خلال 12 عامًا اتخذت السعودية موقفًا حاسمًا في وجه نظام الأسد، كذلك كانت الرياض أحد أهم الأطراف التي منعت الأسد من الانخراط مجددًا في المنظمة العربية والدولية، وساهمت العقوبات السعودية على النظام بشد الخناق عليه، لكن مستجدات تحصل في المنطقة خلال الأشهر الأخيرة توحي بتغير النظرة السعودية من القضية السورية بشكل عام، حيث باتت القضايا العربية “مصدر إزعاج ممل للمملكة”.
صحيفة “أيكونوميست” ذكرت أن السعودية أقرت بفشلها في القضية السورية، وسلطت المجلة البريطانية الضوء على مؤشرات التحول في موقف الرياض من نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
أورد تقرير المجلة أن السعودية أنفقت، على مدى العقد الماضي، عشرات المليارات من الدولارات للإطاحة بنظامين معاديين، هما نظام الأسد في سوريا، ونظام الحوثيين في اليمن، لكنها على وشك الاعتراف الرسمي بفشل المحاولتين في الأشهر المقبلة.
الحوار مع حكومة دمشق
أشارت الصحيفة إلى أن التحول السعودي لا يعود إلى تقارب بين السعوديين وخصومهم، بل إلى “تصور مفاده أن المملكة، مثل بعض جيرانها الخليجيين، أصبحت ترى بشكل متزايد أن بقية العالم العربي مصدر إزعاج ممل”.
وكان وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان قد قال إن إجماعًا بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا وأن الحوار مع دمشق مطلوب في وقت ما حتى تتسنى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية بما في ذلك عودة اللاجئين.
وقال الأمير فيصل: “سترون أن إجماعًا يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي على أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار”، مضيفًا “في ظل غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حل سياسي فإنه بدأ يتشكل نهج آخر لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين خاصة بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا.
وقال ابن فرحان: “لذلك، ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهمية خاصة فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك”، وكشف موقع “إنتلجنس أون لاين” أن وزير الخارجية السعودي، سيزور العاصمة السورية دمشق في وقت قريب، مشيرًا إلى عملية “تطبيع سرية” تجري بين السعودية والنظام السوري.
وفي تقرير له، قال الموقع: “المساعدات السعودية بعد كارثة الزلزال الذي ضرب المنطقة، في 6 فبراير/شباط الحالي، كشفت عن عملية تطبيع سرية بين السعودية والنظام السوري، حيث جرى تسليم المساعدات الإنسانية إلى مناطق سيطرة النظام السوري عبر رجل أعمال مقرب من رئيس النظام السوري، بشار الأسد”، وكانت وسائل إعلام روسية قد ذكرت منذ أيام أن بن فرحان سيزور دمشق لكن الوزير علق قائلًا إنه لن يعلق على الشائعات.
لكن المساعدات السعودية إلى الأسد لا تعدّ مؤشرًا كبيرًا على الانفتاح والتقارب بين الطرفين، فالسعودية أرسلت أضعافًا من المساعدات إلى الشمال السوري الذي تسيطر عليه المعارضة السورية، وكانت الرياض من أوائل الذين أرسلوا المساعدات إلى هذه المناطق، كما تكفلت بالمشاركة بإعادة إعمار بعض الوحدات السكنية وما زالت شاحنات المساعدات تدخل تباعًا إلى هذه المناطق.
الأهم من المساعدات كانت تصريحات ابن فرحان التي جاءت بعد حصول مؤشرات أخرى غير واضحة المعالم تدل على التقارب بين النظام السوري والرياض منها رفع علم النظام في القمة السعودية-الصينية، كما بدأت تسهيلات على الحركة التجارية بين الطرفين منها رفع الحظر المفروض على البضائع السعودية إلى سوريا، كما أجرى مدير إدارة المخابرات العامة السورية زيارة للرياض نهاية 2022.
مبادرة عربية
في ظل الحديث عن الحراك السعودي تجاه الأسد، تكلمت مواقع إعلامية وصحف سورية عن مبادرة عربية جديدة يتم العمل عليها تخص سوريا، وسيتم من خلال هذه المبادرة إجراء اتصالات عالية المستوى مع نظام الأسد، ويأمل أطراف المبادرة تحقيق “اختراق في الاستعصاء الذي يعاني منه الملف السوري منذ سنوات”.
بدورها أشارت قناة “أورينت” إلى أن “توافقًا عربيًا تم التوصل إليه يقضي بعدم الاستمرار بترك سوريا ملعبًا للقوى الإقليمية الأخرى، وتحديدًا إيران وتركيا، إلا أن أحدًا لا يمكنه أن يكون متأكدًا من طبيعة استجابة النظام مع هذه المبادرة، رغم القناعة الكبيرة بعدم إمكانية فصل النظام عن إيران”.
وقد مثّلت كارثة الزلزال التي ضربت تركيا ومناطق في سوريا “فرصة ذهبية” للدول العربية من أجل وضع المبادرة الخاصة بها موضع التنفيذ، حيث رفعت الحرج عن بعض الدول من أجل طرحها بشكل علني مثل السعودية ومصر، وبحسب المصادر فإن هذه المبادرة ليست وليدة اللحظة، بل تم الاتفاق على إطلاقها منذ خمسة أشهر عندما حصل الأردن على موافقة مبدئية من المملكة العربية السعودية على إطلاقها.
في سبتمبر/أيلول الماضي كشف وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي عن مبادرة أردنية من أجل الشروع في عملية سياسية يقودها العرب تهدف إلى حلّ الأزمة السورية استنادًا إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254، معبرًا عن قلقه من عدم الاستقرار الحاصل في الجنوب السوري على الحدود الأردنية، وقال الصفدي يومها إن بلاده “تحشد من أجل دعم دولي وإقليمي لعملية سياسية يقودها العرب لإنهاء الحرب المستمرة منذ 11 عامًا في سوريا”، موضحًا أن العملية “ستشمل المملكة العربية السعودية ودولًا عربية أخرى”.
وأضاف الصفدي أن المبادرة تستند إلى قراري مجلس الأمن الدولي 2254 و2642، اللذين يضعان خريطة طريق لتسوية تفاوضية في سوريا، وتسليم المساعدات الإنسانية إلى السوريين، قائلًا: “إننا نريد أن نرى كيف يمكننا تحقيق تسريع في مشاريع التعافي المبكر وفق القرار 2642″، وفي 15 فبراير/شباط الحالي، قال الصفدي بعد لقائه بشار الأسد في دمشق، إن زيارته إلى دمشق “محطة انطلاق لحل الأزمة في سوريا”.
بالعودة إلى أهداف المبادرة، فقد بدأت الدول الخليجية تتخذ سياسات متمايزة عن الولايات المتحدة بشكل أوضح، حيث أصبحت تنظر بقلق إلى الإستراتيجية الأمريكية في سوريا، التي تقوم على إبقاء الوضع فيها كما هو عليه دون أي أفق، خاصة أن تركيا بدأت تتحرك بناء على نفس النظرة القلقة من الإستراتيجية الأمريكية (السلبية)، فبدأت عملية تطبيع مع نظام الأسد، ما جعل الدول العربية تسارع لكي يكون لها الحضور الفاعل.
فرصة ممتازة
مدير مركز إدراك للأبحاث باسل حفار يرى أن المبادرة العربية تعتمد على “فكرة اتخاذ خطوات تطبيع حقيقي مع النظام في مقابل التزامه بالشروط التي تريدها منه المنظومة العربية”، مشيرًا إلى أن هذا “يتضمن مساعدته على إعادة الإعمار وعودته للحضن العربي، هذا النوع من الطروحات ليس الأول من نوعه لا من طرف العرب ولا من غيرهم، لكنه يصطدم دائمًا باستعداد النظام الفعلي للالتزام بالشروط، هذا من ناحية، وبقبول الأطراف المناوئة لأي تطبيع مع النظام من ناحية أخرى”.
يوضح حفار خلال حديثه لـ”نون بوست” أن “الزلزال شكل مناسبة لفتح قنوات تواصل دبلوماسية رسمية بين النظام والعديد من الدول العربية والأوروبية، باعتبار أنه حالة إنسانية”، مضيفًا “استقبال النظام لوفود هذه الدول والابتسام في وجوههم لا يشكل حالة حرج له أمام مؤيديه كما أنها مناسبة ذات طابع إنساني واضح وبالتالي فالعلاقة لا تسبب حرجًا أمام حلفائه وتحديدًا إيران التي تنظر بعين الريبة لتحركات النظام وانفتاح المحيط العربي عليه”.
يقول حفار: “من وجهة نظر الدول التي بادرت للانفتاح على النظام مثل السعودية، كارثة الزلزال ذات الطابع الإنساني البحت مناسبة ممتازة لإعادة فتح العلاقات باعتبار أنها لا تأتي في سياق سياسي – ظاهريًا على الأقل -، علمًا أن التواصلات والعلاقة مع النظام لم تنقطع تقريبًا إلا فترات قصيرة، لكنها بقيت محصورة طوال الفترة الماضية في أطر معينة ذات طابع خاص وأمني”.
بالمحصلة فإن الحديث عن حجم التقارب أو التطبيع الفعلي مع النظام ما زال مبكرًا، والزيارات والعلاقات الدبلوماسية واستقبال الوفود وفتح المطارات كلها مؤشرات إيجابية بالنسبة للنظام وكلها تدعم فكرة التطبيع معه، لكن عمليًا فإن التطبيع الفعلي مع النظام يعني التزامين كبيرين ومن طرف النظام لا يبدو أنه مستعد لهما وهما بحسب ما يرى الباحث باسل حفار: “الأول تحجيم الدور الإيراني في سوريا، وهو مطلب عربي وأمريكي وإسرائيلي، والثاني استعداد النظام لعودة اللاجئين وتهيئة الظروف اللازمة لذلك معيشيًا وأمنيًا”.