شكّلت عملية إجراء انتخابات جديدة إحدى أبرز الموضوعات التي تعهّدت بها حكومة محمد شياع السوداني، في برنامجها الحكومي الذي تعهّدت به أمام مجلس النواب العراقي بعد نيلها الثقة، ومع عدم تحديد سقف زمني واضح لإجراء هذه الانتخابات، إلّا أن الواضح أن الأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية داخل المجلس ترغب بإعادة هندسة القانون الانتخابي، قبل الشروع بعملية تحديد موعد لهذه الانتخابات.
إذ عملت هذه الأحزاب والكتل على تقديم مشروع قانون جديد خلال الأيام الماضية، والذي أُطلق عليه “مشروع قانون التعديل الثالث لسنة 2018 لانتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات”، ورغم قراءته الأولى داخل المجلس، إلّا أن هذه الأحزاب والكتل فشلت حتى اللحظة في قراءته للمرة الثانية، بسبب الملاحظات الكبيرة عليه، رغم إعلان رئاسة مجلس النواب إدراجه على جدول أعمال المجلس في جلسة هذا الأسبوع لتمريره.
حمل التعديل الجديد لقانون الانتخابات العديد من الإشكالات الموضوعية والشكلية عليه، وذلك نظرًا إلى المواد الجديدة أو المعدّلة التي حاولت الأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية إدخالها فيه، فيما يبدو توجهًا واضحًا لإعادة تدوير نفسها عبر قانون انتخابي يضمن لها منافسة انتخابية سهلة.
هذا إلى جانب محاولة سياسية للابتعاد عن القانون السابق، والذي أُجريت بموجبه الانتخابات المبكرة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، فضلًا عن ذلك لم يؤدِّ مشروع القانون الجديد إلى تغيير مسار العملية الانتخابية فحسب، بل جعل الاستحقاق الانتخابي مرهونًا بإرادة الأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية، ما يمثّل بدروه ضربة كبيرة لشرعية التمثيل السياسي في ظل النظام السياسي الحالي.
العودة إلى الوراء مرة أخرى
حمل مشروع القانون الانتخابي الجديد عودة واضحة للعمل بالقوانين الانتخابية السابقة، ففي الوقت الذي كان يتطلب فيه تعديل قانون الانتخابات رقم 9 لعام 2020، والذي أُجريت بموجبه الانتخابات المبكرة الأخيرة، ألغى مشروع القانون الجديد قانون 2020، وأعاد العمل بقانون 2018.
ولم يكتفِ المشرّع العراقي بذلك، بل جعل قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم لعام 2009 جزءًا من مشروع القانون الجديد، ما يمثل بدوره خرقًا دستوريًّا واضحًا، عبر دمج قانونَين في قانون واحد، ما يشير بدروه إلى إرادة سياسية واضحة لفرض واقع سياسي يقضي على أي محاولة لتعديل هذا الواقع من قبل المستقلين والمدنيين.
وإلى جانب ما تقدّم، أعاد مشروع القانون الجديد العمل بالدائرة الانتخابية الواحدة، والعدّ والفرز اليدوي، وتصويت الخارج، إلى جانب إعادة العمل بالبطاقة البايومترية التي أُثيرت حولها العديد من المشاكل بسبب سهولة تزويرها.
التحدي الخطير الذي مثّله مشروع القانون الجديد، يتمحور حول كونه مشروعًا جاء لخدمة ما يمكن أن نطلق عليه “سياسة الأمر الواقع”، فهو منحَ هامشًا كبيرًا لقوى السلاح
والأهم من كل ذلك، أعاد مشروع القانون الجديد العمل بنظام “سانت ليغو” لاحتساب الأصوات بصيغته المعدّلة (1.9)، بما يسمح للأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية المدعومة بالسلاح والمال السياسي احتكار المنافسة والمقاعد النيابية والبلدية، بما يخدم طموحها ونفوذها السياسي.
إن التحدي الخطير الذي مثّله مشروع القانون الجديد، يتمحور حول كونه مشروعًا جاء لخدمة ما يمكن أن نطلق عليه “سياسة الأمر الواقع”، فهو منحَ هامشًا كبيرًا لقوى السلاح أن تؤسّس واقعها الانتخابي بشكل يسمح لها الاستحواذ على أكبر عدد ممكن من الأصوات، وذلك من خلال السماح لها بالمشاركة في الانتخابات.
هذا إلى جانب أن بعضها يمكن أن يستحوذ على مقاعد الكوتا، وتحديدًا في مناطق سنجار وسهل نينوى، وبعض المناطق المتنازع عليها، كما أن مشروع القانون الجديد حدّد عدد مقاعد مجالس المحافظات بـ 10 مقاعد لكل محافظة، يضاف إليها مقعد لكل 200 ألف نسمة، دون أن يوضّح آلية توزيع المقاعد الزائدة، خصوصًا أن العراق لا يمتلك حتى الآن إحصاءً سكانيًّا يوضّح التوزيع الديموغرافي في البلاد.
صفقة النخبة الحصرية تنتصر من جديد
مع كل أزمة سياسية تعصف بالبلاد، تعود النخبة الحصرية لفرض واقعها السياسي من جديد، والمقصود بالنخبة الحصرية الأحزاب والكتل التقليدية التي تتمتّع بالمال والسلاح والنفوذ داخل مؤسسات الدولة.
ويمكن القول إن ثقافة الحصرية تعود بالأصل إلى عام 2002، عندما تمكّنت الأحزاب السياسية الستة المشاركة في مؤتمر لندن، وهي حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحركة الوفاق الوطني والمؤتمر الوطني العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني؛ أن تضع خارطة طريق لعراق ما بعد نظام صدام حسين، وبالشكل الذي يسمح لها الاستحواذ على الدولة بما تحتويه من مؤسسات ومنافع.
الصفقة الثانية تجسّدت في عام 2010، عندما نجحت القائمة العراقية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق، أياد علاوي، من كسر قواعد اللعبة السياسية بالبلاد، والحصول على أعلى الأصوات في الانتخابات العامة بالبلاد، وبالشكل الذي أهّلها تشكيل الحكومة، حتى عاودت النخبة الحصرية، المتمثلة بائتلاف دولة القانون الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وباقي أطراف التحالف الوطني العراقي، إلى جانب الأحزاب الكردية؛ الالتفاف على الاستحقاق الانتخابي للقائمة العراقية، والتجديد للمالكي لمرة ثانية.
أما الصفقة الثالثة فتجسّدت بعد انتخابات 2021، عندما نجح التيار الصدري الذي يقوده الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بكسر نفوذ تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، وإعادة تشكيل معادلة التوازن داخل البيت الشيعي، إلى جانب نجاحه بتشكيل تحالف ثلاثي مع السنّة والأكراد.
إلا أن النخبة الحصرية المتمثلة بأغلب القوى الشيعية، بدعم إيراني واضح، تمكّنت بالنهاية من انتزاع الاستحقاق الانتخابي للصدر، وإجباره بالنهاية على الانسحاب من العملية السياسية وتشكيل الحكومة، وهي تطمح اليوم إلى ترسيخ هذه الصفقة، عبر تشريع قانون جديد للانتخابات يضمن لها البقاء بالسلطة لمدة أطول.
ردود فعل أولية على القانون
أعلن القيادي في التيار الصدري، حاكم الزاملي، اعتراضه على تعديل قانون الانتخابات الذي يسعى الإطار التنسيقي الشيعي تمريره في مجلس النواب، مستشهدًا بمواقف سابقة لممثّل المرجعية الدينية عبد المهدي الكربلائي، حيث يقول: “لا للقائمة المغلقة، لا للدائرة الواحدة”.
أما رئيس كتلة “إشراقة كانون”، حيدر المطيري، قال خلال مؤتمر صحفي عقده مع مجموعة من النواب المستقلين في مبنى المجلس: “نعترض بشدة على التعديلات التي أُجريت على قانون انتخابات مجالس المحافظات”، واصفًا إياها بأنها “غير منسجمة مع تطلعات الشعب العراقي الساعي للتغيير”.
ورأى أن “مقترح قانون انتخابات مجالس المحافظات يكرّس استمرار وبقاء السلطة في يد جهة دون أخرى، والالتفاف على أصوات الناخبين العراقيين”، مشيرًا في الوقت عينه إلى أن “عملية دمج انتخابات مجلس النواب مع مجالس المحافظات غير مبررة”.
الأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية تحاول تطويع الواقع السياسي بشكل يحقق لها مزيدًا من الهيمنة، وهو ما تنظر إليه القوى الأخرى، وتحديدًا الصدر، بأنه يشكّل تهديدًا وجوديًّا لها
في الواقع، تخوض القوى المدنية في العراق معركة اختبار قوة مع الأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية بشأن قانون الانتخابات الخاص بمجالس المحافظات، ولا يزال القانون بحاجة إلى توافق سياسي لتمريره، فيما القوى المدنية قرّرت القيام بوقفة احتجاجية أمام بوابات المنطقة الخضراء بالضدّ من محاولات تمريره، وبدأت اللجنة القانونية البرلمانية عملية جمع تواقيع بغرض سحب القانون.
وقال عضو اللجنة، رائد المالكي، إن “قانون الانتخابات قُدّم في الجلسة السابقة بطريقة متعجّلة وفيها التفاف”، مضيفًا أن “العنوان هو تعديل قانون مجالس المحافظات، لكن في الحقيقة هو إلغاء لقانون انتخابات مجلس النواب وتحويله وفقًا لأحكام قانون المحافظات”.
ما لا شكّ فيه أنه مع إصرار الأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية على إعادة تدوير قانون الانتخابات، أصبح الواقع السياسي العراقي مفتوحًا على سيناريوهات عديدة، أبرزها التصعيد السياسي من قبل قوى تشرين وأحزاب مدنية، وقد يلتحق بهم التيار الصدري أيضًا.
فالأحزاب والكتل البرلمانية التقليدية تحاول تطويع الواقع السياسي بشكل يحقق لها مزيدًا من الهيمنة، وهو ما تنظر إليه القوى الأخرى، وتحديدًا الصدر، بأنه يشكّل تهديدًا وجوديًّا لها، في ظل أزمة سياسية معقّدة تعصف بالبلاد، بسبب تزايد أزمة الثقة بين أطراف العملية السياسية.