ترجمة حفصة جودة
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وافق البرلمان العراقي على حكومة جديدة مخول لها البدء بإصلاحات سياسية، ومن بين أولوياتها تعديل إشكالية الدستور العراقي، بدأ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أول خطوة في تلك العملية بتعيين حسن الياسري مستشارًا دستوريًا له، وفي الوقت نفسه أعلن البرلمان عن تشكيل لجنة لمراجعة الدستور.
هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها العراق إصلاح دستوره منذ بداية تنفيذه عام 2005، شُكلت لجان لمراجعة الدستور في 2009 و2019، لكن هذه الجهود فشلت بشكل أساسي لفشلها في بناء زخم.
إذا أردنا أن تنجح هذه المبادرة الأخيرة، فيجب أن نتعلم الدرس من المحاولات السابقة الفاشلة لتعديل الدستور، ويجب أن نتعلم أيضًا من الأمثلة الإيجابية لإصلاح الدستور في الدول الأخرى.
عملية دستورية شاملة
عندما حاولت الحكومات العراقية السابقة إصلاح الدستور، كانت العملية بعيدة عن العامة، كانت هناك بعض المحاولات الشاملة التي تضمنت عددًا صغيرًا من المستشارين ومنظمات المجتمع المدني، لكن هذه الاجتماعات لم تكن بناءة وتم تجاهل نتائجها، كانت النقاشات مقصورة على دوائر النخبة، دون بناء زخم أو اهتمام عام حول العملية.
لذا إذا أردنا لتلك المباردة الجديدة أن تنجح، فيجب أن يتضمن الأمر نطاقًا واسعًا من الأصوات المختلفة لمساعدة المفاوضين الدستوريين لتحديد الترتيب الحقيقي للأولويات بدلًا من التركيز فقط على القضايا التي استهلكوها في الماضي.
يحدث ذلك من خلال عدد من الوسائل، من بينها تشجيع العراقيين على التعبير عن أولوياتهم بشكل جماعي.
في هذا الشأن، يمكن للحكومة العراقية أن تحذو حذو جنوب إفريقيا عندما أطلقت عملية دستورية عقب انتهاء الفصل العنصري، فقد دعت حكومة جنوب إفريقيا عامة الشعب للتعبير عن أولوياتهم كتابةً، وتلّقت 1.7 مليون استجابة لذلك، وضعها المنقحون في حسبانهم.
أحد الأخطاء الكبرى الدائمة في العراق، سيطرة دائرة صغيرة من داخل الطبقة السياسية على جهود الإصلاح، وتجاهل أي اقتراحات أخرى من خارج تلك الدائرة
شُجع السكان على المشاركة لأن السلطات القائمة على الأمر قادت حملة ناجحة لخلق الاهتمام بالأمر، وكان هناك إحساس عام بأن الدستور سيجلب تغييرات حقيقية للبلاد.
في 2005، في أثناء العملية الدستورية في العراق، شُكلت هيئة للعامة، لكن هيمن عليها حزب سياسي واحد وهو المجلس الأعلى الإسلامي للعراق (الذي عُرف آنذاك بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق)، وسعى لتحريف النتائج لصالحه، ونتيجة لذلك لم تُأخذ المباردة على محمل الجد.
لذا إذا أطلقنا تلك العملية اليوم، فيجب أن تنتشر على نطاق واسع وأن تظل مستقلة عن الأحزاب السياسية الرئيسية للحفاظ على مصداقيتها، ولا يجب أن تكون الشمولية محدودة بالوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس على مستوى أفقي، تحتاج العملية إلى بعض العمق بتوفير مجموعات متخصصة تملك سلطة اتخاذ القرار لتحديد كيفية تشكيل الدستور.
يمكن الاستفادة في هذا الشأن من تجرب كينيا 2010، ففي أثناء مرحلة الصياغة، حصلت لجنة من الخبراء على نفس صلاحيات اتخاذ القرار التي تحظى بها اللجنة البرلمانية، كانت النتيجة النهائية دستور يسمح لكينيا بتحقيق تقدم بارز في تعزيز دور القانون.
أحد الأخطاء الكبرى الدائمة في العراق، سيطرة دائرة صغيرة من داخل الطبقة السياسية على جهود الإصلاح، وتجاهل أي اقتراحات أخرى من خارج تلك الدائرة، ساهم هذا الأسلوب في ضعف بارز في صنع السياسات، لذا يجب تغيير هذا التوجه بالسماح بتأثير حقيقي من آخرين على تلك العملية.
وأخيرًا، والأكثر أهمية؛ يجب أن تُنظم عملية المفاوضات بشكل مختلف عن المحاولات السابقة، فعملية الإصلاح الدستوري عام 2019 – التي شهدت عليها شخصيًا – بدأت بخطوة خاطئة، فالاجتماعات الأولى للجان المعنية كانت مخصصة لمناقشة صياغة بديلة لبنود محددة.
ركزت لجنة المراجعة الدستورية معظم انتباهها على مناقشة بنية ونظام الحكومة، ولم تول إلا القليل من الاهتمام للحقوق الفردية ووضع الخدمات العامة
يتحدث أعضاء اللجنة مع بعضهم البعض ويقترحون أنواعًا محددة من التعديلات ويتجاهلون كل شيء آخر، هذه الطريقة تساهم في الشعور بأنه لن يتم تحقيق أي شيء، مما يؤدي في النهاية إلى تجاهل العملية بأكلمها.
وعليه، يجب أن تبدأ المفاوضات هذه المرة كحوار بين مختلف الجوانب بشأن اهتماماتهم، عندما يفهم كل جانب اهتمامات الآخرين، يمكننا حينها اكتشاف أرضية مشتركة والوصول إلى اتفاق مقبول، بعد ذلك تأتي صياغة البنود الفردية.
إصلاح العلاقة بين المواطنين والدولة
في 2019، شهد العراق أكبر ثورة شعبية في تاريخ البلاد، اُثارت مطالب المحتجين دوافع سياسية لإصلاح العلاقة بين المواطن والدولة، لتعميق حماية الحقوق الاجتماعية الاقتصادية وإحداث ثورة في إطار العمل المناهض للفساد في العراق.
بدلًا من ذلك، ركزت لجنة المراجعة الدستورية معظم انتباهها على مناقشة بنية ونظام الحكومة، ولم تول إلا القليل من الاهتمام للحقوق الفردية ووضع الخدمات العامة.
لذا يجب أن تعالج أي جهود دستورية هادفة في 2023 مظالم العامة، أحد المشاكل الرئيسية التي يواجهها العراق في تاريخه الحديث هو أن الدستور ينص نظريًا على الحقوق المدنية والسياسية، لكنه لا يشير بوضوح إلى ما يشكل قيودًا تشريعية على تلك الحقوق وما ليس كذلك.
على سبيل المثال؛ حرية التعبير مكفولة نظريًا، لكن الدستور لا يقدم لصناع السياسة أو المحاكم أي إرشادت عن الحق في انتقاد موظفي الدولة واتهامهم بالفساد، شجع غياب الإرشادات الواضحة صناع السياسات على تقييد الحقوق، وانتزعوا الأدوات التي تحتاجها المحاكم لكبح تجاوزات السلطة التنفيذية.
ستحتاج كل هيئات الرقابة الرئيسية في الدولة (هيئة التدقيق الحسابي وهيئة مكافحة الفساد والمحاكم) إلى تفويضات قوية وضمانات أكبر بالاستقلال
في هذا الشأن يمكن للعراق أن يتعلم من تجارب الدول الأخرى، مثل تجربة دستور تونس 2014، الذي نص بوضوح على احترام جميع القيود على الحريات لمبدأ النسبية، وهو معيار تقدمي منتشر بين الديمقراطيات الحديثة.
يجب أن يتعلم العراق أيضًا من دول الجنوب العالمي مثل كولومبيا، التي ألغت التمييز بين الحقوق المدنية والسياسية من ناحية، والحقوق الاجتماعية الاقتصادية من ناحية أخرى، أدى ذلك إلى أن يصبح الحق في التعليم والرعاية الصحي والسكن وغيرها من المميزات قابلة للتنفيذ.
إذا استطاع العراق ضم هذه البنود إلى دستوره الجديد، سيسمح ذلك للمواطنين برفع دعاوى في المحاكم إذا فشلت الحكومة في تحقيق التزامها الدستوري ناحيتهم، سيسمح أيضًا للسلطة القضائية بمطالبة الحكومة بذلك، هذه الخطوة بالطبع لن تكون حلًا سحريًا للعديد من المشكلات الاقتصادية الاجتماعية للعراق، لكنها ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح.
يمثل إطار مراقبة الدستور نفس القدر من الأهمية، هذا الإطار سيئ الصياغة ويمتلئ بالتناقضات، وقد سهلت الترتيبات الدستورية المعيبة انتشار الفساد في الدولة دون أي اعتراض
ستحتاج كل هيئات الرقابة الرئيسية في الدولة (هيئة التدقيق الحسابي وهيئة مكافحة الفساد والمحاكم) إلى تفويضات قوية وضمانات أكبر بالاستقلال، بما في ذلك سيطرة أكبر على ميزانيتها وتعيين كبار الموظفين.
الفيدرالية وتشكيل الحكومة
يجب أن يعالج الإصلاح الدستوري أيضًا التحديات السياسية التي تواجهها البلاد منذ 2003، التي ستسمح للدولة أيضًا بمزيد من التركيز على الاحتياجات الملحة للسكان.
بوجه خاص، سيظل النظام الفيدرالي للعراق مصدرًا للاضطراب، إلا إذا عُقدت صفقة جديدة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، سيتطلب الأمر تفاوض القوى السياسية المختلفة في البلاد على فهم مشترك لما يُفترض أن تحققه الفيدرالية، وبناء علاقة مؤسسية حول هذا الفهم.
أي نقاش عن نظام الحكومة يجب أن لا يركز على كيفية منح الرئيس التنفيذي المزيد من الصلاحيات، بل على الاتجاه نحو شكل أكثر نجاحًا لديمقراطية برلمانية
يجب أن تفهم بغداد وأربيل المصالح الأساسية لبعضهما البعض، وتطوير حلول مبدعة تسمح بالدفاع عن تلك المصالح وضمانها، وتقديم حلول وسط مناسبة.
قبل ذلك كله، يجب أن يفهم الطرفان أن الفيدرالية ليست فقط وسيلة لتقسيم سلطة اتخاذ القرار عبر الحدود السياسية والإقليمية، لكنها وسيلة يمكن من خلالها حماية التضامن الاجتماعي داخل حدود الدولة الواحدة.
يجب أن يكون تشكيل الحكومة في العراق مطروحًا للنقاش أيضًا، فقد دعت بعض القوى السياسية في بغداد إلى الاتجاه نحو النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، لكن التجارب السابقة في العراق والتجارب الحالية لبعض الدول مثل تونس، تكشف بلا شك عن سعي الرؤساء المنتخبين مباشرة إلى احتكار اتخاذ القرار (عادة ما ينجحون في ذلك) دون تحقيق أي تحسينات هادفة في إدارة البلاد.
هذه النتيجة ليست مرغوبة أو ممكنة في بلد مثل العراق، في الحقيقة فالاتجاه نحو سلطة رئاسية أكبر لن يكون مقبولًا بين الكثير من الجماعات السياسية الرئيسية في البلاد، ونتيجة لذلك فأي نقاش عن نظام الحكومة يجب أن لا يركز على كيفية منح الرئيس التنفيذي المزيد من الصلاحيات، بل على الاتجاه نحو شكل أكثر نجاحًا لديمقراطية برلمانية.
يواجه العراق عددًا من التحديات الساحقة، لكن محاولة علاجهم بنفس الطرق التي فشلت في الماضي لن ينجح في تحقيق أي نتيجة، لذا من الضروري اتباع طريقة جديدة أكثر شمولية وتركز على مصالح العامة وليس فقط مصالح الطبقة السياسية، إذا تمكننا من تحقيق ذلك فإن العراق يقطع شوطًا كبيرًا تجاه التغيير الحقيقي.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية