد من يحصل على خيمة في ظل الظروف الراهنة من خلال شرائها، كأنما حيزت له الدنيا بعدما أصبح المنزل كابوسًا حقيقيًّا مع المشاهدات التي شاهدها السوريون للأبنية التي دمّرها الزلزال فوق ساكنيها في الشمال السوري والجنوب التركي.
أسعار خيالية.. وتفصيل محلي
كان يبلغ سعر الخيمة الجديدة قبل كارثة الزلزال نحو 60 دولارًا، بعدما راحت معظم المنظمات إلى تأمين مساكن صغيرة من الطوب بسبب تكرار مأساة الخيام كل شتاء، ولجوء بعض قاطني الخيام إلى بناء غرف من الطوب، لكن اليوم أصبح سعرها مضاعفًا، في ظل ظروف اقتصادية سيّئة يعاني منها جُلّ سكان الشمال السوري.
بينما يرى عبد الغني العريان، صحفي استقصائي من مدينة سلقين بريف إدلب، بحسب مشاهداته أن الاستجابة تكاد تكون معدومة للعائلات التي تركت منازلها المتضررة جرّاء الزلزال أو خشية وقوع زلزال آخر مجددًا، حيث مئات العائلات تقضي الليل في مركباتها والأراضي الزراعية بالقرب من الطرقات والمساحات الفارغة من الأبنية، ومعظمهم لا يملكون خيمة.
وقال لـ”نون بوست”: “إن تجارة الخيم رائجة في مناطق شمال غربي سوريا، وتعرَض للبيع في أسواق إدلب، وفي حال توفرها فإن سعرها يتراوح بين 150 و250 دولارًا أمريكيًّا، ومن يستلمها من المنظمات إما أنه يمتلك غيرها وإما أنه ليس بحاجة إليها”.
وأضاف: “مئات الأسر تبقى في العراء دون مأوى، رغم وصول كميات جيدة من الخيام التي تقدمها المنظمات للنازحين المتضررين في المخيمات التي تركّز عليها الاستجابة، في وقت ترفض بعض العائلات الإقامة فيها، وإصرار المنظمات على تسليمها للقاطنين في المخيم”.
ومع كثرة الطلب على الخيام من قبل الأهالي المتضررين والنازحين من بيوتهم، فُقدت الخيام من الأسواق، ويتراوح سعرها في حال توفرها، كالخيمة “السفينة” أو “القوس” التي تقدّمها المنظمات وتحتوي على عوازل مطرية، بين 175 و250 دولارًا أمريكيًّا، بعدما كانت بـ 60 دولارًا.
وقال عبد القادر ناصر، متطوع في فريق “يد الخير” التطوعي العامل في ريف حلب، لـ”نون بوست”: “إن فقدان الخيام في ظل دخول كميات محدودة من المساعدات، دفع العاملين في ورشات الحدادة والخياطة إلى تفصيل خيام شبيهة لكنها لا تحتوي على عوازل مطرية، حيث تكلف صناعة الخيمة التي تبلغ مساحتها 12 مترًا 150 دولارًا، تقسم إلى 75 دولارًا ثمن الهيكل الحديدي و75 دولارًا ثمن الشادر”.
وأضاف: “لا تصلح الخيام للاستخدام، كما أنها معدّة للتخييم بغرض التنزه، ولا تعطي خصوصية لشخص سيعيش فيها لبعض الوقت في ظل الظروف الجوية في الشمال السوري، ما سيؤدي إلى غرق الخيمة مع أول هطول للأمطار”.
ورغم ذلك يبقى الاحتياج الأساسي في مناطق شمال غربي سوريا إلى المأوى بالدرجة الأولى، بعدما تضاعف أعداد النازحين في ظل استمرار الهزات الارتدادية التي تضرب المنطقة، لا سيما أن النزوح لا يقتصر على من تضرر بيته، وتليه الاحتياجات الأخرى كالخدمات من حمّامات وكهرباء وماء وطعام، فضلًا عن الخدمات الطبية، لذلك لا تعدّ الخيمة سوى جزء من الاحتياج الحقيقي.
وأشار فريق “منسّقو استجابة سوريا” إلى الحاجة الملحّة لأكثر من 20 ألف خيمة في قطاع المأوى لامتصاص موجة النزوح الحالية، حيث وثّق الفريق أعداد النازحين ضمن مراكز الإيواء الذي بلغ 55 ألفًا و362 نازحًا، بينما أعداد النازحين الكلّي بلغ 189 ألفًا و843 نازحًا، تشكّل النساء والأطفال والحالات الخاصة 65% منهم.