ترجمة وتحرير: نون بوست
يقول الثائر البلشفي فلاديمير لينين – أو هكذا يُعتقد – “تمرّ عقود لا يحدث فيها شيء، وأسابيع يحدث فيها ما يحدث خلال عقود”. وفي حين أن صحة هذا الاقتباس موضع شك، فإن الفرضية القائم عليها أنسب ما يكون لسياق غزو روسيا واسع النطاق لأوكرانيا.
شهد العالم خلال سنة منذ تنفيذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما يسمى بـ “عمليته العسكرية الخاصة” تغيراً جذرياً ربما بشكل لا رجعة فيه من بعض النواحي. أثار غزو 24 شباط/ فبراير 2022 إحساسًا جديدًا بالهدف داخل أوروبا والتحالف العسكري الغربي الأوسع الذي تقوده الولايات المتحدة، وقلب الاقتصاد العالمي رأساً على عقب، وفرض واقع طاقة جديد في أوروبا، وحفّز أكبر وأسرع نزوح للناس منذ عقود. حتى أن هذا الغزو بدأ في التأثير على التفكير الجيوسياسي حول الأحداث التي لم تقع بعد.
بعد مرور سنة، هذه أهم عواقب الحرب حتى الآن.
إعادة بعث الناتو
عندما بدأ بوتين وضع الأساس لغزو أوكرانيا أشار إلى ما وصفه بأنه تهديد وجودي يمثله توسّع الناتو في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي. وما كان في يوم من الأيام خوفًا أصبح منذ ذلك الحين نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها: نتيجة للغزو، يستعد التحالف العسكري الغربي للتوسع أكثر مع طلب فنلندا والسويد الانضمام للناتو (علما بأن تركيا استخدمت حق النقض ضد طلب انضمام السويد).
لم يكن من الممكن تصوّر مثل هذا التوسع قبل سنة واحدة فقط. كانت فنلندا والسويد، اللتان اعتبرتا لفترة طويلة مناطق عازلة بين الغرب وروسيا، دولتين محايدتين تجنبتا التحالفات العسكرية على الدوام، وهو الوضع الراهن الذي كان يدعمه غالبية سكان كلا الدولتين. لكن غزو موسكو لأوكرانيا كشف مدى ضعف هاتين الدولتين ويبدو أن الرأي العام بدأ بين عشية وضحاها يرجّح كفّة عضوية الناتو.
يقول رئيس الوزراء الفنلندي السابق ألكسندر ستوب: “كان من غير المرجح أن تنضم فنلندا إلى الناتو على مسار سريع لولا بوتين”، مع أن هذا ليس كل ما يُنسب للزعيم الروسي تحقيقه عن غير قصد. لم ينتج عن غزو أوكرانيا توسيع الحلف فحسب، بل أدى أيضًا إلى مزيد من الاستثمار بين أعضائه وخاصة ألمانيا وبولندا، إذ أن كلاهما زاد بشكل كبير من إنفاقه الدفاعي. وفي الواقع، يسير جميع أعضاء الناتو على المسار الصحيح للوفاء بإرشادات الحلف المتمثلة في إنفاق ما لا يقل عن 2 بالمئة من ناتجهم المحلي الإجمالي الوطني على الدفاع، وهناك حديث حتى عن تجاوز هذا الهدف
في حين رُفضت نداءات أوكرانيا للانضمام إلى التحالف، استفادت كييف مع ذلك من القوة العسكرية لأعضائها، حيث تعهّد العديد منهم بمليارات الدولارات في شكل مساعدات مالية وعسكرية. هذه هي مفارقة حرب بوتين. قبل سنة، كان بوتين يريد تقليص نطاق حلف شمال الأطلسي – على حد تعبير أندرس فوغ راسموسن، الأمين العام السابق للحلف – أما الآن وكنتيجة مباشرة لأفعاله فقد حدث العكس.
أوروبا أقوى وأكثر وحدة
على غرار حلف الناتو، جذب الاتحاد الأوروبي اهتمام الأعضاء المحتملين الجدد، إذ قدمت أوكرانيا طلب العضوية في غضون أيام من غزو موسكو تلتها جورجيا ومولدوفا. وتمتعت هذه الكتلة بإحساس متجدد بالوحدة والهدف، وحتى الآن أقرت تسع حزم عقوبات تستهدف المسؤولين والبنوك والصناعات الروسية. وأكثر من ذلك، يجري العمل على الجولة العاشرة من العقوبات.
يعترف المسؤولون الأوروبيون بأن تحقيق الوفاق بين أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ 27 لم يكن سهلاً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتحقيق قبول الحكومات الأقرب إلى موسكو مثل المجر. ولكن بشكل عام، أدت الحرب في أوكرانيا إلى تحفيز الوحدة الأوروبية وسمحت لبولندا، وهي دولة أخرى كانت في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي على خلاف مع بروكسل بشأن انتهاكاتها لسيادة القانون، بالظهور كحامل لواء الاتحاد الأوروبي في حملة التضامن مع أوكرانيا ضد العدوان الروسي.
أثناء دعم الاتحاد الأوروبي أوكرانيا، ظلت العضوية مهمة – بما في ذلك من زوايا غير محتملة على ما يبدو، مثلما هو الحال مع رئيس الوزراء البريطاني السابق وقائد البريكست بوريس جونسون – ومن غير المرجح انضمام كييف إلى الكتلة في أي وقت قريب. ومع ذلك، من وجهة نظر بعض المراقبين فإن عضوية أوكرانيا في الاتحاد مسألة وقت فقط. وحسب ستاب: “ستصبح أوكرانيا في نهاية المطاف عضوًا في الاتحاد الأوروبي، وهو توقع يشمل أيضًا جورجيا ومولدوفا. فعندما يتصرف شخص ما بشكل عدواني وغير قانوني كما فعل بوتين، حينئذٍ يتحد الجميع”.
أكبر أزمة لاجئين منذ عقود
كان تهجير ملايين الأوكرانيين داخليًا وخارجيًا من أكبر عواقب الغزو الروسي. حتى الآن، تم تسجيل أكثر من 8 ملايين لاجئ أوكراني في جميع أنحاء أوروبا وفقًا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، والغالبية العظمى منهم من النساء والأطفال (لا يُسمح للرجال الأوكرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا بمغادرة البلاد). ويمثل هذا العدد ما يقارب 20 بالمئة من سكان أوكرانيا قبل الحرب، وسُجلت النسب الأعلى من اللاجئين الأوكرانيين في بولندا المجاورة وكذلك ألمانيا وجمهورية التشيك.
تقول بياتا جافورسيك، كبيرة الاقتصاديين في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير: “هذا هو أسرع نزوح قسري للأشخاص منذ الأربعينيات”، مشيرة إلى أن خسارة التعداد البشري سيكون له تأثير عميق على أوكرانيا وقدرتها على إعادة البناء عندما تضع الحرب أوزارها. وتضيف أن اللاجئين عموماً في العادة أصغر سناً وأكثر تعليماً، ورجال أعمال، وهؤلاء هم الأشخاص الذين تحتاجهم البلاد لإعادة الإعمار”.
تداخل الأعمال والجغرافيا السياسية
قبل الغزو الروسي، كانت الأعمال والجغرافيا السياسية منفصلين عن بعضهما إلى حد كبير. وكان هناك شعور بأنه “يمكنك السماح للتجارة بالعمل والسماح للناس ببناء سلاسل التوريد الخاصة بهم، وبعث استثماراتهم وكسب المال من أي مكان، وتصنيع البضائع في أي مكان، ثم السماح للجيوسياسة بأن تكون بمعزل عن هذه الأعمال”، وذلك حسب ديمتري غروزوبنسكي، المفاوض التجاري السابق في منظمة التجارة العالمية ومؤسس موقع الإلكتروني “إكسبلاين ترايد”.
لكن في غضون أيام من غزو الكرملين لأوكرانيا، أعلنت عشرات الشركات في جميع أنحاء العالم نيتها تعليق عملياتها في روسيا. ويقول غروزوبنسكي: “أكبر تغيير حدث في أذهان الناس بعد غزو أوكرانيا هو مشاهدة مدى السرعة التي يمكن بها للجغرافيا السياسية أن تتجاوز الاعتبارات الاقتصادية. لديك جهات تنظيمية تطلب من الشركات تضمين الجغرافيا السياسية في تحليل المخاطر، ولكن مجالس الإدارة تقوم بذلك بشكل متزايد أيضا”، وهو أمر يقول إنه سيثبت أهميته كما هو حال العلاقات بين الولايات المتحدة والصين.
مع ذلك، من بين أكثر من 1500 شركة متعددة الجنسيات أعلنت عن خروج طوعي من السوق الروسية، غادرتها حوالي 500 بذلك بشكل نهائي، وذلك وفقًا لقائمة أعدتها جامعة ييل. وقد وجد تحليل آخر حديث أجراه “بي فور أوكراين”، وهو تحالف من منظمات المجتمع المدني الأوكرانية والدولية، أنه من بين 3000 شركة متعددة الجنسيات يواصل أكثر من النصف التعامل مع روسيا، ويقع المقر الرئيسي للعديد منها في دول مجموعة السبع. ووفقًا لتقريرهم الأخير، من المحتمل أن يقوض ذلك جهود المجموعة لتقليص عائدات الكرملين ودعم أوكرانيا المستقلة.
اعتماد أقل على النفط والغاز الروسي
بعد الغزو الروسي، فرضت أوروبا حظراً على واردات النفط الروسية وقلصت اعتمادها على الغاز الروسي من 35.7 بالمئة في شباط/فبراير 2022 إلى 12.9 بالمئة اليوم – وهو تحول ناتج عن المبادرة الأوروبية بقدر ما هو نتيجة مبادرة موسكو. إلى جانب مطالبة الكرملين المشترين الأجانب بشراء الغاز الروسي بالروبل في محاولة واضحة لدعم قيمة العملة المتذبذبة، أوقفت شركة الطاقة الروسية “غازبروم” إلى أجل غير مسمى تدفق الغاز إلى أوروبا الغربية عبر خط أنابيب نورد ستريم 1.
وفي حين أن الانخفاض الحاد في الطاقة الروسية قد أثار مخاوف من حدوث أزمة طاقة هذا الشتاء، التي يمكن الشعور بتأثيرها في جميع أنحاء القارة، فقد أدى أيضًا إلى زيادة الانتقال إلى مصادر الطاقة البديلة والمتجددة.
حسب جافورسيك فإن “أعضاء الاتحاد الأوروبي من دول أوروبا الشرقية الذين اعتبروا “التحول الأخضر” أمرًا فرضته بروكسل عليهم، يتبنون في الواقع “التحول الأخضر” لأنه أصبح مسألة تتعلق بأمن الطاقة. أدركت هذه الدول فجأة أن أمن الطاقة لا يمكن تحقيقه من خلال التنويع الجغرافي لمصادر الطاقة، وإنما هي بحاجة إلى تنويع أنواع هذه المصادر”.
عزلة غير كاملة لروسيا
يقول ستوب، الزعيم الفنلندي السابق، إن “الواقع الذي نواجهه في أوروبا هو روسيا المعزولة بشكل دائم، وسيكون هذا أمرًا ينتقل عبر الأجيال”. وحتى لو انتهت الحرب غدًا، من المحتمل أن يستغرق استعادة الثقة بين روسيا والغرب عقودًا، إن لم يكن أجيالًا، وبالنسبة للأوكرانيين قد لا يأتي ذلك اليوم أبدًا.
يقول مالكولم تشالمرز، نائب المدير العام في معهد “رويال يونايتد” للخدمات البحثية في لندن: “لن نتمكن من إعادة الأمور إلى ما كانت عليه مرة أخرى. كل ما سينتج عن هذا سيكون مختلفًا تمامًا عما كان عليه في سنة 2021، لأن انعدام الثقة بروسيا صار أعمق”.
لكن التضامن مع أوكرانيا له حدوده، وكما أوضحت أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليست كل الدول مستعدة لإشراك نفسها في هذه الحرب أكثر مما كانت عليه بالفعل. وتواصل الهند والصين الوقوف على خط الحياد الظاهري كما فعلت عشرات الدول الأخرى التي تمثل ما يقارب نصف سكان العالم.
ويضيف تشالمرز: “لقد أظهرت الأزمة أن معظم دول عدم الانحياز ظلت غير منحازة، وفي بعض الحالات، لا تزال تميل نحو روسيا. لا يوجد إجماع دولي ضد روسيا، بل هناك إجماع غربي ضد روسيا”.
تركيز جديد على تايوان
حتى مع استمرار أوكرانيا في الهيمنة على تركيز العالم، بدأ قادة العالم إيلاء اهتمام أكبر للصين والدروس المحتملة التي يمكن أن تستخلصها من موسكو.
في مقابلة أجرتها معه مؤخرًا “نيكاي آسيا”، قال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ: “أي محاولة من جانب الصين لتغيير الوضع الراهن في تايوان باستخدام القوة العسكرية سيكون لها عواقب وخيمة على شرق آسيا، ولكن سيكون لها أيضًا عواقب على حلفاء الناتو وعلى الأمن العالمي”.
هناك بالطبع اختلافات جوهرية بين أوكرانيا وتايوان، فالأولى دولة مستقلة معترف بها دوليًا بينما الثانية ليست كذلك. وفي حين أثبتت الاضطرابات التجارية بين روسيا والغرب أنها ضارة بشكل خاص بالاقتصاد العالمي، فإن مثل هذا النزاع مع الصين – التي تتباهى باقتصاد يبلغ حجمه عشرة أضعاف الاقتصاد الروسي – سيكون “كارثياً” حسب غروزوبنسكي.
يقول ستوب: “مع أن بوتين وشي زعيمان مختلفان تمامًا، حيث أن شي جين بينغ صبور وذكي وبوتين متسرّع ومتهور، فإن الأخطاء التي ارتكبها بوتين توضح ما يمكن أن يحدث إذا اختار شي اتباع نهج مشابه مع تايوان. ويضيف: “إذا كان بوتين قد غزا كييف في غضون 48 ساعة، فقد يعتقد شي جين بينغ أنه ربما بإمكانه فعل الشيء نفسه في تايوان. لكنه بات الآن يفهم نوعًا ما أنه لا يستطيع ذلك”.
المصدر: ذا تايم