هناك مقعد سياسي مريح يطيب للكثيرين الجلوس عليه وممارسة الحذلقات اللغوية ضد السلطة، وما كل حديث معارض حذلقة باطلة، لكن المقعد المريح في مناكفة السلطة ورأسها بالتحديد يصير مهربًا لكثيرين يجتنبون الانكباب الجاد على جذور فشل التجربة الديمقراطية في تونس وفي الوطن العربي (الأمة العربية برمتها) وما لم ننظر بجرأة في عين الأزمة لن نحلها.
هذه الأزمة وبعد طول تأمل نراها تتجاوز حالة الانقلاب في تونس ومصر وتحتاج حفرًا في الأعماق، إنها أزمة تعايش بين مختلفين: أحدهما استعملته السلطات (الأنظمة العربية جميعها) وملك سندًا ماليًا وثقافيًا من قوى عظمى مكنته من تخريب التجارب، وهذه القوى هي الرابح الوحيد حتى اللحظة من التخريب، والطرف الآخر عرف سجون بلدانه أكثر مما عرف منتزهاتها.
وتتوافر بين أيدينا كل يوم أدلة إضافية على أنه ما لم تحل هذه المعضلة، فإن الديمقراطية لن تقوم ولن يسعد شعب عربي واحد ببناء حياة سياسية سليمة تفضي إلى استقرار دائم وتنمية مستدامة.
اليسار الاستئصالي صنائع الأنظمة
يؤسفني أن أعمم، لكن وجوه اليسار التي لم تمارس الاستئصال قليلة حتى لا تكاد تذكر، لذلك فإنني أسوق اليسار كله تحت عنوان الاستئصال في مساحة تمتد من العمل على الإبادة الشاملة إلى الاستعمال الانتهازي القائم على الاحتقار والإذلال، وأضيف هامشًا في المتن: كل يساري تخلى عن ممارسة الاستئصال تعرض إلى الاستئصال من اليسار نفسه.
زعم اليسار امتلاك مفاتيح الحداثة وبنى سرديته على أنه الوحيد العارف بما يجب أن يكون، فهو إله الثقافة العصرية وهو مالك التقدمية وهو من يحدد على ضوء تقدميته من يكون رجعيًا ومن يحق له الانتماء للوطن ومن يجب قصفه، وهذا التملك الكاذب يحدو عمله السياسي والفكري منذ ظهور أول اليسار العربي شرقًا وغربًا.
وعلى خطى اليسار وفكره تشكلت حركات قومية وتبنت أطروحاته ومارست مثله الإقصاء، بل أفحشت لأنها أفلحت في القفز إلى السلطة على ظهور الدبابات في خمس أقطار عربية على الأقل أحدها محا مدينة كاملة من الوجود.
يتناسى اليسار في هذه الطريق الطويلة أن عدوه الرجعي كان مقيمًا إقامة دائمة في سجون الأنظمة العربية، فلم ينل نفس الحظ في تعليم جامعي يبني به فكرًا أو يصنع نخبة أو يأخذ حقوقًا متساوية في الإدارة والمناصب والمشاركة على قاعدة الحق في إدارة الشأن العام وتعلم أساليب الحكم بما في ذلك الوقوع في أخطاء الحكم التي تسمح بتقييم الكفاءات وتطويرها.
مسار طويل من حرب إبادة عاد فيئها إلى قوى فاسدة في السلطة (مبارك وبن علي نموذجان متأخران) وإلى قوى خارجية ومنها الكيان الصهيوني، حاربت دومًا كي لا تبنى في البلدان العربية أي تجربة ديمقراطية وكان اليسار معول الهدم بأيديها وإن تظاهر بالبراءة وتغطى بخطاب الثورية والتقدمية.
هل الإسلاميون أبرياء؟
هذا سؤال مغالطي ويروم الجدال لا الحقيقة، فلو كان الإسلاميون حظوا بنفس ما حظي به اليسار من فرصة تعلم ومن فرص مشاركة لكان السؤال وجيهًا والحكم على الإسلاميين يقوم على منطق لكن وضع الضحية في كفة والجلاد في أخرى والحكم على سلامة أفعالهما لا يبحث عن الحقيقة.
وقد وقعت أقلام كثيرة في الرد على هذا السؤال معتمدة مشاركة جزئية للإسلاميين في الحكم بعد الربيع العربي كما لو أنها تجربة سليمة وبشروط الديمقراطية المستقرة، متغافلة عن كل العوائق التي وضعها في طريقهم اليسار والقوميون وفي تحالف واضح مع فلول الأنظمة الساقطة وصولًا إلى السيسي وقيس سعيد.
أخطاء الإسلاميين بعد الربيع العربي كانت أخطاء تسيير تنم عن جهل بالدولة وآليات الحكم وقد خرجوا إليه من سجونهم ومن منافيهم الطويلة، لكنها لم تكن جرائم في حق الديمقراطية ولا اعتداءات على الحق في المشاركة
فضلًا عن ذلك فإن حكم اليسار على الإسلاميين لا يقوم على تقييم تجربة حكم تامة أو جزئية بل على وصم مبدئي بالرجعية والتخلف (والعمالة والخيانة إلخ)، فهم منفيون بشكل استباقي بمنطق ينزع عنهم الحق في الحياة لا في المشاركة كمواطنين ذوي حقوق.
في الحالة التونسية التي شارك فيها إسلاميون في الحكم التي وصمها الإعلام بعشرية الإسلاميين متجاهلًا من شاركهم بالأغلبية نتعرف الآن على مزايا العشرية التي لم يضار فيها صحفي ولا صودر فيها صوت متكلم ولا جر فيها شخص للسجن دون تهمة ثابتة، ونرى رأى العين مشاركة اليسار فيما بعد العشرية حيث تهدر كل الحقوق الإنسانية باسم مقاومة الرجعية.
وقد وقعت أدلة إدانة اليسار بين أيدينا دون أن نطلبها، فاليسار هو من نظم جرائم الإرهاب وقتل الناس بسلاح الدولة ويسجن القضاة الذين يكشفون الحقيقة فيعاد أمامنا اكتشاف الهدف الأسمى والأزلي لليسار استئصال شأفة الإسلاميين ولو بتهم مؤلفة في الحانات.
“أنت تنظف الإسلاميين”
أسمع هذه الجملة تتردد قبل قراءة المقال فأرد أولًا بشكل شخصي أنا أتشرف بأني لست استئصاليًا وأتشرف بأني أومن أن الإسلاميين مواطنون كاملو الحقوق وأن لهم الحق الكامل في المشاركة كما لهم الحق في ارتكاب الأخطاء التي يرتكبها كل ممارس للشأن العام خاصة في مبتدأ عملية ديمقراطية مضطربة وتسير تحت النار المعادية من قوى الهيمنة المعادية.
أما عن تنظيف الإسلاميين فنرد ثانيًا برد عام ومبدئي، ليس الإسلاميون بسفالة اليسار، وقد منحت الانقلابات الإسلاميين فرصة تطهر لم يتوقعها المنقلبون أنفسهم وهم يحرقونهم أحياء في الساحات من مصر حتى الجزائر مرورًا بتونس، لقد كشفت سفالة من حكم بعدهم معدنهم الديمقراطي وأدانت الوقائع من أسقطهم.
لقد كررت دومًا أن أخطاء الإسلاميين بعد الربيع العربي كانت أخطاء تسيير تنم عن جهل بالدولة وآليات الحكم وقد خرجوا إليه من سجونهم ومن منافيهم الطويلة، لكنها لم تكن جرائم في حق الديمقراطية ولا اعتداءات على الحق في المشاركة ولم يثبت عليهم عمل معاد للحرية ولا حق التعبير والتنظم، فضلًا عن نظافة أيديهم من المال العام وإذا كان على المرء أن يختار فإن العيش تحت حكم الإسلاميين وعد بمزيد من الحريات، أما حكم اليسار المتخفي في زواريب الانقلابات فيعد بالسجون والمحارق.
معركة الاستئصال التي قادها اليسار العربي منذ أكثر من نصف قرن خربت كل مسارات بناء الديمقراطية
وإذا كنت أجد للإسلاميين خطأ، فإني أرى أن خطأهم الأكبر هو الخشية من اليسار وإعطائه قيمة فوق قيمته الصفرية انتخابيًا وأخلاقيًا ومواصلة النظر إليه كقوة ذات رأي يمكن أن يصيب أو تشارك في فعل سياسي، لقد جرهم هذا الخوف من الإسلاميين إلى تحالفات مسيئة للديمقراطية وأوقعهم في مآزق كانوا في غنى عنها لو تحلوا بشيء من الشجاعة في تقييم حجم اليسار على الأرض ووزنوه بما هو أهل له من الاحتقار.
هل هذا هو حل المأزق الديمقراطي العربي؟ إني أرى الحل الوحيد هو تجاوز اليسار ونبذه والتقدم إلى الناس بصوت واضح وشجاع يقوم على فكرة بسيطة: الديمقراطية لا تبنى مع اليسار العربي وتوابعه من القوميين عشاق الدبابات، ولو تكلف الأمر سنوات من الصبر والعمل بين الناس.
معركة الاستئصال التي قادها اليسار العربي منذ أكثر من نصف قرن خربت كل مسارات بناء الديمقراطية، ومكنت لأنظمة فاسدة ولقوى الهيمنة الغربية، ومسار بناء الديمقراطية يبدأ من تجاهل اليسار وسرديته التقدمية الكاذبة، وسيظل الإسلاميون يقعون في مطبات متتابعة ما لم يحسموا علاقتهم باليسار ويمضوا في طريقهم، وهذه نقطة البداية وقد أثبتت صحتها الانقلابات التي خططها اليسار ونفذها عساكر جهلة.